عباسي مدني وجبهة الإنقاذ... ونهاية التاريخ
ربيع بشاني (*)
بلا مزايدة ، نقدر في الرجل نضاله ، وإخلاصه...ولكن هذا لن نتخذه معبرا لمداراته ، أو القطع بإحكامه وأطروحاته بشأن ما يراه سببا للازمة الجزائرية ،أو ما يعتقد مطلقا أنه مسئول وحيد عما حدث من مأساة..! ، هو أستاذ الفلسفة، وعلم الاجتماع التربوي ،الأدرى باختلاف طبائع ومواقف الناس،والأجدر بعلمه أن يكون شاهد و أحسن من يوازن بين المصالح والمفاسد ، وأبعد من أن يرجح مسألة أو أطروحة ،دون نقيض لها يحمل من الحجج والبراهين، ما يدحض الموقف الأول ...
من هذا كان بالشيخ وقد أخد يعارض، ويغالب نهاية ثمانينات القرن الماضي '' النظام الماكر'' بمنظومته المقدسة في المناورة ،والمحاججة والاختراق وأخيرا القمع… أن يأخذ القضايا السياسية بحسن الاستشراف ويسعى لتجسيد برنامج وأهداف حركته الإسلامية ، بتروي وأناة ، و بما تمليه عليه أدواته العلمية ،وما يلاءم الواقع السياسي و الاجتماعي، ووفق التدرج السنني المطلوب ،والاتجاه الفلسفي ، الذي اعتنقه ، المنهج القائم على الجدل والاحتمال والتركيب( له إجازة في الفلسفة سنة 1970) أليس الطريقة الجدلية مهوى وملهم كل مفكر وفيلسوف و" سياسي " ، يراقب ،ويحلل ،يناقش ،ثم يقرر بتحفظ ،وربما تراجع و تنازل .
لكن '' الدكتور'' المحترم الذي يقول مؤخرا منذ أن حل بالدوحة أنه ( مهاجر ومجاهد في سبيل الله...من أجل مناصرة قضايا الأمة العربية والإسلامية عامة وقضية الشعب الجزائري) ، ( أنا أؤلف الكتائب لا الكتب) ، ركب رأسه وفق نظرية ميكافيلي التي هي موضع نقد الفلاسفة ابد الدهر...ومشى بخطى غريمه وزير الدفاع الأسبق الاستئصالي خالد نزار، والاثنان ومرجعهما السياسي الثعلب الايطالي ميكافيلي وبعد أن خرجا من '' السيرك السياسي'' أخدا يغردان لوحدهما، ومنذ سنوات بأسلوب استقصائي ،استئصالي والتحاكم إلى '' الأنا'' المتضخمة.
ذاك فمسببات الأزمة الدموية معروفة (انقلاب 11/01 ، يقابله انقلاب في نشاط جبهة الإنقاذ...) ولم يثيرني أو استغرب مرة في حياتي ، الأكاذيب ،والخزعبلات ،والأطروحات الزائفة، التي يسوقها من حين لأخر أقطاب انقلاب 11 جانفي، ( ضباط الجيش الفرنسي...) فالتاريخ هنا فاضح لا يرضى بأي تزييف.. ولكن موطن الغرابة تكمن في الموقف الموازي الصلب لزعيم جبهة الإنقاذ ، الملاحظ في تصريحاته منذ خروجه من السجن في جوان 2003 ، التي تضع وتكيل في مجملها أسباب الأزمة للسلطة الحاكمة ، وعدم تحمل ولو جزء من المسؤولية ، أو إحداث مرجعات في الخطاب ، لقد نسى شيخنا أن الإمام مالك رحمه الله قال( كل يؤخذ منه و يرد إلا صاحب هذا القبر و أشار إلى قبره صلى الله عليه و سلم ) ... فما بالك في الآراء والقضايا السياسية ،التي هي موضع تشابك وتعقيد وتقلب ،وتناسى أيضا أن كثير من الآيات القرآنية تحدث على العدل في القول والحكم (يأيها الذين امنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ).
بداية أخطاء المسيرة القاتلة
أولى أخطاء زعيم الجبهة الإسلامية، رفضه حين تم تأسيس جبهة الإنقاذ ،انضمام زعمات الحركة الإسلامية في الجزائر بتياراتها ومشاربها المختلفة ،كمرجعيات برصيد من العمل الإسلامي.. بل كشخصيات وفقط ،تذوب في المشروع الجديد ، ورجل مثل جاب الله، الذي اشترط عليه عباسي ،'' أن يتخلي عن تنظيمه وهياكله السابقة'' كان بإمكانه توجيه المسيرة ،ينتقد ،ويصحح ، يستشرف دون قدرة على اتهامه بالعمل ''للمصالح'' ،كما أن عباسي وشلته رفضوا الإنصات لتوجيهات رئيس الرابطة الإسلامية الشيخ سحنون الذي نصحهم بالتريث في تأسيسي مشروع سياسي، وتوسيع المشورة...
التوهم بمعصومة وسبق جبهة الإنقاذ ،ضلت تلاحق تصريحات عباسي حتى منتصف 2005 ،ففي حوار صحفي يسأل عن الطرح القائلين بأنه مع علي بلحاج مكنا التيار الاستئصالي بالصعود إلى واجهة الأحداث ،والإمساك بزمام الأمور سنة 1992 ،ينفي بشدة ويعكس الآية ،وينسب كشف هؤلاء لجبهة الإنقاذ ( ضل الاستئصالين يحكمون البلاد منذ الاستقلال ، في الخفاء بسياسة الحديد والنار وكل ما فعلوه بالشعب الجزائري والذي مازالوا يفعلونه ،ما كان ليظهروا على حقيقتهم أمام الملأ حتى جاءت الجبهة الإسلامية فكشفت النقاب عنهم وأخرجت الأفعى من جحرها حتى أصبحت سلطتهم مهددة ، وأمست نهايتهم حتمية..)
و فضلا على أن سلطة هؤلاء تقوت ، بعد 11احداث سبتمبر ''الأمريكي'' ،ولم يرحلوا بعد وان كانوا سيرحلوا طبقا لنواميس الحياة... من جهة ينفي وينكر عباسي بفلسفته هذه ، بشكل غير مباشر ، جهود الكثير من الشخصيات السياسية والفكرية، التي اصطدمت مع هؤلاء، اثناء الازمة الدموية، وساهمت بكشف هذه الزمرة وبأسمائها وممارستها خلال الفترة الدموية (مذكرات كافي ، كتابات العربي الزبيري ، المؤرخ الدكتور بلعيد رابح مذكرات لخضر بورقعة ،كتابات صحفية عديدة...) بل ويجزم البعض أن ممارسات وخطاب جبهة الإنقاذ، في بعض جوانبه هو الذي ألب واخرج الأفعى من جحرها لتلدغ لدغتها العظمى في جسد الأمة، ولو أن عباسي لم يبني سياسته الجبهة على رد الفعل والارتجال، ولم يخضع للاستفزاز المبرمج...من قبل دوائر مجهولة استدرجته للمأزق، ظاهرها كما يستشف من رواية الهاشمي سحنوني الذي يقول فيها ( كانوا يأتوه وفود وضباط من جهات مختلفة يعرضون عليه التصعيد ، ويزعمون وأنهم رهن إشارته... ) ، كما أن جبهة الإنقاذ كما يقول عضو مجلس الشورى يحي بوكليخة ( لم تتخذ المواقف الاستباقية من اتصالات بالمسئولين في كل الدوائر ورجال الدولة القدامى من الجيش والسياسيين وطمأنتهم على مشروعنا وعملنا المستقبلي ....)
أما بداية أخطاء عباسي في الواقع العملي بغض النظر عن الخطب العنترية على شاكلة (هذا الشعب سوف يأكل الدبابات) أو من قبيل قوله لبن عزوز زبدة احد مؤسسي جبهة الإنقاذ ،وقد زاره عباسي في المستشفى خلال إضراب 91 ( عندما تخرج من المستشفى تجد الدولة الإسلامية قد أقيمت..ربما ستقوم هذه الدولة قبل أن تغادر سريرك) أقول بداية أخطائه التي فتحت حمام الدم في الجزائر ..كان يوم رفض الإذعان لقرارات ،الأغلبية بمجلس شورى جبهة الإنقاذ في جوان 1991 ،الذين صوتوا على أيام معدودة للإضراب ،ورفضوا موافقة عباسي في إضراب مفتوح، وأوشكوا على عزله من رئاسة الحزب... فضلا عن عدم أخد الاستشارة الواسعة، ورأي تكتل وتشكيلات الرابطة الإسلامية... هذا لا يؤكده الجنرالات أصحاب المذكرات،أو أصحاب القرار ،بل قادة منشقون غير موالين للسلطة مند أن خرجوا من جبهة الإنقاذ ( لاحظ مذكرات الهاشمي سحنوني المنشورة في الخبر الأسبوعي 2009) و يقول بوكليخة يحي تحت عنوان قرار الإضراب العام في دراسة منشورة له ايضا 2006 ( أغلبية الإخوة يعني أعضاء مجلس الشورى كانوا رافضين لفكرة الإضراب ووجهوا كلامهم مباشر للشيخ ) ، بل أن القيادي في جبهة الانقاد عبد القادر بوخمخم الذي ضل وفيا لخط عباسي مدني يقول في حوار صحفي بمناسبة مرور عشر سنوات على إضراب الفيس بالحرف الواحد (انه كان ضد إضراب جوان 91 ، الإضراب جاء خصيصا من اجل قضية وحيدة هي قانون تقسيم الدوائر وقانون الانتخابات وكانت الأغلبية مع ثلاثة أيام ثم دفعنا إلى إضافة أيام أخر ) والعبارة الأخيرة مبهمة ...وبالمحصلة فان الإضراب المفتوح، رغم سلمية مسيراته ودقة تنظيمها، غير مدروس العواقب السياسية والامنية! ، و الذي حمل أصحابه شعار( لا عمل ولا تدريس حتى يسقط الرئيس) و( وميزته المسيرات بما حملت...) وسوف تغترف الجماعة المسلحة بعضا من هذه الأدبيات بشكل أو بآخر ( منع الدراسة سنة 1994 ، التجنيد العشوائي ،اللاءات الثلاث ) فتحت أعين النائمين في النظام الذين وجدوا أنفسهم أو فيما يتوهمون ،على مرمى حجر من محاكمات وإعدامات ، على طريقة الخميني...وكانت وسيلتهم الوحيدة لنقل ''الرعب مبكرا للطرف الأخر'' ،استعمال الذخيرة الحية، وتجاوز مقررات اتفاق الجبهة مع حكومة حمروش ،الذي التزم فيه كل طرف بتجنب اللجوء إلى العنف ... وسواء كان التخطيط من طرف جبهة الانقاذ أو قوى خفية لمصلحة ما ،أو حتى (بتحريض ضباط كان يحضر اجتماعات مجلس الشورى) فان عباسي مدني لم يكن بالسياسي الذي بمقدوره المناورة ،بالإضراب المحدود ، والتفاوض ، والتنازل ، وتطمين قلوب (أصحاب القرار) وتسجيل نقاط ثمينة ، على الذين يحكمون خلف ستار حكومة حمروش ،الذين أرسلوا قوات الأمن لتفريق المضربين في ساحة الابيار ،عقب اتفاق الحكومة والجبهة، (كما تقول جبهة الإنقاذ).
تبعا لهذا التسرع، وعدم معالجة الجرح في الوقت المناسب عبر مؤتمر استثنائي ، تجسيدا للغة عباسي الذي يقول (أن فكره قائم على الحوار والاحتكام للصندوق والتغيير السلمي) ، وتصحيح موقف وخطاب جبهة الانقاد في تلك الأيام المناقض لبرنامجها السياسي.. والذي أخد منحى تصعيدي ونبرة المغالبة فجأة بعد الانتخابات المحلية 1990 ، والذي تفطنت له مراكز التخطيط والقرار، .نورد مقطع حوار اخر أجرته مجلة ( المجلة) الصادرة في لندن يسأل عن مسؤوليته التي حملها إياه كثير من المحللين القائلين بان ''عباسي أفسح المجال داخل جبهة الانقاد لمختلف التيارات بما فيها قدماء الأفغان المتشددين الذين كانوا يعدون لتأسيس جناح و تنظيم سري في الوقت الذي كان فيه عباسي ينادي بالتغيير السلمي'' ،يجيب( ليس صحيحا وهذا الأمر لا ينبغي أن يسأل )، ثم يدخل في سرد فلسفي كعادته ممل لخطابه السياسي في الثورة وبعد الاستقلال ، وعن الظلم ... دون أن يعطي إجابة شافية عن لب وجوهر المشكلة ،عن الأفغان الذين تصدروا المسيرات ،عن الشعارات المخيفة عن الجهاد.. التي سرعان ما جسدتها جماعة الطيب الأفغاني، ومؤسسي الجيا المشبوهة... وان لم يكن لهؤلاء كأعضاء وأنصار تبعا لفكرهم التكفيري، فلم يمنع أنهم ركبوا موجة المسيرات ( زخم الشارع والمسيرات المليونية والنتائج الباهرة في الانتخابات المحلية ،حقنت السير بمزيد من مانعات التفكير والتخطيط )
على الأقل كان يجب عبر مؤتمر، الإنصات لوجهة نظر الأطراف المختلفة،و التيار السلفي الذي له باع في تأسيس الجبهة ، وبدل المسارعة في اتهامه بالعمل للمخابرات ،وهو الرعيل الأول ،وعدم تجاوزه ، لان جبهة الانقاد والقيادة الآتية من ( الاتجاه الحضاري ،ومنشقي جاب الله الإخوان الإقليميين ،والسلفية الحركية) اخطات لما عمدت إلى إحداث تغيير في المكاتب الولائية بعد الانتخابات البلدية ،حيث أبعدت التيار السلفي ، من القمة إلى الأسفل ، تبعا لمقولة عباسي ( الجبهة فيل برأس نملة) وهو ما أغاض رموزه عبد الله حموش ،كرار، سحنوني....وصبوا جام غضبهم على عباسي الذي فتح الجبهة لشخصيات يقولون أنها '' دخيلة'' كان يجب إشراك هؤلاء المؤسسين في النقاش والقضايا الهامة ، ولما كان المجلس الشورى بأغلبيته السلفية مثلا رافض للإضراب المفتوح كان يجب احترام رأيه ، ومن هنا نفهم وتبعا لشهادات سابقة... أن الانشقاق الأول الكبير الذي احدث صدم في قلب الفيس ،لم يكن سببه النظام والمخابرات بالمرة كما أشيع يومها ،وان كانت عناصر معدودة دست...ولكن الانشقاق كان سببه التباعد الفكري الهائل بين تيار السلفية العلمية ،الذي ياخد على علماء الحجاز في عدم جواز الإضراب والمسيرات والصدام مع النظام ، وبين ما يسمى التيار السلفي الحركي الذي يعارض هذا لا أكثر ولا اقل ويدعو للصدام والمناطحة.
أيضا على الأقل كان يجب على عباسي مبكرا قبل سجنه تحييد المتشددين، بالموازاة مع السلفيين ومن منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان يجب بالتوازي مع مهاجمة سياسات النظام فوق المنابر ، التحذير من المخططات الخفية ،والخطيرة لجماعة التكفير والهجرة، التي كانت تسرح وتمرح وتتبجح بفشل العمل السياسي ، وكانت تبحث عن الذريعة لاحتلال مواقع المجابهة ،وقد فتحت لها لفترة (...) حرية التحرك المبرمج ،وكانت أطراف لا تحب الخير للجزائر تعول على هذا الفصيل الشاذ ، لإحداث رجة قوية في جسد الإنقاذ والحركة الإسلامية عموما ،وهو ما حدث ، ولكن كل هذا كان غائبا عن جبهة الإنقاذ وعباسي الغارق في حلم ''الدولة الإسلامية''، وسط تيارات جد متصارعة ، ووصية عباسي مدنى قبل اعتقاله للشيخ محمد السعيد ورجام( ابقوا الجبهة في الشرعية الدستورية والسياسية) كانت تتعارض التركيبة البشرية وخطاب الجبهة الإسلامية في المساجد ،والصحافة ،والشارع، فالواقع كان أقوى من وصية في الزمن الضائع..
عقـدة ومهزلة مسمار جحا!
وثالثة الأثافي لدى عباسي في هذا السياق، إحدى أخطائه التي سيدفع الشعب ثمنها ،ولو لم يتسبب فيها عباسي بشكل مباشر ،ولكن شكلت النفسية السياسية في أذهان العامة ،وتهييج الأنصارلسنوات، بمناداته ومطالباته الملحة بها ،في كل مناسبة على غير هدى، ودون مغزى، كان يكشف بعد الذي أظهرته الأحداث بعد 11 جانفي، أن الرجل كان يحرث في الماء ، فخلال الفترة مابين تأسيس جبهة الإنقاذ ،اوخر 1989 ،إلى جوان 1991 تاريخ إلقاء القبض على قيادة الحزب ،وهو يدعو في حواراته وعلى المنابر الخطابية بإلزامية رحيل ( مسمار جحا) ،وكان يعني به الرئيس الشاذلي بن جديد ، رغم أن الرئيس لم يتم بعد عهدته الدستورية في الحكم التي كانت من المفترض أن تنتهي سنة 1993 ، ثم راح يطالب بإقالة وسقوط حكومة حمروش ،ورغم أن عباسي كان مقتنعا بالديمقراطية ،كان فيما يبدو يدعوا لانقلاب يحمله فيه الشعب إلى السلطة ،ولكن ...عباسي الرجل المجاهد ،وعضو المجلس الولائي بالعاصمة عن الآفلان زمنا ، لم يكن يعرف آخاه الشاذلي الرجل الطيب بأخلاقه، وسمته ،وسياساته ،الشاذلي لم يدعو لرحيل عباسي، بل قبل التعايش مع جبهة الانقاد في لقاء خاص جمعه مع عبد القادر حشاني رحمه الله ،بعد فوزها الساحق ، والدكتور الذي درس في بريطانيا ،لم يكن يدرك فكر الإصلاحي لرئيس الوزراء الذي فتح باب التعبير والصحافة الحرة على مصراعيه، ولم يكن أفكاره استئصالية أو اقصائية بعد سنتين نقرا في حوار مطول في أسبوعية الحقيقة لمولود حمروش يقول بالعربي الفصيح( نظام الحكم رفض تسليم أدوات التغيير للشعب، والمشروع الإسلامي ليس نقيضا للمشروع الوطني) ، لم يكن عباسي يعرف توازنات الحكم ، وفكر الشخصيات ،ورصيد الدعوة الإسلامية على مستوى المساجد ، ولم يكن حدسه قادر على التمييز بين واجهة النظام، وقد أوشكت على التعايش مع جبهة الإنقاذ، والزمر الخفية التي تلعب الدور المحوري منذ تأسيس '' المالق '' بوجدة في ترتيب أمور الحكم... بل همه الأكبر وهو يرى المسيرات وقد حشيت بالنطيحة والمتردية ،أن يسقط الشاذلي و حمروش وما بعد ؟!
وللدلالة على مثل هذه العصبية الحزبية التي أعمت كثير منا ، نورد تحليل مهم للكاتب عيسى جرادي كتبه ضمن سلسلة لتقييم العمل الحزبي الإسلامي في الجزائر يعكس الصورة المطلوبة يقول ( كان الانخراط في الصف يسحب منك القدرة على فعل أي شيء ، يتجاوز حدود التنديد بالسلطة والمطالبة برحيل رئيس الجمهورية،وعندما كانت الأخطاء تكبر وتتراكم لم يكن احد يلتفت إليها ...فالصخب لا تنجر عنه سياسة حكيمة ..الآن وقد توقف كل شيء واستفرغ النهر الجارف حمولته ..إلى أي مدى تعكس فشل سوء التقدير وسوء الاختيار ؟ ومن المسئول عما حدث؟ لا احد يستطيع أن يقول هده أخطائي ؟ لا اعتقد وجود هؤلاء الأشخاص ، الدين لم يتساءلوا إطلاقا في بداية الطريق عن الغاية والوسيلة والنتائج والتداعيات، كيف لهم أن يقفوا على حجم الخراب الذي خلفه الإعصار أن يقول شيئا ...أو يتحملوا أوزاره ، ويمضي ملامسا المشكلة ، من المشكلات العويصة التي تعترض محاولات الإصلاح في المجتمعات الإسلامية عموما أن متقدمي الصفوف ،نادرا ما يدينون أنفسهم ...إنهم يزكون أفعالهم و أفكارهم...ويحرصون على الاحتفاظ بمواقعهم المتصدرة ...وهدا أقصى ما يقدمون ....ويخلص الكاتب في سلسلته الممتعة، التي نشرت ''برسالة الاطلس'' إلى القول ( نحن لا نحاكم النيات ، لكن لماذا نغفل عن قراءة النتائج عندما تكون وخيمة ؟! . تنحى المسمار ،وبقي الجنرالات!
أخيرا حاول حمروش بكل قوة ، حل سياسي لازمة الإضراب وإبعاد الجيش ،فأبعده الجنرالات وذاق الشتائم والاتهامات ،من قبل وزير الدفاع نزار... وحاول الشاذلي التعايش مع الفيس في جلسة خاصة كانت يراقبها جهاز '' توفيق'' مع حشاني رحمه الله ، فابعد هو الأخر، ولم تتاح الفرصة ولن تتاح لعباسي أن يصل إلى الحكم ، أو كما قالها له زعيم التيار العلماني سعيد سعدي ، ببساطة لان عباسي ومند اللحظة الأولى لتأسيس الفيس كشف كل أوراقه السياسة ، لغة خطابه ، أدواته في التغيير ، طموحاته في الحكم في حضرة من تربوا ،وأسسوا لفلسفة الحكم بوجدة ، فابعدوا حكومة يوسف بن خدة وتعدوا على صلاحيات الولاية الرابعة ،واقتتلوا مع جنودها على أبواب العاصمة سنة 62 ،ثم انقلبوا على بن بلة ،وأخيرا ثبتوا أقدامهم بضباط فرنسا أثناء حكم بومدين ، '' بدولة إسلامية لا في الشتاء'' ولا في الربيع ، لان عباسي وهو رجل تربية وعلم اجتماع ، يبدو انه لم يدرس نفسية الفرد الجزائري وتقلباته ، صحيح أن العواطف الدينية طبقا لفطرته تأثر فيه وتصنع حركته لوقت ، ولكن أيضا إراقة قطرة دم في هذا المعسكر أو ذاك ،تبعا لتلك الفطرة الدينية تغير الولاءات الحزبية، و النموذج الجزائري فريد ، فلا يمكن محاكاته بالحالة الناصرية مع حركة الإخوان، حين استعدى عبد الناصر على رجال الدعوة من موسكو... ، وان كان يجب الاستفادة من التجربة، ولا يمكن موازنته بالنموذج الأفغاني كما أراد البعض ، ففي أفغانستان خلال الحكم الشيوعي في نهاية السبعينات ،كانت المساجد تهدم ، والمسلمون يلاحقون ، والمنظومة الثقافية والدينية للأمة تقتلع، وكانت الدعم السفياتي العقائدي بارز ..بينما في الجزائر ملخص المشكلة ومند الاستقلال ظلم واستبداد سياسي، وإقصاء مس جميع أطياف المجتمع بما فيها ( القادة المجاهدون) ، صحيح هناك حزب فرنسا ،ولكن لم يجرؤا على المساس بالمقدسات والقيم بشكل فاضح وعلني، لاسيما بعد وفاة هواري بومدين، ''راعي الضباط الفارين من الجيش الفرنسي...''، وخطاب سلطة الواجهة لم يكن يستعدي الشعب،في قيمه ودينه ، وان كان يراوغ ويفسد على الأرض، و الدعوة الإسلامية لاسيما بعد وفاة بومدين ولا أقول الحركة لان الحركة فيما بعد منها ما أصابها الميوعة والانبطاح ، ومنها ما أصابها التطرف والانشقاق ، فالدعوة يومها انتعشت كانت دائما مستعصية على التدجين والتضييق، ولو أن الدين يحكمون في زمام المساجد على درجة من الثقافة الجامعية بخطابهم العلمي العقلاني الذي يساير العصر ويضرب على موضع الجرح في المجتمع ،والوتر الحساس ،ويدعو للنصيحة والتقويم ،مستخدما أدوات الترغيب و الترهيب الرباني ( لا البشري) في الدنيا والآخرة حسب النصوص ،والتربية الخلقية ، والمعرفة بسنن التغيير ، والسيرة النبوية ، لنزلت السلطة بجيشها ، ومؤسساتها وعدتها عند أرجلهم كل مرة ، فالدعوة البعيدة عن النعرة الحزبية ، قادرة على تكسير قلوب الجبابرة ، طبعا ليس كل الجبابرة...
ولنا في دعوة رسولنا الكريم في مكة والمدينة وسط بيئة تحكمها قوة المشركين نماذج رائعة لقصص إسلام وخضوع هؤلاء للمنطق الرباني.....الذي تحكمه الحساسيات والو لاءات الحزبية والعشائرية فالخطاب العنتري التهديدي غير منضبط الذي لا يتماشى مع مفردات الواقع وشروط مرحلة ، يدمر ولا يبني ، فجمال عبد الناصر أول منظر لاستئصال الاسلامين ، صعد كأي زعيم إسلامي متشدد، وصعد منبر الأزهر وأزبد وارغد ( سنحارب اليهود ،سنحارب) ، ولم يمنع خطابه والجماهير الخاوية روحيا التي كانت تجري وراءه في القاهرة ،لم تمنع العجوز قوالدا مائير أن تشمت به وتسحق قواته في سيناء صيف 67 فالشعارات العاطفية شيء ، والإيمان الحقيقي، والحركة الايجابية شيء أخرا...، أي متسكع؟ ،أي مخمور؟ ،أي شيطان؟ أي أحد يريد تصفية حساباته مع النظام أن يشارك أن يقود مسيرة لتحقيق ' دولة إسلامية ' ،وحين تواجهه خراطيم المياه أو الرصاص ،عند أول محك ، وتعم الفوضى ، يخلوا له الجو لممارسة المزيد من الشغب على طريقته...
أعيد لقد رحل الشاذلي و حمروش كما أراد عباسي أول مرة ...وجاء نزار وزبانيته ،نزار الذي سيناديه عباسي في إحدى حواراته بعد خروجه من السجن '' بالأخ'' والمؤسسة العسكرية '' بالمحترمة'' بعد أن قال أن الشعب سيأكل دباباتها ، ذاك الجنرال الذي كان محل سخط شخصيات وأحزاب وطنية كجبهة التحرير، التي كان أمينها العام عبد الحميد مهري الذي اظهر وطنيته أيام المحنة الدموية ، محل سخط وتبرم عباسي وكثير من أنصاره الملتفين ،الذين كانوا بعاطفتهم وعدم قراءتهم للتاريخ ، واستشرافهم المسطح ،يرونه خصما ورجل نظام.بداية التسعينات!!، خالد نزار وقد أصبح موضع تشكيك في ولائاته الوطنية خلال السنوات الأخيرة ،وكتابات علي كافي ،وخرجة الشاذلي الذي اعتبره جاسوس... ،ومن عاصر فراره من الجيش الفرنسي اصدق دليل ... فلما المنادة برحيل الشاذلي حتى رحل ، وكان بإمكانه أن يحدث تغيير خلال سنتين 92/93 لولا لغة الفيس التي أفزعت '' أصحاب القرار''،ولما هذه الأخوة الزائفة مع الذين احرقوا البلد ، ولما هذه الدماء ؟!
ويستمر الاستئصالين خلال سنوات 92 ،93 ،94 في تحريك آلاتهم الحربية والتحريضية، فيفر من يفر، ويتسلح من يتسلح ،وتتأسس الجماعات، تتوحد ،ثم تنقسم ، فتتفرخ وتخترق ، ثم تتقاتل ،ويعلن بعضها ولائاته وكأنه يقاتل اليهود في فلسطين ، لا هدنة ،لا حوار ،لا مصالحة ، قرى بكاملها أفرغت فرارا ، وحواضر أصبحت كالجحيم ، وحين يباشر وزير الدفاع لمين زروال حواراته سنة 1994 مع قيادة الانقاد ، فيفرج عن عدد منها ، ويطلب بيان تنديد بالعنف ، يرفض الشيخ بمعية زملائه بدعوة عدم حريته ، ويعيد تكرار الموقف سنة 1995 في حوار الظل، بينما الشرع ، الذي كان يطالب عباسي السلطة الاحتكام إليه ( رسالة 06/01/1995) ينص بعيدا عن ألاعيب السياسة ، (تحقيق المصالح ودرء المفاسد) ووقف إراقة مقدمة كانت أولى المصالح ،كان فيما يبدو لعباسي أن يتنازل على الأقل ويصدر أمرا بوقف العمليات المسلحة ولو من وجانب واحد ، كان عليه أن يصدر الآمر بقوله على الأقل وبوضوح أن العمل المسلح بدا ينحرف ، حتى يستطيع جس نبض هؤلاء الذين يجابهون النظام ،وقد كفروه بعد سنة واحدة مع التسعة الرهط في البيان رقم 73 لجماعة الجيا...
هذا بدل إضاعة الوقت في تبادل رسائل ( إجراءات) مع الرئاسة والمطالبة كل مرة على رأس الإجراءات التهدئة احترام الدستور، وإعادة جبهة الإنقاذ بينما كان الوضع يتطلب بيان ليس تنديد كم تقول السلطة، ولكن على الأقل ( المطالبة بوقف العمل المسلح ، و الإقرار بعدم شرعيته ) و تم ربما تحييد جماعات وجماعات يومها، وتسجيل نقاط سياسية وأخلاقية على زمرة من النظام، في وقت مبكر ،يحفظه التاريخ لعباسي للأبد ،ولكن جماعته رفضت، وهو ما يستثمره دعاة الحل الأمني وتمكنوا من تحقيق نقاط سياسية وإعلامية، وطنية وبعد سنوات دولية ثقيلة جدا في رصيدهم.. للترويج لمشرعهم الذي اهلك الحرث والنسل...وحتى لا نتقول على جماعة عباسي فهم يعترفون بعدم استجابتهم، لمطلب الرئاسة في حوار الظل 1995 ، بتحرير بيان للتنديد بالعنف ويسوغون لذلك مبررات واهية ، فهاهو عبد القادر بوخمخم الذي أفرج عنه مع عدد من القيادات في سبتمبر 1995 كحسن نية من النظام ، ( ونقول هذا بحياد ودون تحفظ تبعا لتحليلنا حتى لا نظلم أناس قد يكونا بلا شك طيبين في السلطة) ولم يعاد اعتقال المفرج عنهم إلى اليوم رغم الوضع المتفجر يومها، بوخمخم حين سؤل عن البيان الذين رفضوا تحريره قال بصراحة ( نعم رفضنا إصدار بيان لا يخدم مصالح الأمة! ، ولا يتماشى مع مبادئنا وأخلاقنا وتوجهاتنا السياسية !، ولم تخضعنا سياسة الترهيب والترغيب ،وبالتالي الفرصة الوحيدة التي ضاعت - في رده على اتهامات مدني مزراق- هي فرصة تحويل الجبهة من حزب سياسي صاحب مشروع طموح ،إلى جبهة العنف والإجرام ،والاقتتال والتدمير والتخريب والسطو ....) وهل التنديد بالعنف والإجرام الحاصل يومها لا يخدم الأمة ؟! ، وما دام إن البعض حول الجبهة إلى جبهة للتخريب والتدمير ، ألم يكن الوقت مناسبا لجماعة عباسي التنديد بهذا ،وفق المبادئ والأخلاق والتوجهات السياسية التي يتحدث عنها بوخمخم ؟! والتي لا تفسر إلا بالنضال السلمي ،أم أن الجيا المشبوهة بقوتها يومها، كانت تمثل وتعكس هذه الأخلاق والتوجهات ؟! انه حقا موقف مبهم ، وفرصة ضائعة ، وامعية القيادة المعصومة، التي تربت أول يوم على المناطحة والمغالبة ،وهي لا تملك أدواتها ، ولا تعي نتائجها الكارثية...
..../.... (*) ربيع بشاني / كاتب مستقل
ربيع بشاني (*)
بلا مزايدة ، نقدر في الرجل نضاله ، وإخلاصه...ولكن هذا لن نتخذه معبرا لمداراته ، أو القطع بإحكامه وأطروحاته بشأن ما يراه سببا للازمة الجزائرية ،أو ما يعتقد مطلقا أنه مسئول وحيد عما حدث من مأساة..! ، هو أستاذ الفلسفة، وعلم الاجتماع التربوي ،الأدرى باختلاف طبائع ومواقف الناس،والأجدر بعلمه أن يكون شاهد و أحسن من يوازن بين المصالح والمفاسد ، وأبعد من أن يرجح مسألة أو أطروحة ،دون نقيض لها يحمل من الحجج والبراهين، ما يدحض الموقف الأول ...
من هذا كان بالشيخ وقد أخد يعارض، ويغالب نهاية ثمانينات القرن الماضي '' النظام الماكر'' بمنظومته المقدسة في المناورة ،والمحاججة والاختراق وأخيرا القمع… أن يأخذ القضايا السياسية بحسن الاستشراف ويسعى لتجسيد برنامج وأهداف حركته الإسلامية ، بتروي وأناة ، و بما تمليه عليه أدواته العلمية ،وما يلاءم الواقع السياسي و الاجتماعي، ووفق التدرج السنني المطلوب ،والاتجاه الفلسفي ، الذي اعتنقه ، المنهج القائم على الجدل والاحتمال والتركيب( له إجازة في الفلسفة سنة 1970) أليس الطريقة الجدلية مهوى وملهم كل مفكر وفيلسوف و" سياسي " ، يراقب ،ويحلل ،يناقش ،ثم يقرر بتحفظ ،وربما تراجع و تنازل .
لكن '' الدكتور'' المحترم الذي يقول مؤخرا منذ أن حل بالدوحة أنه ( مهاجر ومجاهد في سبيل الله...من أجل مناصرة قضايا الأمة العربية والإسلامية عامة وقضية الشعب الجزائري) ، ( أنا أؤلف الكتائب لا الكتب) ، ركب رأسه وفق نظرية ميكافيلي التي هي موضع نقد الفلاسفة ابد الدهر...ومشى بخطى غريمه وزير الدفاع الأسبق الاستئصالي خالد نزار، والاثنان ومرجعهما السياسي الثعلب الايطالي ميكافيلي وبعد أن خرجا من '' السيرك السياسي'' أخدا يغردان لوحدهما، ومنذ سنوات بأسلوب استقصائي ،استئصالي والتحاكم إلى '' الأنا'' المتضخمة.
ذاك فمسببات الأزمة الدموية معروفة (انقلاب 11/01 ، يقابله انقلاب في نشاط جبهة الإنقاذ...) ولم يثيرني أو استغرب مرة في حياتي ، الأكاذيب ،والخزعبلات ،والأطروحات الزائفة، التي يسوقها من حين لأخر أقطاب انقلاب 11 جانفي، ( ضباط الجيش الفرنسي...) فالتاريخ هنا فاضح لا يرضى بأي تزييف.. ولكن موطن الغرابة تكمن في الموقف الموازي الصلب لزعيم جبهة الإنقاذ ، الملاحظ في تصريحاته منذ خروجه من السجن في جوان 2003 ، التي تضع وتكيل في مجملها أسباب الأزمة للسلطة الحاكمة ، وعدم تحمل ولو جزء من المسؤولية ، أو إحداث مرجعات في الخطاب ، لقد نسى شيخنا أن الإمام مالك رحمه الله قال( كل يؤخذ منه و يرد إلا صاحب هذا القبر و أشار إلى قبره صلى الله عليه و سلم ) ... فما بالك في الآراء والقضايا السياسية ،التي هي موضع تشابك وتعقيد وتقلب ،وتناسى أيضا أن كثير من الآيات القرآنية تحدث على العدل في القول والحكم (يأيها الذين امنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ).
بداية أخطاء المسيرة القاتلة
أولى أخطاء زعيم الجبهة الإسلامية، رفضه حين تم تأسيس جبهة الإنقاذ ،انضمام زعمات الحركة الإسلامية في الجزائر بتياراتها ومشاربها المختلفة ،كمرجعيات برصيد من العمل الإسلامي.. بل كشخصيات وفقط ،تذوب في المشروع الجديد ، ورجل مثل جاب الله، الذي اشترط عليه عباسي ،'' أن يتخلي عن تنظيمه وهياكله السابقة'' كان بإمكانه توجيه المسيرة ،ينتقد ،ويصحح ، يستشرف دون قدرة على اتهامه بالعمل ''للمصالح'' ،كما أن عباسي وشلته رفضوا الإنصات لتوجيهات رئيس الرابطة الإسلامية الشيخ سحنون الذي نصحهم بالتريث في تأسيسي مشروع سياسي، وتوسيع المشورة...
التوهم بمعصومة وسبق جبهة الإنقاذ ،ضلت تلاحق تصريحات عباسي حتى منتصف 2005 ،ففي حوار صحفي يسأل عن الطرح القائلين بأنه مع علي بلحاج مكنا التيار الاستئصالي بالصعود إلى واجهة الأحداث ،والإمساك بزمام الأمور سنة 1992 ،ينفي بشدة ويعكس الآية ،وينسب كشف هؤلاء لجبهة الإنقاذ ( ضل الاستئصالين يحكمون البلاد منذ الاستقلال ، في الخفاء بسياسة الحديد والنار وكل ما فعلوه بالشعب الجزائري والذي مازالوا يفعلونه ،ما كان ليظهروا على حقيقتهم أمام الملأ حتى جاءت الجبهة الإسلامية فكشفت النقاب عنهم وأخرجت الأفعى من جحرها حتى أصبحت سلطتهم مهددة ، وأمست نهايتهم حتمية..)
و فضلا على أن سلطة هؤلاء تقوت ، بعد 11احداث سبتمبر ''الأمريكي'' ،ولم يرحلوا بعد وان كانوا سيرحلوا طبقا لنواميس الحياة... من جهة ينفي وينكر عباسي بفلسفته هذه ، بشكل غير مباشر ، جهود الكثير من الشخصيات السياسية والفكرية، التي اصطدمت مع هؤلاء، اثناء الازمة الدموية، وساهمت بكشف هذه الزمرة وبأسمائها وممارستها خلال الفترة الدموية (مذكرات كافي ، كتابات العربي الزبيري ، المؤرخ الدكتور بلعيد رابح مذكرات لخضر بورقعة ،كتابات صحفية عديدة...) بل ويجزم البعض أن ممارسات وخطاب جبهة الإنقاذ، في بعض جوانبه هو الذي ألب واخرج الأفعى من جحرها لتلدغ لدغتها العظمى في جسد الأمة، ولو أن عباسي لم يبني سياسته الجبهة على رد الفعل والارتجال، ولم يخضع للاستفزاز المبرمج...من قبل دوائر مجهولة استدرجته للمأزق، ظاهرها كما يستشف من رواية الهاشمي سحنوني الذي يقول فيها ( كانوا يأتوه وفود وضباط من جهات مختلفة يعرضون عليه التصعيد ، ويزعمون وأنهم رهن إشارته... ) ، كما أن جبهة الإنقاذ كما يقول عضو مجلس الشورى يحي بوكليخة ( لم تتخذ المواقف الاستباقية من اتصالات بالمسئولين في كل الدوائر ورجال الدولة القدامى من الجيش والسياسيين وطمأنتهم على مشروعنا وعملنا المستقبلي ....)
أما بداية أخطاء عباسي في الواقع العملي بغض النظر عن الخطب العنترية على شاكلة (هذا الشعب سوف يأكل الدبابات) أو من قبيل قوله لبن عزوز زبدة احد مؤسسي جبهة الإنقاذ ،وقد زاره عباسي في المستشفى خلال إضراب 91 ( عندما تخرج من المستشفى تجد الدولة الإسلامية قد أقيمت..ربما ستقوم هذه الدولة قبل أن تغادر سريرك) أقول بداية أخطائه التي فتحت حمام الدم في الجزائر ..كان يوم رفض الإذعان لقرارات ،الأغلبية بمجلس شورى جبهة الإنقاذ في جوان 1991 ،الذين صوتوا على أيام معدودة للإضراب ،ورفضوا موافقة عباسي في إضراب مفتوح، وأوشكوا على عزله من رئاسة الحزب... فضلا عن عدم أخد الاستشارة الواسعة، ورأي تكتل وتشكيلات الرابطة الإسلامية... هذا لا يؤكده الجنرالات أصحاب المذكرات،أو أصحاب القرار ،بل قادة منشقون غير موالين للسلطة مند أن خرجوا من جبهة الإنقاذ ( لاحظ مذكرات الهاشمي سحنوني المنشورة في الخبر الأسبوعي 2009) و يقول بوكليخة يحي تحت عنوان قرار الإضراب العام في دراسة منشورة له ايضا 2006 ( أغلبية الإخوة يعني أعضاء مجلس الشورى كانوا رافضين لفكرة الإضراب ووجهوا كلامهم مباشر للشيخ ) ، بل أن القيادي في جبهة الانقاد عبد القادر بوخمخم الذي ضل وفيا لخط عباسي مدني يقول في حوار صحفي بمناسبة مرور عشر سنوات على إضراب الفيس بالحرف الواحد (انه كان ضد إضراب جوان 91 ، الإضراب جاء خصيصا من اجل قضية وحيدة هي قانون تقسيم الدوائر وقانون الانتخابات وكانت الأغلبية مع ثلاثة أيام ثم دفعنا إلى إضافة أيام أخر ) والعبارة الأخيرة مبهمة ...وبالمحصلة فان الإضراب المفتوح، رغم سلمية مسيراته ودقة تنظيمها، غير مدروس العواقب السياسية والامنية! ، و الذي حمل أصحابه شعار( لا عمل ولا تدريس حتى يسقط الرئيس) و( وميزته المسيرات بما حملت...) وسوف تغترف الجماعة المسلحة بعضا من هذه الأدبيات بشكل أو بآخر ( منع الدراسة سنة 1994 ، التجنيد العشوائي ،اللاءات الثلاث ) فتحت أعين النائمين في النظام الذين وجدوا أنفسهم أو فيما يتوهمون ،على مرمى حجر من محاكمات وإعدامات ، على طريقة الخميني...وكانت وسيلتهم الوحيدة لنقل ''الرعب مبكرا للطرف الأخر'' ،استعمال الذخيرة الحية، وتجاوز مقررات اتفاق الجبهة مع حكومة حمروش ،الذي التزم فيه كل طرف بتجنب اللجوء إلى العنف ... وسواء كان التخطيط من طرف جبهة الانقاذ أو قوى خفية لمصلحة ما ،أو حتى (بتحريض ضباط كان يحضر اجتماعات مجلس الشورى) فان عباسي مدني لم يكن بالسياسي الذي بمقدوره المناورة ،بالإضراب المحدود ، والتفاوض ، والتنازل ، وتطمين قلوب (أصحاب القرار) وتسجيل نقاط ثمينة ، على الذين يحكمون خلف ستار حكومة حمروش ،الذين أرسلوا قوات الأمن لتفريق المضربين في ساحة الابيار ،عقب اتفاق الحكومة والجبهة، (كما تقول جبهة الإنقاذ).
تبعا لهذا التسرع، وعدم معالجة الجرح في الوقت المناسب عبر مؤتمر استثنائي ، تجسيدا للغة عباسي الذي يقول (أن فكره قائم على الحوار والاحتكام للصندوق والتغيير السلمي) ، وتصحيح موقف وخطاب جبهة الانقاد في تلك الأيام المناقض لبرنامجها السياسي.. والذي أخد منحى تصعيدي ونبرة المغالبة فجأة بعد الانتخابات المحلية 1990 ، والذي تفطنت له مراكز التخطيط والقرار، .نورد مقطع حوار اخر أجرته مجلة ( المجلة) الصادرة في لندن يسأل عن مسؤوليته التي حملها إياه كثير من المحللين القائلين بان ''عباسي أفسح المجال داخل جبهة الانقاد لمختلف التيارات بما فيها قدماء الأفغان المتشددين الذين كانوا يعدون لتأسيس جناح و تنظيم سري في الوقت الذي كان فيه عباسي ينادي بالتغيير السلمي'' ،يجيب( ليس صحيحا وهذا الأمر لا ينبغي أن يسأل )، ثم يدخل في سرد فلسفي كعادته ممل لخطابه السياسي في الثورة وبعد الاستقلال ، وعن الظلم ... دون أن يعطي إجابة شافية عن لب وجوهر المشكلة ،عن الأفغان الذين تصدروا المسيرات ،عن الشعارات المخيفة عن الجهاد.. التي سرعان ما جسدتها جماعة الطيب الأفغاني، ومؤسسي الجيا المشبوهة... وان لم يكن لهؤلاء كأعضاء وأنصار تبعا لفكرهم التكفيري، فلم يمنع أنهم ركبوا موجة المسيرات ( زخم الشارع والمسيرات المليونية والنتائج الباهرة في الانتخابات المحلية ،حقنت السير بمزيد من مانعات التفكير والتخطيط )
على الأقل كان يجب عبر مؤتمر، الإنصات لوجهة نظر الأطراف المختلفة،و التيار السلفي الذي له باع في تأسيس الجبهة ، وبدل المسارعة في اتهامه بالعمل للمخابرات ،وهو الرعيل الأول ،وعدم تجاوزه ، لان جبهة الانقاد والقيادة الآتية من ( الاتجاه الحضاري ،ومنشقي جاب الله الإخوان الإقليميين ،والسلفية الحركية) اخطات لما عمدت إلى إحداث تغيير في المكاتب الولائية بعد الانتخابات البلدية ،حيث أبعدت التيار السلفي ، من القمة إلى الأسفل ، تبعا لمقولة عباسي ( الجبهة فيل برأس نملة) وهو ما أغاض رموزه عبد الله حموش ،كرار، سحنوني....وصبوا جام غضبهم على عباسي الذي فتح الجبهة لشخصيات يقولون أنها '' دخيلة'' كان يجب إشراك هؤلاء المؤسسين في النقاش والقضايا الهامة ، ولما كان المجلس الشورى بأغلبيته السلفية مثلا رافض للإضراب المفتوح كان يجب احترام رأيه ، ومن هنا نفهم وتبعا لشهادات سابقة... أن الانشقاق الأول الكبير الذي احدث صدم في قلب الفيس ،لم يكن سببه النظام والمخابرات بالمرة كما أشيع يومها ،وان كانت عناصر معدودة دست...ولكن الانشقاق كان سببه التباعد الفكري الهائل بين تيار السلفية العلمية ،الذي ياخد على علماء الحجاز في عدم جواز الإضراب والمسيرات والصدام مع النظام ، وبين ما يسمى التيار السلفي الحركي الذي يعارض هذا لا أكثر ولا اقل ويدعو للصدام والمناطحة.
أيضا على الأقل كان يجب على عباسي مبكرا قبل سجنه تحييد المتشددين، بالموازاة مع السلفيين ومن منطلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان يجب بالتوازي مع مهاجمة سياسات النظام فوق المنابر ، التحذير من المخططات الخفية ،والخطيرة لجماعة التكفير والهجرة، التي كانت تسرح وتمرح وتتبجح بفشل العمل السياسي ، وكانت تبحث عن الذريعة لاحتلال مواقع المجابهة ،وقد فتحت لها لفترة (...) حرية التحرك المبرمج ،وكانت أطراف لا تحب الخير للجزائر تعول على هذا الفصيل الشاذ ، لإحداث رجة قوية في جسد الإنقاذ والحركة الإسلامية عموما ،وهو ما حدث ، ولكن كل هذا كان غائبا عن جبهة الإنقاذ وعباسي الغارق في حلم ''الدولة الإسلامية''، وسط تيارات جد متصارعة ، ووصية عباسي مدنى قبل اعتقاله للشيخ محمد السعيد ورجام( ابقوا الجبهة في الشرعية الدستورية والسياسية) كانت تتعارض التركيبة البشرية وخطاب الجبهة الإسلامية في المساجد ،والصحافة ،والشارع، فالواقع كان أقوى من وصية في الزمن الضائع..
عقـدة ومهزلة مسمار جحا!
وثالثة الأثافي لدى عباسي في هذا السياق، إحدى أخطائه التي سيدفع الشعب ثمنها ،ولو لم يتسبب فيها عباسي بشكل مباشر ،ولكن شكلت النفسية السياسية في أذهان العامة ،وتهييج الأنصارلسنوات، بمناداته ومطالباته الملحة بها ،في كل مناسبة على غير هدى، ودون مغزى، كان يكشف بعد الذي أظهرته الأحداث بعد 11 جانفي، أن الرجل كان يحرث في الماء ، فخلال الفترة مابين تأسيس جبهة الإنقاذ ،اوخر 1989 ،إلى جوان 1991 تاريخ إلقاء القبض على قيادة الحزب ،وهو يدعو في حواراته وعلى المنابر الخطابية بإلزامية رحيل ( مسمار جحا) ،وكان يعني به الرئيس الشاذلي بن جديد ، رغم أن الرئيس لم يتم بعد عهدته الدستورية في الحكم التي كانت من المفترض أن تنتهي سنة 1993 ، ثم راح يطالب بإقالة وسقوط حكومة حمروش ،ورغم أن عباسي كان مقتنعا بالديمقراطية ،كان فيما يبدو يدعوا لانقلاب يحمله فيه الشعب إلى السلطة ،ولكن ...عباسي الرجل المجاهد ،وعضو المجلس الولائي بالعاصمة عن الآفلان زمنا ، لم يكن يعرف آخاه الشاذلي الرجل الطيب بأخلاقه، وسمته ،وسياساته ،الشاذلي لم يدعو لرحيل عباسي، بل قبل التعايش مع جبهة الانقاد في لقاء خاص جمعه مع عبد القادر حشاني رحمه الله ،بعد فوزها الساحق ، والدكتور الذي درس في بريطانيا ،لم يكن يدرك فكر الإصلاحي لرئيس الوزراء الذي فتح باب التعبير والصحافة الحرة على مصراعيه، ولم يكن أفكاره استئصالية أو اقصائية بعد سنتين نقرا في حوار مطول في أسبوعية الحقيقة لمولود حمروش يقول بالعربي الفصيح( نظام الحكم رفض تسليم أدوات التغيير للشعب، والمشروع الإسلامي ليس نقيضا للمشروع الوطني) ، لم يكن عباسي يعرف توازنات الحكم ، وفكر الشخصيات ،ورصيد الدعوة الإسلامية على مستوى المساجد ، ولم يكن حدسه قادر على التمييز بين واجهة النظام، وقد أوشكت على التعايش مع جبهة الإنقاذ، والزمر الخفية التي تلعب الدور المحوري منذ تأسيس '' المالق '' بوجدة في ترتيب أمور الحكم... بل همه الأكبر وهو يرى المسيرات وقد حشيت بالنطيحة والمتردية ،أن يسقط الشاذلي و حمروش وما بعد ؟!
وللدلالة على مثل هذه العصبية الحزبية التي أعمت كثير منا ، نورد تحليل مهم للكاتب عيسى جرادي كتبه ضمن سلسلة لتقييم العمل الحزبي الإسلامي في الجزائر يعكس الصورة المطلوبة يقول ( كان الانخراط في الصف يسحب منك القدرة على فعل أي شيء ، يتجاوز حدود التنديد بالسلطة والمطالبة برحيل رئيس الجمهورية،وعندما كانت الأخطاء تكبر وتتراكم لم يكن احد يلتفت إليها ...فالصخب لا تنجر عنه سياسة حكيمة ..الآن وقد توقف كل شيء واستفرغ النهر الجارف حمولته ..إلى أي مدى تعكس فشل سوء التقدير وسوء الاختيار ؟ ومن المسئول عما حدث؟ لا احد يستطيع أن يقول هده أخطائي ؟ لا اعتقد وجود هؤلاء الأشخاص ، الدين لم يتساءلوا إطلاقا في بداية الطريق عن الغاية والوسيلة والنتائج والتداعيات، كيف لهم أن يقفوا على حجم الخراب الذي خلفه الإعصار أن يقول شيئا ...أو يتحملوا أوزاره ، ويمضي ملامسا المشكلة ، من المشكلات العويصة التي تعترض محاولات الإصلاح في المجتمعات الإسلامية عموما أن متقدمي الصفوف ،نادرا ما يدينون أنفسهم ...إنهم يزكون أفعالهم و أفكارهم...ويحرصون على الاحتفاظ بمواقعهم المتصدرة ...وهدا أقصى ما يقدمون ....ويخلص الكاتب في سلسلته الممتعة، التي نشرت ''برسالة الاطلس'' إلى القول ( نحن لا نحاكم النيات ، لكن لماذا نغفل عن قراءة النتائج عندما تكون وخيمة ؟! . تنحى المسمار ،وبقي الجنرالات!
أخيرا حاول حمروش بكل قوة ، حل سياسي لازمة الإضراب وإبعاد الجيش ،فأبعده الجنرالات وذاق الشتائم والاتهامات ،من قبل وزير الدفاع نزار... وحاول الشاذلي التعايش مع الفيس في جلسة خاصة كانت يراقبها جهاز '' توفيق'' مع حشاني رحمه الله ، فابعد هو الأخر، ولم تتاح الفرصة ولن تتاح لعباسي أن يصل إلى الحكم ، أو كما قالها له زعيم التيار العلماني سعيد سعدي ، ببساطة لان عباسي ومند اللحظة الأولى لتأسيس الفيس كشف كل أوراقه السياسة ، لغة خطابه ، أدواته في التغيير ، طموحاته في الحكم في حضرة من تربوا ،وأسسوا لفلسفة الحكم بوجدة ، فابعدوا حكومة يوسف بن خدة وتعدوا على صلاحيات الولاية الرابعة ،واقتتلوا مع جنودها على أبواب العاصمة سنة 62 ،ثم انقلبوا على بن بلة ،وأخيرا ثبتوا أقدامهم بضباط فرنسا أثناء حكم بومدين ، '' بدولة إسلامية لا في الشتاء'' ولا في الربيع ، لان عباسي وهو رجل تربية وعلم اجتماع ، يبدو انه لم يدرس نفسية الفرد الجزائري وتقلباته ، صحيح أن العواطف الدينية طبقا لفطرته تأثر فيه وتصنع حركته لوقت ، ولكن أيضا إراقة قطرة دم في هذا المعسكر أو ذاك ،تبعا لتلك الفطرة الدينية تغير الولاءات الحزبية، و النموذج الجزائري فريد ، فلا يمكن محاكاته بالحالة الناصرية مع حركة الإخوان، حين استعدى عبد الناصر على رجال الدعوة من موسكو... ، وان كان يجب الاستفادة من التجربة، ولا يمكن موازنته بالنموذج الأفغاني كما أراد البعض ، ففي أفغانستان خلال الحكم الشيوعي في نهاية السبعينات ،كانت المساجد تهدم ، والمسلمون يلاحقون ، والمنظومة الثقافية والدينية للأمة تقتلع، وكانت الدعم السفياتي العقائدي بارز ..بينما في الجزائر ملخص المشكلة ومند الاستقلال ظلم واستبداد سياسي، وإقصاء مس جميع أطياف المجتمع بما فيها ( القادة المجاهدون) ، صحيح هناك حزب فرنسا ،ولكن لم يجرؤا على المساس بالمقدسات والقيم بشكل فاضح وعلني، لاسيما بعد وفاة هواري بومدين، ''راعي الضباط الفارين من الجيش الفرنسي...''، وخطاب سلطة الواجهة لم يكن يستعدي الشعب،في قيمه ودينه ، وان كان يراوغ ويفسد على الأرض، و الدعوة الإسلامية لاسيما بعد وفاة بومدين ولا أقول الحركة لان الحركة فيما بعد منها ما أصابها الميوعة والانبطاح ، ومنها ما أصابها التطرف والانشقاق ، فالدعوة يومها انتعشت كانت دائما مستعصية على التدجين والتضييق، ولو أن الدين يحكمون في زمام المساجد على درجة من الثقافة الجامعية بخطابهم العلمي العقلاني الذي يساير العصر ويضرب على موضع الجرح في المجتمع ،والوتر الحساس ،ويدعو للنصيحة والتقويم ،مستخدما أدوات الترغيب و الترهيب الرباني ( لا البشري) في الدنيا والآخرة حسب النصوص ،والتربية الخلقية ، والمعرفة بسنن التغيير ، والسيرة النبوية ، لنزلت السلطة بجيشها ، ومؤسساتها وعدتها عند أرجلهم كل مرة ، فالدعوة البعيدة عن النعرة الحزبية ، قادرة على تكسير قلوب الجبابرة ، طبعا ليس كل الجبابرة...
ولنا في دعوة رسولنا الكريم في مكة والمدينة وسط بيئة تحكمها قوة المشركين نماذج رائعة لقصص إسلام وخضوع هؤلاء للمنطق الرباني.....الذي تحكمه الحساسيات والو لاءات الحزبية والعشائرية فالخطاب العنتري التهديدي غير منضبط الذي لا يتماشى مع مفردات الواقع وشروط مرحلة ، يدمر ولا يبني ، فجمال عبد الناصر أول منظر لاستئصال الاسلامين ، صعد كأي زعيم إسلامي متشدد، وصعد منبر الأزهر وأزبد وارغد ( سنحارب اليهود ،سنحارب) ، ولم يمنع خطابه والجماهير الخاوية روحيا التي كانت تجري وراءه في القاهرة ،لم تمنع العجوز قوالدا مائير أن تشمت به وتسحق قواته في سيناء صيف 67 فالشعارات العاطفية شيء ، والإيمان الحقيقي، والحركة الايجابية شيء أخرا...، أي متسكع؟ ،أي مخمور؟ ،أي شيطان؟ أي أحد يريد تصفية حساباته مع النظام أن يشارك أن يقود مسيرة لتحقيق ' دولة إسلامية ' ،وحين تواجهه خراطيم المياه أو الرصاص ،عند أول محك ، وتعم الفوضى ، يخلوا له الجو لممارسة المزيد من الشغب على طريقته...
أعيد لقد رحل الشاذلي و حمروش كما أراد عباسي أول مرة ...وجاء نزار وزبانيته ،نزار الذي سيناديه عباسي في إحدى حواراته بعد خروجه من السجن '' بالأخ'' والمؤسسة العسكرية '' بالمحترمة'' بعد أن قال أن الشعب سيأكل دباباتها ، ذاك الجنرال الذي كان محل سخط شخصيات وأحزاب وطنية كجبهة التحرير، التي كان أمينها العام عبد الحميد مهري الذي اظهر وطنيته أيام المحنة الدموية ، محل سخط وتبرم عباسي وكثير من أنصاره الملتفين ،الذين كانوا بعاطفتهم وعدم قراءتهم للتاريخ ، واستشرافهم المسطح ،يرونه خصما ورجل نظام.بداية التسعينات!!، خالد نزار وقد أصبح موضع تشكيك في ولائاته الوطنية خلال السنوات الأخيرة ،وكتابات علي كافي ،وخرجة الشاذلي الذي اعتبره جاسوس... ،ومن عاصر فراره من الجيش الفرنسي اصدق دليل ... فلما المنادة برحيل الشاذلي حتى رحل ، وكان بإمكانه أن يحدث تغيير خلال سنتين 92/93 لولا لغة الفيس التي أفزعت '' أصحاب القرار''،ولما هذه الأخوة الزائفة مع الذين احرقوا البلد ، ولما هذه الدماء ؟!
ويستمر الاستئصالين خلال سنوات 92 ،93 ،94 في تحريك آلاتهم الحربية والتحريضية، فيفر من يفر، ويتسلح من يتسلح ،وتتأسس الجماعات، تتوحد ،ثم تنقسم ، فتتفرخ وتخترق ، ثم تتقاتل ،ويعلن بعضها ولائاته وكأنه يقاتل اليهود في فلسطين ، لا هدنة ،لا حوار ،لا مصالحة ، قرى بكاملها أفرغت فرارا ، وحواضر أصبحت كالجحيم ، وحين يباشر وزير الدفاع لمين زروال حواراته سنة 1994 مع قيادة الانقاد ، فيفرج عن عدد منها ، ويطلب بيان تنديد بالعنف ، يرفض الشيخ بمعية زملائه بدعوة عدم حريته ، ويعيد تكرار الموقف سنة 1995 في حوار الظل، بينما الشرع ، الذي كان يطالب عباسي السلطة الاحتكام إليه ( رسالة 06/01/1995) ينص بعيدا عن ألاعيب السياسة ، (تحقيق المصالح ودرء المفاسد) ووقف إراقة مقدمة كانت أولى المصالح ،كان فيما يبدو لعباسي أن يتنازل على الأقل ويصدر أمرا بوقف العمليات المسلحة ولو من وجانب واحد ، كان عليه أن يصدر الآمر بقوله على الأقل وبوضوح أن العمل المسلح بدا ينحرف ، حتى يستطيع جس نبض هؤلاء الذين يجابهون النظام ،وقد كفروه بعد سنة واحدة مع التسعة الرهط في البيان رقم 73 لجماعة الجيا...
هذا بدل إضاعة الوقت في تبادل رسائل ( إجراءات) مع الرئاسة والمطالبة كل مرة على رأس الإجراءات التهدئة احترام الدستور، وإعادة جبهة الإنقاذ بينما كان الوضع يتطلب بيان ليس تنديد كم تقول السلطة، ولكن على الأقل ( المطالبة بوقف العمل المسلح ، و الإقرار بعدم شرعيته ) و تم ربما تحييد جماعات وجماعات يومها، وتسجيل نقاط سياسية وأخلاقية على زمرة من النظام، في وقت مبكر ،يحفظه التاريخ لعباسي للأبد ،ولكن جماعته رفضت، وهو ما يستثمره دعاة الحل الأمني وتمكنوا من تحقيق نقاط سياسية وإعلامية، وطنية وبعد سنوات دولية ثقيلة جدا في رصيدهم.. للترويج لمشرعهم الذي اهلك الحرث والنسل...وحتى لا نتقول على جماعة عباسي فهم يعترفون بعدم استجابتهم، لمطلب الرئاسة في حوار الظل 1995 ، بتحرير بيان للتنديد بالعنف ويسوغون لذلك مبررات واهية ، فهاهو عبد القادر بوخمخم الذي أفرج عنه مع عدد من القيادات في سبتمبر 1995 كحسن نية من النظام ، ( ونقول هذا بحياد ودون تحفظ تبعا لتحليلنا حتى لا نظلم أناس قد يكونا بلا شك طيبين في السلطة) ولم يعاد اعتقال المفرج عنهم إلى اليوم رغم الوضع المتفجر يومها، بوخمخم حين سؤل عن البيان الذين رفضوا تحريره قال بصراحة ( نعم رفضنا إصدار بيان لا يخدم مصالح الأمة! ، ولا يتماشى مع مبادئنا وأخلاقنا وتوجهاتنا السياسية !، ولم تخضعنا سياسة الترهيب والترغيب ،وبالتالي الفرصة الوحيدة التي ضاعت - في رده على اتهامات مدني مزراق- هي فرصة تحويل الجبهة من حزب سياسي صاحب مشروع طموح ،إلى جبهة العنف والإجرام ،والاقتتال والتدمير والتخريب والسطو ....) وهل التنديد بالعنف والإجرام الحاصل يومها لا يخدم الأمة ؟! ، وما دام إن البعض حول الجبهة إلى جبهة للتخريب والتدمير ، ألم يكن الوقت مناسبا لجماعة عباسي التنديد بهذا ،وفق المبادئ والأخلاق والتوجهات السياسية التي يتحدث عنها بوخمخم ؟! والتي لا تفسر إلا بالنضال السلمي ،أم أن الجيا المشبوهة بقوتها يومها، كانت تمثل وتعكس هذه الأخلاق والتوجهات ؟! انه حقا موقف مبهم ، وفرصة ضائعة ، وامعية القيادة المعصومة، التي تربت أول يوم على المناطحة والمغالبة ،وهي لا تملك أدواتها ، ولا تعي نتائجها الكارثية...
..../.... (*) ربيع بشاني / كاتب مستقل