بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، مواصلةً لما بدأناه من أحاديث عن أصول الفهم، والتي تحدد إطار دقيق لفهم المسلم، ورأينا في الأصل الأول والثاني المصدر والمرجعية للمسلم التي يقيس بها الصواب من الخطأ، والحق من الباطل واسترسلنا في الحديث إلى أن وصلنا لهذا الأصل، الأصل الخامس.
ودون مقدمات يقول هذا الأصل- نبدأ بتلاوته كما ورد في رسالة التعاليم يقول الأصل-: "ورأي الإمامِ أو نائبه فيما لا نصَّ فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بتغير الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات للمعاني، وفي العاديات الالتفات للأسرار والحكم والمقاصد".
هذا هو النص.. والحقيقة أن هذا النص ضمنًا يشير إلى معنى نردده نحن دائمًا ونقول: إن الإسلام دين الجماعة، وهذا الأصل يثبت ويوضح هذا المعنى؛ لأن الإسلام لو لم يكن دين الجماعة فما كان له إمام ولا كان له نائب، وما كانت الشريعة الإسلامية تنظم هذا الأمر تنظيمًا دقيقًا.
فكلمة ورأي الإمام أو نائبه تدل على أن الإسلام دين الجماعة لا بد أن يكون له إمام وأن يكون له أمير له مواصفات سنذكرها، وله دور يؤديه؛ ولكن الذي يهمنا في هذا الأصل أنه يتناول السياسة الشرعية المنوطة بالإمام، الإمام هنا يقصد به خليفة المسلمين أو رئيس الدولة أو نائبه ورأيه في أمور السياسة والحكم ومدى اعتبار ذلك، هذه واحدة.
أما الثانية: فيعالج الأصلُ المجالاتِ التي يعمل بها يعني في أي المجالات التي يعمل بها هذا الأمير، وقد حددها الإمام البنا فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة وفي المصالح المرسلة، في أمور ثلاثة.
وثالثًا: هل يقبل هذا الرأي التغير تبعًا للظروف والأوضاع أم هو جامد لا يلين؟ ثابت لا يتحرك؟.
رابعًا: من خلال النص لا بد أن نقف مع الشورى، وما موقف الإمام من الشورى.
أخيرًا: هل يعمل بهذا الرأي الذي يقوله الإمام في العبادات والمعاملات على حدٍّ سواء؟ أو أن بينهما فرقًا في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها..؟ كل هذه الأمور تحتاج منا إلى تبيان وتوضيح، وهذا الذي أشرت إليه أشار إليه هذا الأصل تبيانًا واضحًا محددًا.
وقبل أن نتناول أيضًا هذه الأمور نريد أن نحدد هذه التعريفات والمصطلحات التي وردت؛ لكي نتبين المقصد من استخدامها؛ لأن كل مصطلح من المصطلحات له تحديد فقهي واضح، إذا عرفه المسلم ثم تلاه حُدِّد المعنى بتحديد المصطلح نفسه، فابتداءً إذا كنَّا نتكلم عن الفقه الإسلامي فإننا سنتكلم عمَّا لا نص فيه، وما فيه وجوه عدة، والمصالح المرسلة، أمور كلها تتصل بالتشريع والفقه.
إذن لا بد أن نعرف أن الفقه الإسلامي فقه شمولي، بمعنى أنه يشمل جميع علاقات الإنسان، فهو يشمل علاقة الإنسان بربه، وحدد فقهنا هذا تحديدًا واضحًا، ودائمًا نشير نحن إليه.. نتكلم عن فقه العبادات.. يحدد فقه العبادات هذه العلاقة بين الإنسان وربه، وأيضًا علاقة الإنسان بحياته، خاصةً في مأكله ومشربه وملبسه، وما أطلقنا عليه الحلال والحرام إن عملنا المأمور وتركنا المحظور في مثل هذه الأمور.. أيضًا علاقة الإنسان بأسرته من زواج وطلاق وميراث حددها الشرع تحديدًا واضحًا، ثم علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه.
كل هذه الأمور شملها الفقه الإسلامي، وتناولها بتفصيل دقيق واضح؛ لذلك حين يتعامل المسلمون أو علماء المسلمين مع هذه القضايا منها الثابت الذي لا يتغير ولا يجوز فيه الاجتهاد؛ بل هو قطعي يؤخذ كما هو، ومنها الظني الذي يجتهد فيه ودائرة الاجتهاد هنا يدخل فيها ما يسمى بالسياسة الشرعية، حيث نجد العلماء ينظرون في دائرة الاجتهاد مراعين المصلحة؛ لأنه ليس فيها نص قطعي؛ بل فيها أمور اجتهادية، ومن فضل الله علينا أن الأمور القطعية قليلة جدًّا، والآن نتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل.
سنتكلم عن الخلاف الفقهي، وسيأتي في موضعه إن شاء الله، ودائرة المجتهد فيه ليست متروكةً كما يظن البعض، لكل إنسان يستطيع أن يُعمل عقله، قبل أن يعمل هذا العقل لا بد أن يكون مرتبًا ترتيبًا إسلاميًّا.. ثقافته إسلامية، نظرته إسلامية، علمه إسلامي، فكل إناء بما فيه ينضح.
العلمانيون- وهم يريدون تشويه الإسلام- يدَّعون إعمال العقل؛ لكن أي عقل هذا الذي يُسمح له أن يجتهد في مسائل المسلمين؟!
وضع طبيعي أن يضع العلماء شروطًا للاجتهاد، ليس أي إنسان يجتهد، ومثلما قلتُ حتى لا نطيل في هذا الأصل؛ لأنه سيأتي بشيء من التفصيل إن شاء الله؛ لكن الذي يهمنا الضوابط لمن يجتهد؛ لكي يصل لمصلحة المسلمين، لا يجتهد أي إنسان ولو كان حافظًا للأربعين النووية أو قارئًا في كتاب أصول الفقه، فنحن ننقل علمًا ولا يمكن أبدًا أن نزيد أكثر من ذلك؛ لأن أهل النظر محدَّدين عند العلماء بتحديدٍ واضحٍ.
الإمام السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أشار إلى الاجتهاد إشارةً عابرةً وضح فيها شروطًا تحتم على المجتهد أن يكون عالمًا بثلاثة عشر عِلمًا، وبعد ما عدد هذه العلوم، قال إن هناك أمرًا آخر، ألا وهو (الموهبة)، وسماها "علم الموهبة"؛ حيث قال عنها: "هي نور يقذفه الله في قلب مَن يُحبه"، فليس الأمر متروكًا لكل من هبَّ ودبَّ؛ لكي يتحدث، بل يجب على الإنسان حين يتكلم أن يحترم نفسه وعقله ودينه، ولا عيب أبدًا في أن يقول لا أعلم، وأن يرد ما أشكل عليه إلى عالِم يعلمه.
فعندما نأتي لجانب السياسة- التي سموها السياسة الشرعية- ونجد أنها مكونة من كلمتين: سياسة، وشرعية، والمقصود بالشرعية هو شرع الله الذي علمه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبالتالي بلغها الرسول للناس، فلما نتكلم عن السياسة الشرعية يكون المقصود بها أنها علاقة الفرد المسلم بدولته من جانب أو علاقة الحاكم بالمحكوم، فهذا المقصود بالسياسة الشرعية.
وكلمة شرعية- كما قلت- تعني الشريعة، والمولى- سبحانه وتعالى- أقام الشريعة على اليسر أساسًا لا العسر.. أقامها على التخفيف وليس التشديد، على رفع الحرج عن الناس، ولم يلزمهم بهذا الحرج، وقال ربنا: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقال: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وقال: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (المائدة: 6)، وقال: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).. آيات كلها تثبت رفع الحرج عن المسلمين.
ومنهج الشريعة دائمًا منهج تيسيري ييسر على الناس أمر هذا الدين؛ ولذلك من التيسير مثلاً الرخَص في مقابلة العزائم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتَى معصيته" (حديث رواه الإمام أحمد)، وحديث آخر: "إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه".
ووضع العلماء لرفع الحرج قواعد أصولية يقولون فيها: "الضرورات تبيح المحظورات"، وجعل التدرج في الأمور للوصول للأهداف خطوةً خطوةً أصلاً من أصول التشريع، ومن الخطأ أن نتعلم كيف تتعامل مع المصلحتين أيهما أكثر فائدة، ونتعود على التعامل مع المصالح، ويسقط منا في الطريق التعامل مع المفاسد في الفقه، تتعامل مع المفاسد فتختار أقلهما مضرة، يعني ارتكاب أهون الشرين وأخف الضررين، قاعدة أصولية، يتبقى أمام المسلم مفسدتان يختار أقلهما؛ لكن نحن تربينا أن نتعامل مع المصلحة، وعند ما تأتي المفسدة نقول منكر يجب إزالته، طبعًا يرجع لعدم الفقه.
والإمام ابن القيم لما قسم درجات إزالة المنكر، وقال فيه أربعة أنواع، وجاء للنوع الرابع، وقال أن يبقى هذا الإثم الذي يسبب مفسدة على ما هو عليه ولا يزال؛ لأنه إذا أزيل سينتج عنه ضرر أشد، إذن أنا مطالَب فقهيًّا أن أُبقِي الضرر، وهذا الذي لم يتدرب عليه كثير من الشباب؛ لأنه واضع في اعتباره دائمًا أن المنكر يزال، بينما الأمر ليس على ما فقهوا؛ لكن الأمر كما علمنا العلماء، وكما وضحوا هذه القاعدة: ارتكاب أهون الشرَّين وأخف الضررين، وقالوا: ندفع الضرر الأعلى بتحمل الضرر الأدنى.
وقد أجاز الشارع الحكيم للإنسان في حالة الإكراه ما لا يجوز في حالة الاختيار، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"، ووصل الأمر في القرآن إلى أن المكره قد ينطق بكلمة الكفر: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (النحل: 106) هذه قواعد أصولية وضعها الأصوليون؛ لكي ييسروا الفهم لمن أراد أن يتعلم، ويبينوا القواعد الأصولية التي تحكم الإنسان المجتهد الذي يبحث عن مصالح المسلمين.
أما معنى السياسة الذي قلنا إنه السياسة الشرعية فهو تدبير أمور المسلمين في دنياهم حسب قواعد الشرع، وينظر الفقهاء في تدبير أمور الناس في أمور دنياهم في شرائع الدين؛ ولهذا يعرِّفون الخلافة بأنها نيابة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ويسوس الدنيا بهذا الدين، وقد يقصد بكلمة السياسة وهو معنى خاصٌّ، كما يقول أستاذنا الدكتور القرضاوي، هي ما يراه الإمام أو ما يصدر عنه من الأحكام والقرارات؛ زجرًا عن فساد واقع، أو وقاية من فساد متوقع، أو علاج لوضع خاص.. هذا معنى السياسة.
وهكذا حددنا معنى السياسة الشرعية بالأمور التي وردت كما حددها العلماء، وإذا كانت هذه هي السياسة الشرعية فالذي نراه في عالمنا اليوم لا يمتُّ إلى السياسة الشرعية بشيء، عندما نتكلم عن السياسة الشرعية مثلما قلنا إذا كانت هناك مصلحة للمسلمين فالذي يحددها أهل النظر والاجتهاد، يعني نسوس الدنيا بالدين، ولا نسوس الدنيا بالدنيا، فلا تكون إذًا سياسةً شرعيةً إنما تكون.. (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ) (الشورى: 21).
والوضع الموجود عليه المسلمون وضع ليس من الإسلام في شيء، اللهم إن كان يتصل بالعبادات الفردية أو السلوك الفردي أو علاقة الإنسان بربه، أما ما يتصل بسياسة المجتمع بالدين فلا نرى منه شيئًا بعد أن عزلوا الدين عن الدنيا، وقالوا لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة..!!
قرأت نصًّا للإمام ابن القيم فأضحكني وقلت: لو كان يعيش في زماننا هذا ماذا كان يقول..!! فهو يقول عن زمانه وعلى من قبله فيصف حالهم، ويقول: "إن الحكام في عصره- في عصر ما قبل ابن القيم- استحدثوا قوانين سياسية لآرائهم بمعزل عن الشرع- وهذا الكلام يقوله لأنه ينعى على العلماء في هذا العصر أنهم أغلقوا باب الاجتهاد فجمَّدوه"، يعني أنهم لم يتركوا الشريعة بالكلية أو تركوا الدين خلف ظهورهم إنما ينعى عليهم أنهم ضيقوا على المسلمين مسائل استُحدثت فبدأ الحكام يتركونها ويبحثوا عن مصالحهم، مع أن الحكام كانوا يعتبرون كتاب الله هو الحكَم، فابن القيم يصف هذا الحال، فماذا لو اطَّلع على الحال الذي ينطبق عليه قول ربنا: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30).. ماذا كان سيقول؟!
يقول هذا الكلام؛ لأنه شعر بجمود العلماء وتعصبهم فترك الشرع لأهله، وبدأ الحكام يبجثون عن أمور أخرى منفصلة عن الدين.
والحقيقة أنه يوجد فهم عن بعض المسلمين وبعض الشباب أنه لما نتكلم في السياسة الشرعية لابد أن تكون في أمور أتى بها الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو يكون منصوصًا عليها في كتاب الله، وهذا أمر أيضًا يعتريه فهم خاطئ؛ لأننا تكلمنا عن أن الاجتهاد فيما لا نصَ فيه.
ولذلك حدث حوار بين واحد شافعي وواحد حنبلي، يقول الشافعي: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع"، فقال الحنبلي: "السياسة ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول أو نزل به وحي"، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فهذا صحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فهذا خطأ؛ أي ما يقوله الشرع لفظًا، فهذا خطأ لأنك تقيس مصالح المسلمين ولو لم ينطق بها الشرع تبحث عن المصلحة.
وسنعطي أمثلةً كثيرة في أمور لم ينطق بها الشرع؛ ولكنها صحيحة باجتهاد العلماء؛ بل إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسه فعل هذا الأمر، ونضرب مثالاً: لو أخذنا قصة تحريق المصاحف لسيدنا عثمان فإننا لا نجدها في نص؛ أي لم ينطق بها الشرع؛ لكن عند ما نجد أن سبب تحريقه المصاحف هو أن بعض الناس بدأ في عهده يكتبون المصاحف، ويدخلون فيها بعض المعاني التي يفهمونها، فاختلطت بعض المعاني بالقرآن، فجمعهم على مصحف واحد، وهو الذي نزل على الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمصاحف الأخرى أُحرقت، حتى لا يظن الناس أن المعاني التي أدخلوها على المصاحف هي من القرآن.. إذن هذه مصلحة كبرى، واجتهد للمصلحة بما يوافق الشرع.
وهذا مثل على هدي الرسول في السياسة الشرعية.. تهمة ولتكن السرقة، عندما تثبت إما بالبينة أو الأدلة الشرعية يكون فيها الحد، ماذا لو لم تنطبق القواعد على هذا السارق، وتتفاوت من واحد لآخر، فنجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تهمةٍ عاقب وفي أخرى حبسَ، فهنا المصلحة حسب تقدير الرسول- صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر مع هذا يَحبس، ومع هذا يعاقب، هذه سياسة شرعية، وعندما عاقب الرسول فإن أمارات الريبة في المعاقب أظهر وأقرب من الأول، فاختلفت درجة العقاب حسب ما رؤي من ريبة من أحدهما عن الآخر، وهذه مسألة اجتهادية وليست منصوصًا عليها.
الغل من الغنيمة، أي الذي يخفي شيئًا من الغنيمة يخفيه ويأخذه خلسةً.. فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أسقط سهمه وحرَّق متاعه، وليس هذا منصوصًا عليه؛ ولكن وجد أن هذا الأمر من المصلحة، أيضًا عند ما نقول إنه همَّ بتحريق بيوت تاركي صلاة الجمعة والجماعة وهو غير منصوص عليه.
عندما يضاعف الغرم على سارق ما لا قطع فيه، القطع إذا وصل لحد النصاب يعني ليس أي إنسان يسرق تُقطع يده، فلابد من شروط.. لا بد أن يكون مالاً مُحرزًا، ومقوَّمًا؛ له قيمة.. بلغ حد النصاب، فأن يسرق إنسان ولم تصل السرقة حدَّ النصاب فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جلد فيها ولم يقطع، في حين أن هذا غير منصوص عليه.. والأمثلة كثيرة في هذا الأمر ولو اكتفينا بالمثال الأخير، وهو أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة أو الرابعة، في حين أن شارب الخمر يُجلد، ومثلما قيست على إذا شرب هذئ، وإذا هذئ يرمي ويقذف.. إذن حد القذف ثمانون جلدة، الرسول- صلى الله عليه وسلم- قتل في شارب الخمر الذي عاد لشربها مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً، ولم يقم عليه الحد، وإن كان فيه خلاف عند العلماء أن الخمر ليس لها حدٌّ منصوص، وإن كانت بالقياس كما قلنا.
وهذا سيدنا أبو بكر في عهده حرَّق اللوطية، واعتبر أن هذا الأمر من الجرم بمكان، وسيدنا خالد بن الوليد لما كتب إليه، وقال إنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً يُنكَح كما تُنكَح المرأة، فاستشار أبو بكر أصحابه، وكان فيهم سيدنا علي، فقال: إن هذا الذنب لم تَعصِ به أمة من الأمم إلا أمة واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم، فأرى أن يُحرَّقوا بالنار، وهذا غير منصوص عليه، ولكنه أمر اجتهادي فيه مصلحة للمسلمين، كما رأى الصحابة وسيدنا علي، فأرسل أبو بكر لسيدنا خالد، وقال: حرِّقهم، وجاء من بعده عبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك وفعلوا مثله.. سيدنا عمر وقصة نصر بن حجاج لما افتُتِنت به النساء نفَاه من المدينة، هذه أمور كلها غير منصوص عليها، ولكن يجتهد العالم لمصلحة الأمة بما يراه، مستندًا إلى قواعد أصولية وفقهية.
بعض إخواننا يقول: ما دليلك، أعطني دليلاًَ من الكتاب والسنة.. إن كل هذه الأمور خارجة عن حدود الكتاب والسنة، لم ينطلق الاجتهاد إلا من هذا الأساس نفسه؛ بل إن الأمر وصل بسيدنا عمر أن اختار للناس الإفراد بالحج ولا يتمتعوا ليعتمروا في غير أشهر الحج، فيصير البيت عامرًا طوال العام، وهو اجتهاد، أما أنه ملزم أو غير ملزم فهذا موضوع آخر.
نحن نتكلم عن الاجتهاد للمصلحة، الإلزام سنتكلم عنه عندما نتكلم عن النواحي الثلاثة التي يجتهد فيها الإمام إن شاء الله؛ بل إن هذا الأمر لما قال سيدنا عمر، ونادى بالإفراد ظن الناس أنه يمنع التمتع بينما هو يدعو للأفضل.. الأولى لعمارة البيت، فتنازع هو وابن عباس والزبير، فلما اشتدوا عليه قال لهم ابن عباس: أقول لكم: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر؛ لكن هذا لم يُعِب على ذلك، ولا ذاك رمَى هذا، فهذا أدب الحوار وأدب الخلاف الموجود بين المسلمين في ذلك الزمان.
يقول ابن القيم: هذه سياسة بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة، الأمثلة التي ضربتها بقول هذه السياسة تختلف ضمانًا ومكانًا وشخصيًّا؛ لأنها مسألة فيها اجتهاد، والاجتهاد يختلف من زمان لزمان، ومن مكان لمكان، فيعطي الناس لمَّا قرؤوا هذه المقولات الآراء ظنوها حكمًا شرعيًّا ثابتًا لا يتغير، فيجب أن نفرق بين الثوابت التي لا تتغير وبين المتغير الظني المجتهَد فيه الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان.
مثال: عندما يقول لك واحد أنتم تحيروننا، مرةً تدخلون مجلس الشعب، ومرةً لا تدخلونه.. الإمام البنا طلقها طلقةً بائنةً، كان يريد أن يدخل فمنعوه فامتنع، وترك الأمر للناس.. الناس لم يفرقوا بين ثوابت الجماعة التي لا تتغير ومتغيراتها التي تتغير من زمان ومكان ومن شخص لشخص، الإمام البنا اجتهد في زمانه بقواعد الشرع والظروف الموجودة وخرج باجتهاده، من حقِّنا في زماننا أن نجتهد ونرى ظروفنا؛ لأن هذا أمرٌ متغيِّر.
دائرة الاجتهاد هذه التي هي المصلحة، والمصلحة ليست هوًى بالنفس، وإنما ترتبط بالدين ارتباطًا وثيقًا، والمصلحة لا بد أن تكون مصلحةً شرعية، وليست- كما سنرى- أن هناك مصالح مهدرة ولا قيمة لها عند المسلمين؛ لذلك مثلما قلنا عندما نرى حكمًا من الأحكام نقرأه في أي كتاب لعالِم من العلماء نفرق بين الأمور الثابتة التي لا تختلف زمانًا ومكانًا، ومثال الخمر حرام ليس فيها كلام، فهذا حكم لكن بالنسبة لشارب الخمر عندما يشرف على الموت ولم يجد إلا الخمر، فهذا له حكمه الخاص به حسب ظروفه.
فرق كبير جدًّا بين الفتوى والحكم.. الحكم ثابت والفتوى متغيرة: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ) (البقرة: 173)، فالعالِم المجتهد يجيز له شرب الخمر للضرورة للمحافظة على حياته، ويبقى الحكم على ما هو عليه وهو الحرمة، نظن أنها ثابتة عندما تقرأ حكمًا اجتهد فيه عالم يجتهد من زمان لزمان ومن مكان لآخر قد نأخذ به وقد لا نأخذ، ليس نحن؛ ولكن علماء زماننا يأخذون به أو يجتهدون حسب الظروف التي يعيشونها ويستنبطون حكمًا جديدًا حسب القواعد الشرعية لمصلحةٍ تفيدهم زمانًا ومكانًا، ولذلك حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر"؛ لأن كلاهما يعمل ويجتهد لطاعة الله، لنا في الإمام مالك ما جاء عن تحريق عمر بعض الأشياء زجرًا وردعًا فقد حرَّق قصر سعد وحانوت الخمَّار وإراقة اللبن المغشوش.
جاء الإمام مالك وخالف رأي عمر؛ لأن هذا اجتهاد؛ لكن انتبهوا من المقولة المغشوشة؛ لأن بعض المبتدئين في الفقه يقولون هم رجال ونحن رجال، كنت أعلِّق عليها وأقول: هم رجال ونحن عيال؛ لأننا عالة عليهم حتى الآن؛ لكن هم رجال ونحن رجال!! فأين نحن من علمهم؟!
فالمسائل التي ذكرنا كانت مسائل اجتهادية من سيدنا عمر وضمن المصالح المرسلة كما اعتبرها العلماء، وجاء الإمام مالك باللبن المغشوش، وقال: لماذا أسكبه؟! بدلاً من سكبه أتصدق به ويشربه الفقير؛ لأنني لو سكبته ستضيع منفعة وهو غير مخلوط بخمر، إنما مخلوط بالماء.. المجال في هذا الأمر واسع، والأمثلة كثيرة، وكلما قرأ الإنسان- خاصةً في الفقه المقارن- واطلع على آراء العلماء واختلافهم في المسألة الواحدة يجد أن هذا الفقه ثريًّا جدًّا يُصلح الزمان والمكان بحق، والإسلام أعطى بجانب التشريعات والنظم مرونةً لأبعد الحدود في أي زمان ومكان طالما وُجد أهل الاجتهاد والرأي.
والحقيقة- لضيق الوقت- سأكتفي بهذه الأمثلة لكي نصل بعد التعريف وتبيان ما هي السياسة الشرعية والأمثلة لها من عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الصحابة إلى التابعين للإمام مالك في مخالفته لاجتهادات سيدنا عمر لنقول: إن الأمر خلافي بين العلماء في اجتهادهم في المصلحة التي تعود على المسلمين بالنفع في زمانهم ومكانهم، وإذا كان للإمام أن يرى رأيه، وأن يجتهد اجتهاده فمن هو الإمام الذي نقصده..؟!
الإمام في العرف الإسلامي هو الخليفة الذي يحكم الأمة نيابةً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وقد ينوب عنه مَن يدير البلاد من الولاة يقومون بالسلطة التنفيذية، وهؤلاء أيضًا طالما أنهم أُنيبوا عن الإمام فلهم السمع والطاعة فيما أمروا به، وشرط أن يكون الأمر في معروف؛ لأنه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق، وحديث الرسول: "من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"، وطبعًا إذا كان الإسلام دينًا ودولةً فكان لا بد من إمامٍ يسوس هذا المجتمع ويدير شئونه، السياسة الشرعية التي أشرنا إليها، والحقيقة أن العلماء اجتهدوا في وضع شروط للإمام لكي نطلق عليه (إمام) أو (خليفة):
- أولها (الإسلام): (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59).
- الشرط الثاني (الذكورة): ونحن نتكلم هنا عن الولاية العامة، يعني الحاكم، أما دون ذلك فكلام كثير جدًّا، واجتهادات عند العلماء أنها تكون قاضية أو تحكم أو لا تحكم، وتكون مثل الرجل وتدلي بصوتها، وتشارك في المجالس التشريعية؛ لكن عندما نتكلم عن الذكورة نقصد بها الولاية العامة، الخليفة أو الحاكم: "فلن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" في الولاية العامة.
الأسباب كثيرة؛ حيث توجد مجالات لا يستطيع أن يقوم بها الرجل وتقوم بها المرأة خير قيام، لماذا نقسم العمل، نعترف: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك"، وأعطاها هذه المنزلة ثلاث مرات.. لماذا لم يغضب الرجال؟! فنحن نتكلم عن وظائف لها خصائص، هل من العقل بمكان أن تكون المرأة مهندسةً مدنيةً تطلع على الخشب والحديد، الله لم يفاضل بين الرجل والمرأة من حيث التقوى؛ بل إن المرأة قد تفوق الرجل قُربًا لله- سبحانه وتعالى- سيدنا جبريل نزل خصيصًا لامرأة ليبلغها السلام من الله، هي السيدة خديجة- رضي الله عنها.
الولاية العامة لا تصلح لها المرأة.. أعطيكم مثالاً: مجرد الحمل والولادة أنتم تعلمون، دعونا من النظرة الغربية التي لوثت العقل الإسلامي وتأثر بها الناس.. المساواة في أي شيء، نحن لو ساوينا الرجل بالمرأة في كل شيء سنظلمها؛ لأنها على غير طبيعتها التي فطرها الله عليها، فلما نأتي للإمامة والولاية العامة الذي يسهر بالليل ويتحسس الناس بالنهار، وينظم الجيوش.. أمور لا تقوى عليها المرأة؛ لكن هل منعها أن تشارك في الجهاد، امرأة قالت لما أشيع عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قتل في أحد.. قالت "قوموا وموتوا على ما مات عليه نبيكم"..!!
- الشرط الثالث (أن يكون عدلاً في دينه): لا يُعرَف عنه فسوق، متقيًا عارفًا بأمور السياسة والحكم، ذا دراية بمصالح الأمة.
- الشرط الأخير (أن يكون جامعًا للعلم بالأحكام الشرعية): لأنه مكلف بتنفيذها.
هذه أهم الشروط التي وضعها العلماء في إمام المسلمين وخليفتهم.. نحن قلنا: إن الإمام البنا يقول: "ورأي الإمام ونائبه"، فإذا عرفنا مَن هو الإمام نريد أن نعرف ما هو الرأي، لأن معنى الرأي ينصرف للاجتهاد العقلي غير المفيد، طبعًا ما قصد الإمام بهذا المعنى مطلقًا؛ ولكن استخدم الرأي بمعناه الشرعي، ورأى يعني أبصر بعينه في اليقظة، ورأى رؤية وربما رأى أبصر بعينه في المنام، كل هذه المعاني اللغوية لا تعنينا في شيء بقدر ما يعنينا أن رأي الإمام هنا هو الاجتهاد وإعمال العقل في استنباط حكمٍ ما، واتخاذ قرار، هذا هو معنى الرأي.
الرأي هنا هو الاجتهاد، والاجتهاد له قواعده وأصوله التي تفيد المجتمع، وبهذه الصورة يكون الرأي بعيدًا عن الهوى والظن، فالاجتهاد علم يجتهد فيه في نصوص ظنية تحتمل الاجتهاد؛ ولكن هو نفسه لا بد أن يكون عالمًا يطبق القواعد الشرعية وليس لهوًى في نفسه في مثل هذه الأمور كلها.
كان يوجد قديمًا مدرستان في الفقه، مدرسة الرأي وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة في العراق، والمدرسة الثانية مدرسة الأثر في الحجاز في المدينة وعلى رأسها عبد الله بن عمر؛ لكن قد نقرأ أحاديث وأقوالاً تذم الرأي.. إذن عندما تقرأ الأحاديث التي تذم الرأي فإنه يقصد به الهوى والظن، ولا يقصد به الاجتهاد.
فسيدنا عمر كان يقول: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يسعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم"، وسيدنا عبد الله بن مسعود قال أيضًا فيهم: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شرٌّ من الذي قبله، أما إني لا أقول: أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم".
كل هذه مقولات تذم أصحاب الرأي، ويقول سيدنا علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من عاليه"، يقول جابر بن زيد: لقيني ابن عمر فقال: يا جابر، إنك من فقهاء البصرة وتُستفتى فلا تفتينا إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية"، والإمام ابن القيم له كتاب رائع؛ وهو (أعلام الموقعين)، فمَن أراد أن يستزيد فليرجع لـ(أعلام الموقعين) لابن القيم.
والذي يدل على أن الرأي هنا هو الهوى والظن أن بعض الصحابة أنفسهم قضوا بالرأي، يعني قضوا بالاجتهاد، بقي لنا أن نفرق بين الرأي المذموم والرأي المحمود.
يقول ميمون بن مهران: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد نظر في سنة الرسول فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس هل تعلمون حكمًا فيه في كتاب الله وسنة رسوله وإلا جمع رءوس الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به وهم علماء الأمة، وكذلك كان يفعل عمر؛ ولذلك سيدنا عمر الذي ذم الرأي هو الذي كتب لأبي موسى وقال له: اعرف الأشباه والأشياء والأمثال وقس الأمور.
وكما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "يا معاذ بم تقضي؟! فقال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يحبه الله ويرضاه"، وسُئل عليٌّ عن مسيره في صفين هل كان بعهد عهده إليه رسول الله أم رأيٍ رآه، قال بل رأي رأيته.
يقول الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود إنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد فوجد قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- فاختاره لرسالته، ثم اطلع على قلوب العباد بعده فرأى أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.. والأحاديث في معنى الرأي كثيرة؛ ولهذا لا تعارض البتة بين هذه الأمور.
وحسم لنا الإمام ابن القيم هذه القضية، وقال الرأي ثلاثة: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح بلا ريب، والثالث الرأي موضع الاشتباه، فهل هو باطل بالكلية أم صحيح بالكلية هذه أمور أشار إليها السلف الصالح، واستعملوا كلمة الرأي بهذه الوجوه الثلاثة.
ولو أمسكنا بالرأي الباطل نجده أنواعًا: نوع يكون مخالفًا للدين بمخالفته النص، أو الكلام في الدين بالظن والخرص، أو التخمين أو الرأي المتضمن التعطيل، مثل المعطلة الذين يعطلون أسماء الله، أو الرأي الذي أحدث البدع وغيَّر من السنن، وهذه كلها آراء طبعًا اتفق السلف الصالح على ذمها وإخراجها من الدين.
أضاف بعض العلماء نوعًا آخر من الرأي المذموم وهو ما سموه في التاريخ (الأرئيتيين) يسأل عن أشياء لم تقع بعد، ويقول: أرأيت إن حدث كذا فماذا يكون الحكم؟! أن تسكت وتمسك لسانكلاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101)، وعندما تنزل النازلة يجتهد فيها العلماء؛ ولكن قبل نزولها لا دخل لك فيها، ومكروه أن تتكلم فيها، وذم العلماء هذا النوع من الآراء؛ لدرجة أن مسروق- من التابعين- يقول سألت أبيَّ بنَ كعب في شيء، فقال: أكان هذا، أي وقع وحدث؟! قلت: لا، فقال فأجمنا حتى يكون، يعني اتركنا، يعني نطبق الأحكام التي نزلت ولا تسألني عن الذي لم ينزل، فإذا كان اجتهدت لك رأينا، وعن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن.
وتسمَّى هذه القضايا المعضلات أو الأغلوطات، وسميت بذلك لأنك تسأل عن أشياء لم تقع بعد تريد أن ترى فيها رأينا، وهذه لون من ألوان المغالطة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك؛ لكن الرأي المحمود رأي الصحابة رضوان الله عليهم، والرأي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة فيها ويقرها، ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها.. يقول ابن المبارك: "ليكن ما تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث"، وهذا هو الفهم الذي يختص به الله من يشاء من عباده.. وموضوع التفسير بالذات موضوع يتصدى له العلماء وقواعد التفسير اللغوي بالذات مهمة جدًّا عند المفسرين؛ ولذلك لا بد أن يكون المجتهد على علم بدلالة الألفاظ والعبارات والمفاهيم وغيرها، ومن أراد أن يستزيد فليقرأ أي كتاب من أصول الفقه يتكلم عن مفهوم العبارة والإشارة والدلالة والمخالفة وغيرها.
ولا بد لمن يتصدى للاجتهاد أو التفسير أن يكون عالمًا بمثل هذه الأمور، يعني مثلاً لو أننا نقول: إننا نَقَلة علم، هو حقيقة، وليس تواضعًا، ولا يعيبنا ذلك، ونسأل الله أن نكون من الذين وفقهم الله في النقل؛ لكن لكم أن تتصوروا كما تنقسم العبارات والألفاظ من ظهور معناها لذلك قسموا الأمر إلى الظاهر والنص والمفسر والمحكم.. إلخ.. والخلاصة نجد أن الرأي إما رأي مجرد لا دليل عليه ويخضع للتخمين، وحين سُئل أبو بكر عن مسألة قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأي.. في رأيه في الكلالة لما سُئل عن الكلالة، وهو الذي يموت وليس له أصل ولا فرع.
وأما الآراء المحمودة الرأي الذي اجتمعت عليه الأمة وتلقَّاها الخلف من السلف بالقبول واجتهاد الرأي في ضوء الشرع يقول عمر لأبي موسى: الفهم الفهم لما أدلي إليك وما ورد عليك وليس في قرآن ولا سنة قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق.. يعني اجتهاد.
كل هذه المقدمة لكي نصل للأمور الثلاثة التي أشار إليها الإمام البنَّا في نصه في الأصل الخامس وهم أنواع ثلاثة: "ما لا نص فيه، وما تعددت فيه الأوجه والمصالح المرسلة" إذن هذا مجال، حدَّد الإمام البنا المجال الذي يجتهد فيه الإمام هذه المجالات الثلاثة.
ما لا نص فيه يسميه العلماء منطقة العفو؛ لأنها دلت على مرونة الشريعة الإسلامية، روى أبو داود عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ما أحله الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو".. لم يحدد له حكم ثابت؛ لأنه ربما كان يسبب حرجًا للمسلمين، لأنه من رحمة الله أن جعل النصوص الظنية فيما يتصل بتنظيم حياة البشر في داخل مجتمعهم؛ لأن هذا هو المتغير زمانًا ومكانًا.. فيه قواعد لكنها مرنةً، وفي رواية "فهو عافية من الله، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا" ثم قرأ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64) يقول ابن عباس: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء فبعث الله نبيه، وأنزل كتابًا وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: 145).
يؤكد ابن عباس مع حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين الرسول أن المولى حدَّ حدودًا.. وعندما نقول حدودًا يعني قطعية، لا تتعدى حدود الله يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
إذًا ما لم ينص عليه يبقى منطقة العفو يعني منطقة الاجتهاد بقواعد الشرع.. لا شك أننا هنا سنقول من هؤلاء الذين يستطيعون أن ينظروا في المسألة التي لا نص فيها، ربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى :38) (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، وهنا ستدور في الخواطر أسئلةٌ، من هم الذين يستشارون؟ كيف يختارون؟ وفيما يكون مشاورتهم؟ وما الحكم إذا اختلفوا فيما بينهم أو اختلفوا مع ولي الأمر؟ وهل الشورى ملزمة أو معلمة؟ سندخل في قضية الشورى، والواقع أننا عندما نقول الشورى إذن سنعرف أن التشاور هنا فيما لا نصَّ فيه، يعني المجتهَد فيه.
هل ما فيه النص المحكم فيه شورى؟! لا شورى في القطعي، الشورى في الأمور الظنية المجتهَد فيها وسوف نقف عند هذا الجزء قليلاً.. طبعًا أهل الحل والعقد هم أهل الشورى، الذين يختلفون تبعًا للمسألة، أي لو أنَّ المسألة فقهيةٌ صرفةٌ إذن سيكونون فقهاء، ولا يشترك في الشورى إنسان يجهل إسلامه أو يجهل الأحكام الشرعية، ونقول له "تعالَ نشاورك"؛ لذلك كانت الصورة من الانتخابات لغاية من المستويات حتى نصل إلى مستوى أهل الحل والعقد، هؤلاء ينتخبون بصفات معينة، طبعًا سواء أكان بالاختيار أو بالانتخاب.
هذه سياسة شرعية أيضًا تختلف زمانًا ومكانًا، يُختارون ويُنتخبون حسب ما يُتفق على ذلك؛ لكن المهم في الأمر أن اتخاذ قرار الشورى بالأغلبية يكون ملزمًا، ونحن اخترنا الشورى الملزمة وبالذات في الحركة، أما ما يتصل بالحركة في العبادة فكل واحد وشأنه.. الذي يصلي بمذهب مالك، بمذهب الشافعي.. إلخ فيما يتصل بعباداته وعلاقته بالله- سبحانه وتعالى- هو وشأنه.
هذا أمر لا شك يتصل بسياسة الجماعة وحركتها، فكان لابد أن يُحسم الأمر في الشورى الملزمة وليست شورى معلمة؛ لأن الشورى المعلمة لن توصلنا إلى قرار يعني هب أننا نعرض هذا الأمر وثلاثة أرباع الموجودين قالوا بالشورى الملزمة وربع قال بالشورى المعلِمة، وكل واحد قال إن له اختيارَه الفقهي، كيف نحسم المسألة وتبقى القضية كما هي ندخل أم لا؟
إذا كان كل واحد يلتزم برأيه الذي التزم به وهو صحيح من الناحية الفقهية؛ لأن الشورى مختلف فيها بين العلماء، منهم من قال ملزمة، ومنهم من قال معلمة فهي خلافية؛ لكن عندما تأتي الجماعة وتختار رأيًّا أو وجهًا من وجوه الفقه يتصل بحركتها إذن لابد للأفراد أن ينزلوا على هذا الرأي حسمًا للخلاف لا ينفع أن تقول إن الشورى ملزمة، ويأتي واحد ويقول هذا أمر فقهي وأنا آخذ بالرأي الآخر؛ لأنه لا يمكن أن تحسم الأمور ولا يمكن أن تسير الجماعة بخطواتها؛ وإلا فمن يحسم الخلاف؟ نحن نقول لو كان العدد واحدًا يرجح الذي فيه كفة الإمام أو كفة الأمير وترجح الكفة به، إذًا نحن أمام هذا الوجه الذي لا نص فيه، يحسم كما قلنا بالشورى.
الوجه الثاني ما يحتمل وجوهًا عدة يعني الشريعة تركت للمسلم أن يختار أمرين والاثنان موجودان في الفقه، يعني كفارة اليمين فيها إما الصيام أو الإطعام.. مثال معاملة الأسرى في الحرب فيها المن أو الفداء أو الاسترقاق أو القتل أو الحرية، اختيار المصلحة متروكة للإمام ليختار هذا الوجه في الأسرى، هل يا تُرى يمن عليهم ولا يفتدي ولا يقتل المجرم فيهم..؟!
وإذا كانت الشورى ملزمةً فعليه إذن أن يجمع أهل الشورى ويقبلوا الأمر ويختاروا وجهًا من الوجوه لمصلحة الأمة أو الدولة.. فمثلاً يمنُّ في حالة قوة المسلمين حتى يظهر حسن أخلاق المسلمين ورحمتهم بالأسرى يقوم يمن عليهم، وهم ليسوا في حاجة لحبس هؤلاء الأسرى لعل الله أن يشرح صدورهم ويشعروا بأخلاق الإسلام، ويقبل منهم الفداء إذا كان المسلمون فقراء ويحتاجون لمال يتقووا به فيقبل الفداء، ويقتل لو كان فيهم عتاةٌ مثلما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- وحدد أشخاصًا بعينها، وقال: اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فهم مجرمو حرب وينبغي التخلص منهم، وهكذا نرى التعدد في أوجه الاجتهاد وللإمام أن يختار ما فيه مصلحة مجتمعه ذلك الوقت.
قصة أرض السواد في العراق عندما فتح سيدنا عمر العراق ومعلوم أن الحكم الشرعي هو أن الغنائم توزع على المحاربين المجاهدين فلما فتحوا العراق كان هناك أرضٌ تسمى أرض السواد أرض زراعية ضخمة فاجتهد سيدنا عمر وقال: أنا لو وزعتها القوة الاقتصادية التي ستعود على المسلمين تضعف، فلماذا لا أبقيها وتستثمر لصالح المسلمين فهنا اجتهد.. تكلمنا عن ما لا نص فيه، والأوجه المتعددة وضربنا مثالاً بالأرض المفتوحة التي وقفها سيدنا عمر للمسلمين.
المصالح المرسلة، وهو الأمر الثالث الذي تكلم فيه الإمام البنا على رأي الإمام، كلمة المصالح المرسلة، وهي مقسَّمة لقسمين: المصالح، والمرسلة.
فما هي المصلحة؟! هي كل ما فيه صلاح، ونفعٌ للخلق في دنياهم ودينهم، في معاشهم ومعادهم، سواء كانت فردية أو جماعية، مادية أو معنوية، آنية أو مستقبلية، مطلقة أم مقيدة أي التي لم يدل دليل خاص من نصوص الشرع على اعتبارها أو إلغائها.
هناك مصلحة معتبرة نصَّ عليها الشارع وهي معروفة، وهناك مصلحة مهدرة، المصلحة المرسلة التي ليس فيها نص بالاعتبار أو الإلغاء، وهذه أدنى مراتب المصالح؛ لأنها أعلى رتب المصالح التي شهد لها الشرع بالاعتبار لا شك في ذلك، ومن هنا اختلف الفقهاء في الأخذ بها كدليل شرعي، وأكبر الفقهاء أخذ بها الإمام مالك؛ لأن المصالح المرسلة ضمن الأدلة الشرعية عند بعض العلماء، وبعض العلماء لا يعتبرونها ضمن الأدلة والمصالح حتى تبقى الأمور واضحة.
عندنا المصالح لها درجات ثلاث: مصلحة معتبرة- مصلحة مهدرة- مصلحة مرسلة.
المصلحة المعتبرة: كل أمر من الأمور التي نص عليها الشارع الحكيم بحرمتها، فعندما نقول كل ما أُسكر من مشروب فهو خمر فيكون هذا من المصالح المعتبرة، أن أحرم الفودكا لأنها واضح فيها الحرمة، وحرمت لحفظ العقل مما يصيبه.
الزواج في ذاته مصلحة معتبرة؛ لأنه فيه نص، والشارع الحكيم اعتبر هذه المصلحة بنصوص والكثير من الأمور كالبيع والشراء وكل ما هو مأمور من الله ومحظور من الشارع الحكيم ففيه مصلحة للعباد، الله لما قدم الرسول لأهل الكتاب قال: (النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).
فكل أمر فيه تحقيق هذه المصالح فهي مصالح معتبرة؛ ولذلك هنا المصلحة مقصود منها المحافظة على مقصود الشرع الحكيم، يعني المصلحة المعتبرة هي المصلحة التي تحافظ على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق عدَّدها العلماء، وقالوا: هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي تسمى المصالح الضرورية، الضروريات الخمس.. إذن كل مصلحة يقصد منها الشارع الحكيم المحافظة على هذه الخمس تكون مصلحةً معتبرة، لا شك في ذلك.
وكل أمر فيه مفسدة لهذه الأمور لا بد أن يدفعها الشارع الحكيم أي أمر من هذه الأمور تفسد الدين أو النسل أو المال أو العقل أو النفس فهي مصلحة غير معتبرة عند الشارع الحكيم؛ ولذلك في هذه الضرورات نجد أن المولى أوجبَ القصاص في قتل الكافر وعقوبة المبتدع وإيجاب القصاص في حد شرب الخمر؛ كي يحافظ على العقل والدين.
والدرجة التي تليها المصالح الحاجية التي توسع على المكلفين وترفع الضيق والحرج عنهم مثل رخصة السفر، فهذه من الحاجيات وليست من الضرورات.
المصالح التحسينية: كل ما يرجع إلى التحسين والتزين، مثل ستر العورة، وآداب الأكل، والنوافل، والمشي، وأي أمر يتصل بالعادات والمعاملات من نواحيها الخلقية والتعبدية.. هذا بالنسبة للمصالح المعتبرة.
وعكسها المصالح المهدرة التي لا تعود على الخلق بالنفع مطلقً، والتي أعطاها الشرع الحكيم درجة الإهدار؛ يعني لا يعمل بها مثل البلد الذي أجاز الفطر في رمضان لزيادة الإنتاج، وقال عندما يصوم الناس فإنهم يتكاسلون، ونحن في حاجة للقوة، فهذه تسمى مصلحة مهدرة، أي إن كان الذي قالها مجنونًا فعلى الذي يسمع أن يكون عاقلاً.
مثل الذي قال في أمريكا- من حوالي30 سنة- نصلي الجمعة يوم الأحد، وذلك يوم الإجازة وجَمع الناس يوم الأحد وخطب الخطيب الجمعة يوم الأحد، ظاهرها إحياءٌُ لفريضة؛ لكن لأنها اصطدمت بنص يكون اسمها مصلحة مهدرة لا يعتبرها بأي حال.
مثل الحاكم الذي عدَّد صلاة الجمعة في بلده يعني صلاة الجمعة الساعة الواحدة، وجماعة تصلي الساعة الثانية، وجماعة.. إلخ، وكل هذا في تونس الخضراء، هذه مصالح مهدرة.
لماذا الظُلم في الميراث مثلما يأخذ الرجل تأخذ المرأة.. هذا ظلم للمرأة أن تأخذ نصف الرجل، فصاحب هذا الرأي الجالس على مؤتمر بكين أرحم من خالقها تعالى الله عن ذلك..!!
قصة الخليفة حرص على المسلمين أنهم يسمعوا خطبة الجمعة فقال الناس تصلي العيد وتنصرف، ستكون خطبة العيد مثل خطبة الجمعة نخطب الأول وبعد ذلك نصلي.. والرسول- صلى الله عليه وسلم- قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وجاء في الأثر: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"، وليس هناك كلام في مثل هذه الأمور بأي حال من الأحوال.
وأمثلة كثيرة في مجتمعنا ليست مصالح مهدرة فقط بل مصالح قذرة منحطة سافلة تصطدم بالفطرة مثل مؤتمر بكين، وأنا كنت في زيارة لإحدى الولايات الأمريكية من خمس أو ست سنوات والأخ الذي استقبلني قال لي جيت اليوم فيه زواج رجلين من بعض، وأول مرة تحدث في الكنيسة، واعترفت الولاية بهذا الزواج زواج المتماثلين الذي يعرضونه في مؤتمر بكين.. إن ربنا- سبحانه وتعالى- ربط الفساد بتقطيع الأرحام: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد: 22)، فما بالنا بهذه المصائب.. نحن عندنا في بعض البلاد في مصر مثل إدكو ورشيد يحرمون ميراث البنت ولا يعطون للبنت ميراثًا، ويقولون ستعطي للغريب، هذه مصالح مهدرة.
ومن المصائب السوداء في الغرب والتي يريدون أن يوصلوها لنا أن الوصية جائزة عندنا طالما أنها التزمت بالأمور الشرعية، كالذي يوصي بأمواله بعد موته للكلب.. حدث في أمريكا أن رجلاً أوصى بماله لكلبه بعد موته؛ لأنه مثله بالضبط لا فرق؛ لكن عند المسلمين لا قيمة لهذا الأمر بالكلية، والقانون الروماني كان يجيز للدائن استرقاق المدين إذا لم يدفع، فأمثلة المصالح المهدرة لا تعد ولا تحصى؛ ومهدرة لأنها اصطدمت بقاعدة شرعية في كتاب الله أو سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم.
الغريب في الأمر أن هناك أمرين قرأتهما: أمر قديم، وأمر حديث، الأمر القديم أن القانون الإنجليزي والأمريكي كان لا يورِّث البنت ويعطي المال للابن الأكبر، أمريكا بعد المصائب التي مرت بها في مثل هذه الأمور أخذت بنظام الشريعة الإسلامية في الميراث سنة 1925م، ورجعت وقالت لا يوجد أحسن من هذا الأسلوب، ولو أنها لم تؤمن بما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم: (وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (النور: 49).
الأمر الحديث خاص بالربا- اللهم سامح من جعل الفائدة حلالاً في البنوك- هذه مصالح مهدرة.. الأمر الوحيد الذي قال فيه الله: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة: 279).. الاقتصاديون الأمريكيون يقولون: كيف نقضي على التضخم الموجود والمصيبة المقبلين عليها في اقتصادنا؟ لن يصلح الأمر إلا إذا كانت الفائدة صفرًا، إذن الإسلام قال لا توجد فائدة إما أن تضارب بمالك وتشتغل به وتدخله دورة المال لينموَ الاقتصاد في المجتمع وتعمل الأيدي العاملة وتنتج لا أن تشغل مالاً بمال، هذه كلها مصالح مهدرة لا قيمة لها، أو يحل الخمر والنساء، لا يجعلها امرأة إعلان، أو للسياحة، وتستخدم المرأة من أجل أن يزيد الدخل القومي!!
المصلحة الثالثة وهي المصالح المرسلة: وهي التي أرسلها الشارع فلم ينص على اعتبارها أو إلغائها، مثل جمع أبو بكر للمصحف من أكتاف العظم ومن سعف النخيل وغيرها من أماكن جمع القرآن، هذه ليس فيها نص لدرجة أنه حدث خلاف بين سيدنا عمر وسيدنا أبي بكر فيقول حتى شرح الله صدري لما شرح له صدر أبي بكر، هذه مصلحة مرسلة.
حينما تقول الدولة سنزرع كن
ودون مقدمات يقول هذا الأصل- نبدأ بتلاوته كما ورد في رسالة التعاليم يقول الأصل-: "ورأي الإمامِ أو نائبه فيما لا نصَّ فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بتغير الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات للمعاني، وفي العاديات الالتفات للأسرار والحكم والمقاصد".
هذا هو النص.. والحقيقة أن هذا النص ضمنًا يشير إلى معنى نردده نحن دائمًا ونقول: إن الإسلام دين الجماعة، وهذا الأصل يثبت ويوضح هذا المعنى؛ لأن الإسلام لو لم يكن دين الجماعة فما كان له إمام ولا كان له نائب، وما كانت الشريعة الإسلامية تنظم هذا الأمر تنظيمًا دقيقًا.
فكلمة ورأي الإمام أو نائبه تدل على أن الإسلام دين الجماعة لا بد أن يكون له إمام وأن يكون له أمير له مواصفات سنذكرها، وله دور يؤديه؛ ولكن الذي يهمنا في هذا الأصل أنه يتناول السياسة الشرعية المنوطة بالإمام، الإمام هنا يقصد به خليفة المسلمين أو رئيس الدولة أو نائبه ورأيه في أمور السياسة والحكم ومدى اعتبار ذلك، هذه واحدة.
أما الثانية: فيعالج الأصلُ المجالاتِ التي يعمل بها يعني في أي المجالات التي يعمل بها هذا الأمير، وقد حددها الإمام البنا فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة وفي المصالح المرسلة، في أمور ثلاثة.
وثالثًا: هل يقبل هذا الرأي التغير تبعًا للظروف والأوضاع أم هو جامد لا يلين؟ ثابت لا يتحرك؟.
رابعًا: من خلال النص لا بد أن نقف مع الشورى، وما موقف الإمام من الشورى.
أخيرًا: هل يعمل بهذا الرأي الذي يقوله الإمام في العبادات والمعاملات على حدٍّ سواء؟ أو أن بينهما فرقًا في النظر إلى المقاصد والعلل أو عدم النظر إليها..؟ كل هذه الأمور تحتاج منا إلى تبيان وتوضيح، وهذا الذي أشرت إليه أشار إليه هذا الأصل تبيانًا واضحًا محددًا.
وقبل أن نتناول أيضًا هذه الأمور نريد أن نحدد هذه التعريفات والمصطلحات التي وردت؛ لكي نتبين المقصد من استخدامها؛ لأن كل مصطلح من المصطلحات له تحديد فقهي واضح، إذا عرفه المسلم ثم تلاه حُدِّد المعنى بتحديد المصطلح نفسه، فابتداءً إذا كنَّا نتكلم عن الفقه الإسلامي فإننا سنتكلم عمَّا لا نص فيه، وما فيه وجوه عدة، والمصالح المرسلة، أمور كلها تتصل بالتشريع والفقه.
إذن لا بد أن نعرف أن الفقه الإسلامي فقه شمولي، بمعنى أنه يشمل جميع علاقات الإنسان، فهو يشمل علاقة الإنسان بربه، وحدد فقهنا هذا تحديدًا واضحًا، ودائمًا نشير نحن إليه.. نتكلم عن فقه العبادات.. يحدد فقه العبادات هذه العلاقة بين الإنسان وربه، وأيضًا علاقة الإنسان بحياته، خاصةً في مأكله ومشربه وملبسه، وما أطلقنا عليه الحلال والحرام إن عملنا المأمور وتركنا المحظور في مثل هذه الأمور.. أيضًا علاقة الإنسان بأسرته من زواج وطلاق وميراث حددها الشرع تحديدًا واضحًا، ثم علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه.
كل هذه الأمور شملها الفقه الإسلامي، وتناولها بتفصيل دقيق واضح؛ لذلك حين يتعامل المسلمون أو علماء المسلمين مع هذه القضايا منها الثابت الذي لا يتغير ولا يجوز فيه الاجتهاد؛ بل هو قطعي يؤخذ كما هو، ومنها الظني الذي يجتهد فيه ودائرة الاجتهاد هنا يدخل فيها ما يسمى بالسياسة الشرعية، حيث نجد العلماء ينظرون في دائرة الاجتهاد مراعين المصلحة؛ لأنه ليس فيها نص قطعي؛ بل فيها أمور اجتهادية، ومن فضل الله علينا أن الأمور القطعية قليلة جدًّا، والآن نتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل.
سنتكلم عن الخلاف الفقهي، وسيأتي في موضعه إن شاء الله، ودائرة المجتهد فيه ليست متروكةً كما يظن البعض، لكل إنسان يستطيع أن يُعمل عقله، قبل أن يعمل هذا العقل لا بد أن يكون مرتبًا ترتيبًا إسلاميًّا.. ثقافته إسلامية، نظرته إسلامية، علمه إسلامي، فكل إناء بما فيه ينضح.
العلمانيون- وهم يريدون تشويه الإسلام- يدَّعون إعمال العقل؛ لكن أي عقل هذا الذي يُسمح له أن يجتهد في مسائل المسلمين؟!
وضع طبيعي أن يضع العلماء شروطًا للاجتهاد، ليس أي إنسان يجتهد، ومثلما قلتُ حتى لا نطيل في هذا الأصل؛ لأنه سيأتي بشيء من التفصيل إن شاء الله؛ لكن الذي يهمنا الضوابط لمن يجتهد؛ لكي يصل لمصلحة المسلمين، لا يجتهد أي إنسان ولو كان حافظًا للأربعين النووية أو قارئًا في كتاب أصول الفقه، فنحن ننقل علمًا ولا يمكن أبدًا أن نزيد أكثر من ذلك؛ لأن أهل النظر محدَّدين عند العلماء بتحديدٍ واضحٍ.
الإمام السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) أشار إلى الاجتهاد إشارةً عابرةً وضح فيها شروطًا تحتم على المجتهد أن يكون عالمًا بثلاثة عشر عِلمًا، وبعد ما عدد هذه العلوم، قال إن هناك أمرًا آخر، ألا وهو (الموهبة)، وسماها "علم الموهبة"؛ حيث قال عنها: "هي نور يقذفه الله في قلب مَن يُحبه"، فليس الأمر متروكًا لكل من هبَّ ودبَّ؛ لكي يتحدث، بل يجب على الإنسان حين يتكلم أن يحترم نفسه وعقله ودينه، ولا عيب أبدًا في أن يقول لا أعلم، وأن يرد ما أشكل عليه إلى عالِم يعلمه.
فعندما نأتي لجانب السياسة- التي سموها السياسة الشرعية- ونجد أنها مكونة من كلمتين: سياسة، وشرعية، والمقصود بالشرعية هو شرع الله الذي علمه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبالتالي بلغها الرسول للناس، فلما نتكلم عن السياسة الشرعية يكون المقصود بها أنها علاقة الفرد المسلم بدولته من جانب أو علاقة الحاكم بالمحكوم، فهذا المقصود بالسياسة الشرعية.
وكلمة شرعية- كما قلت- تعني الشريعة، والمولى- سبحانه وتعالى- أقام الشريعة على اليسر أساسًا لا العسر.. أقامها على التخفيف وليس التشديد، على رفع الحرج عن الناس، ولم يلزمهم بهذا الحرج، وقال ربنا: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقال: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وقال: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (المائدة: 6)، وقال: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).. آيات كلها تثبت رفع الحرج عن المسلمين.
ومنهج الشريعة دائمًا منهج تيسيري ييسر على الناس أمر هذا الدين؛ ولذلك من التيسير مثلاً الرخَص في مقابلة العزائم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتَى معصيته" (حديث رواه الإمام أحمد)، وحديث آخر: "إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه".
ووضع العلماء لرفع الحرج قواعد أصولية يقولون فيها: "الضرورات تبيح المحظورات"، وجعل التدرج في الأمور للوصول للأهداف خطوةً خطوةً أصلاً من أصول التشريع، ومن الخطأ أن نتعلم كيف تتعامل مع المصلحتين أيهما أكثر فائدة، ونتعود على التعامل مع المصالح، ويسقط منا في الطريق التعامل مع المفاسد في الفقه، تتعامل مع المفاسد فتختار أقلهما مضرة، يعني ارتكاب أهون الشرين وأخف الضررين، قاعدة أصولية، يتبقى أمام المسلم مفسدتان يختار أقلهما؛ لكن نحن تربينا أن نتعامل مع المصلحة، وعند ما تأتي المفسدة نقول منكر يجب إزالته، طبعًا يرجع لعدم الفقه.
والإمام ابن القيم لما قسم درجات إزالة المنكر، وقال فيه أربعة أنواع، وجاء للنوع الرابع، وقال أن يبقى هذا الإثم الذي يسبب مفسدة على ما هو عليه ولا يزال؛ لأنه إذا أزيل سينتج عنه ضرر أشد، إذن أنا مطالَب فقهيًّا أن أُبقِي الضرر، وهذا الذي لم يتدرب عليه كثير من الشباب؛ لأنه واضع في اعتباره دائمًا أن المنكر يزال، بينما الأمر ليس على ما فقهوا؛ لكن الأمر كما علمنا العلماء، وكما وضحوا هذه القاعدة: ارتكاب أهون الشرَّين وأخف الضررين، وقالوا: ندفع الضرر الأعلى بتحمل الضرر الأدنى.
وقد أجاز الشارع الحكيم للإنسان في حالة الإكراه ما لا يجوز في حالة الاختيار، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"، ووصل الأمر في القرآن إلى أن المكره قد ينطق بكلمة الكفر: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) (النحل: 106) هذه قواعد أصولية وضعها الأصوليون؛ لكي ييسروا الفهم لمن أراد أن يتعلم، ويبينوا القواعد الأصولية التي تحكم الإنسان المجتهد الذي يبحث عن مصالح المسلمين.
أما معنى السياسة الذي قلنا إنه السياسة الشرعية فهو تدبير أمور المسلمين في دنياهم حسب قواعد الشرع، وينظر الفقهاء في تدبير أمور الناس في أمور دنياهم في شرائع الدين؛ ولهذا يعرِّفون الخلافة بأنها نيابة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ويسوس الدنيا بهذا الدين، وقد يقصد بكلمة السياسة وهو معنى خاصٌّ، كما يقول أستاذنا الدكتور القرضاوي، هي ما يراه الإمام أو ما يصدر عنه من الأحكام والقرارات؛ زجرًا عن فساد واقع، أو وقاية من فساد متوقع، أو علاج لوضع خاص.. هذا معنى السياسة.
وهكذا حددنا معنى السياسة الشرعية بالأمور التي وردت كما حددها العلماء، وإذا كانت هذه هي السياسة الشرعية فالذي نراه في عالمنا اليوم لا يمتُّ إلى السياسة الشرعية بشيء، عندما نتكلم عن السياسة الشرعية مثلما قلنا إذا كانت هناك مصلحة للمسلمين فالذي يحددها أهل النظر والاجتهاد، يعني نسوس الدنيا بالدين، ولا نسوس الدنيا بالدنيا، فلا تكون إذًا سياسةً شرعيةً إنما تكون.. (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ) (الشورى: 21).
والوضع الموجود عليه المسلمون وضع ليس من الإسلام في شيء، اللهم إن كان يتصل بالعبادات الفردية أو السلوك الفردي أو علاقة الإنسان بربه، أما ما يتصل بسياسة المجتمع بالدين فلا نرى منه شيئًا بعد أن عزلوا الدين عن الدنيا، وقالوا لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة..!!
قرأت نصًّا للإمام ابن القيم فأضحكني وقلت: لو كان يعيش في زماننا هذا ماذا كان يقول..!! فهو يقول عن زمانه وعلى من قبله فيصف حالهم، ويقول: "إن الحكام في عصره- في عصر ما قبل ابن القيم- استحدثوا قوانين سياسية لآرائهم بمعزل عن الشرع- وهذا الكلام يقوله لأنه ينعى على العلماء في هذا العصر أنهم أغلقوا باب الاجتهاد فجمَّدوه"، يعني أنهم لم يتركوا الشريعة بالكلية أو تركوا الدين خلف ظهورهم إنما ينعى عليهم أنهم ضيقوا على المسلمين مسائل استُحدثت فبدأ الحكام يتركونها ويبحثوا عن مصالحهم، مع أن الحكام كانوا يعتبرون كتاب الله هو الحكَم، فابن القيم يصف هذا الحال، فماذا لو اطَّلع على الحال الذي ينطبق عليه قول ربنا: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30).. ماذا كان سيقول؟!
يقول هذا الكلام؛ لأنه شعر بجمود العلماء وتعصبهم فترك الشرع لأهله، وبدأ الحكام يبجثون عن أمور أخرى منفصلة عن الدين.
والحقيقة أنه يوجد فهم عن بعض المسلمين وبعض الشباب أنه لما نتكلم في السياسة الشرعية لابد أن تكون في أمور أتى بها الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو يكون منصوصًا عليها في كتاب الله، وهذا أمر أيضًا يعتريه فهم خاطئ؛ لأننا تكلمنا عن أن الاجتهاد فيما لا نصَ فيه.
ولذلك حدث حوار بين واحد شافعي وواحد حنبلي، يقول الشافعي: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع"، فقال الحنبلي: "السياسة ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب للصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول أو نزل به وحي"، فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فهذا صحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فهذا خطأ؛ أي ما يقوله الشرع لفظًا، فهذا خطأ لأنك تقيس مصالح المسلمين ولو لم ينطق بها الشرع تبحث عن المصلحة.
وسنعطي أمثلةً كثيرة في أمور لم ينطق بها الشرع؛ ولكنها صحيحة باجتهاد العلماء؛ بل إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- نفسه فعل هذا الأمر، ونضرب مثالاً: لو أخذنا قصة تحريق المصاحف لسيدنا عثمان فإننا لا نجدها في نص؛ أي لم ينطق بها الشرع؛ لكن عند ما نجد أن سبب تحريقه المصاحف هو أن بعض الناس بدأ في عهده يكتبون المصاحف، ويدخلون فيها بعض المعاني التي يفهمونها، فاختلطت بعض المعاني بالقرآن، فجمعهم على مصحف واحد، وهو الذي نزل على الرسول- صلى الله عليه وسلم- والمصاحف الأخرى أُحرقت، حتى لا يظن الناس أن المعاني التي أدخلوها على المصاحف هي من القرآن.. إذن هذه مصلحة كبرى، واجتهد للمصلحة بما يوافق الشرع.
وهذا مثل على هدي الرسول في السياسة الشرعية.. تهمة ولتكن السرقة، عندما تثبت إما بالبينة أو الأدلة الشرعية يكون فيها الحد، ماذا لو لم تنطبق القواعد على هذا السارق، وتتفاوت من واحد لآخر، فنجد الرسول- صلى الله عليه وسلم- في تهمةٍ عاقب وفي أخرى حبسَ، فهنا المصلحة حسب تقدير الرسول- صلى الله عليه وسلم- لهذا الأمر مع هذا يَحبس، ومع هذا يعاقب، هذه سياسة شرعية، وعندما عاقب الرسول فإن أمارات الريبة في المعاقب أظهر وأقرب من الأول، فاختلفت درجة العقاب حسب ما رؤي من ريبة من أحدهما عن الآخر، وهذه مسألة اجتهادية وليست منصوصًا عليها.
الغل من الغنيمة، أي الذي يخفي شيئًا من الغنيمة يخفيه ويأخذه خلسةً.. فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أسقط سهمه وحرَّق متاعه، وليس هذا منصوصًا عليه؛ ولكن وجد أن هذا الأمر من المصلحة، أيضًا عند ما نقول إنه همَّ بتحريق بيوت تاركي صلاة الجمعة والجماعة وهو غير منصوص عليه.
عندما يضاعف الغرم على سارق ما لا قطع فيه، القطع إذا وصل لحد النصاب يعني ليس أي إنسان يسرق تُقطع يده، فلابد من شروط.. لا بد أن يكون مالاً مُحرزًا، ومقوَّمًا؛ له قيمة.. بلغ حد النصاب، فأن يسرق إنسان ولم تصل السرقة حدَّ النصاب فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم- جلد فيها ولم يقطع، في حين أن هذا غير منصوص عليه.. والأمثلة كثيرة في هذا الأمر ولو اكتفينا بالمثال الأخير، وهو أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل شارب الخمر بعد الثالثة أو الرابعة، في حين أن شارب الخمر يُجلد، ومثلما قيست على إذا شرب هذئ، وإذا هذئ يرمي ويقذف.. إذن حد القذف ثمانون جلدة، الرسول- صلى الله عليه وسلم- قتل في شارب الخمر الذي عاد لشربها مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً، ولم يقم عليه الحد، وإن كان فيه خلاف عند العلماء أن الخمر ليس لها حدٌّ منصوص، وإن كانت بالقياس كما قلنا.
وهذا سيدنا أبو بكر في عهده حرَّق اللوطية، واعتبر أن هذا الأمر من الجرم بمكان، وسيدنا خالد بن الوليد لما كتب إليه، وقال إنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً يُنكَح كما تُنكَح المرأة، فاستشار أبو بكر أصحابه، وكان فيهم سيدنا علي، فقال: إن هذا الذنب لم تَعصِ به أمة من الأمم إلا أمة واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم، فأرى أن يُحرَّقوا بالنار، وهذا غير منصوص عليه، ولكنه أمر اجتهادي فيه مصلحة للمسلمين، كما رأى الصحابة وسيدنا علي، فأرسل أبو بكر لسيدنا خالد، وقال: حرِّقهم، وجاء من بعده عبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك وفعلوا مثله.. سيدنا عمر وقصة نصر بن حجاج لما افتُتِنت به النساء نفَاه من المدينة، هذه أمور كلها غير منصوص عليها، ولكن يجتهد العالم لمصلحة الأمة بما يراه، مستندًا إلى قواعد أصولية وفقهية.
بعض إخواننا يقول: ما دليلك، أعطني دليلاًَ من الكتاب والسنة.. إن كل هذه الأمور خارجة عن حدود الكتاب والسنة، لم ينطلق الاجتهاد إلا من هذا الأساس نفسه؛ بل إن الأمر وصل بسيدنا عمر أن اختار للناس الإفراد بالحج ولا يتمتعوا ليعتمروا في غير أشهر الحج، فيصير البيت عامرًا طوال العام، وهو اجتهاد، أما أنه ملزم أو غير ملزم فهذا موضوع آخر.
نحن نتكلم عن الاجتهاد للمصلحة، الإلزام سنتكلم عنه عندما نتكلم عن النواحي الثلاثة التي يجتهد فيها الإمام إن شاء الله؛ بل إن هذا الأمر لما قال سيدنا عمر، ونادى بالإفراد ظن الناس أنه يمنع التمتع بينما هو يدعو للأفضل.. الأولى لعمارة البيت، فتنازع هو وابن عباس والزبير، فلما اشتدوا عليه قال لهم ابن عباس: أقول لكم: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر؛ لكن هذا لم يُعِب على ذلك، ولا ذاك رمَى هذا، فهذا أدب الحوار وأدب الخلاف الموجود بين المسلمين في ذلك الزمان.
يقول ابن القيم: هذه سياسة بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة، الأمثلة التي ضربتها بقول هذه السياسة تختلف ضمانًا ومكانًا وشخصيًّا؛ لأنها مسألة فيها اجتهاد، والاجتهاد يختلف من زمان لزمان، ومن مكان لمكان، فيعطي الناس لمَّا قرؤوا هذه المقولات الآراء ظنوها حكمًا شرعيًّا ثابتًا لا يتغير، فيجب أن نفرق بين الثوابت التي لا تتغير وبين المتغير الظني المجتهَد فيه الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان.
مثال: عندما يقول لك واحد أنتم تحيروننا، مرةً تدخلون مجلس الشعب، ومرةً لا تدخلونه.. الإمام البنا طلقها طلقةً بائنةً، كان يريد أن يدخل فمنعوه فامتنع، وترك الأمر للناس.. الناس لم يفرقوا بين ثوابت الجماعة التي لا تتغير ومتغيراتها التي تتغير من زمان ومكان ومن شخص لشخص، الإمام البنا اجتهد في زمانه بقواعد الشرع والظروف الموجودة وخرج باجتهاده، من حقِّنا في زماننا أن نجتهد ونرى ظروفنا؛ لأن هذا أمرٌ متغيِّر.
دائرة الاجتهاد هذه التي هي المصلحة، والمصلحة ليست هوًى بالنفس، وإنما ترتبط بالدين ارتباطًا وثيقًا، والمصلحة لا بد أن تكون مصلحةً شرعية، وليست- كما سنرى- أن هناك مصالح مهدرة ولا قيمة لها عند المسلمين؛ لذلك مثلما قلنا عندما نرى حكمًا من الأحكام نقرأه في أي كتاب لعالِم من العلماء نفرق بين الأمور الثابتة التي لا تختلف زمانًا ومكانًا، ومثال الخمر حرام ليس فيها كلام، فهذا حكم لكن بالنسبة لشارب الخمر عندما يشرف على الموت ولم يجد إلا الخمر، فهذا له حكمه الخاص به حسب ظروفه.
فرق كبير جدًّا بين الفتوى والحكم.. الحكم ثابت والفتوى متغيرة: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ) (البقرة: 173)، فالعالِم المجتهد يجيز له شرب الخمر للضرورة للمحافظة على حياته، ويبقى الحكم على ما هو عليه وهو الحرمة، نظن أنها ثابتة عندما تقرأ حكمًا اجتهد فيه عالم يجتهد من زمان لزمان ومن مكان لآخر قد نأخذ به وقد لا نأخذ، ليس نحن؛ ولكن علماء زماننا يأخذون به أو يجتهدون حسب الظروف التي يعيشونها ويستنبطون حكمًا جديدًا حسب القواعد الشرعية لمصلحةٍ تفيدهم زمانًا ومكانًا، ولذلك حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر"؛ لأن كلاهما يعمل ويجتهد لطاعة الله، لنا في الإمام مالك ما جاء عن تحريق عمر بعض الأشياء زجرًا وردعًا فقد حرَّق قصر سعد وحانوت الخمَّار وإراقة اللبن المغشوش.
جاء الإمام مالك وخالف رأي عمر؛ لأن هذا اجتهاد؛ لكن انتبهوا من المقولة المغشوشة؛ لأن بعض المبتدئين في الفقه يقولون هم رجال ونحن رجال، كنت أعلِّق عليها وأقول: هم رجال ونحن عيال؛ لأننا عالة عليهم حتى الآن؛ لكن هم رجال ونحن رجال!! فأين نحن من علمهم؟!
فالمسائل التي ذكرنا كانت مسائل اجتهادية من سيدنا عمر وضمن المصالح المرسلة كما اعتبرها العلماء، وجاء الإمام مالك باللبن المغشوش، وقال: لماذا أسكبه؟! بدلاً من سكبه أتصدق به ويشربه الفقير؛ لأنني لو سكبته ستضيع منفعة وهو غير مخلوط بخمر، إنما مخلوط بالماء.. المجال في هذا الأمر واسع، والأمثلة كثيرة، وكلما قرأ الإنسان- خاصةً في الفقه المقارن- واطلع على آراء العلماء واختلافهم في المسألة الواحدة يجد أن هذا الفقه ثريًّا جدًّا يُصلح الزمان والمكان بحق، والإسلام أعطى بجانب التشريعات والنظم مرونةً لأبعد الحدود في أي زمان ومكان طالما وُجد أهل الاجتهاد والرأي.
والحقيقة- لضيق الوقت- سأكتفي بهذه الأمثلة لكي نصل بعد التعريف وتبيان ما هي السياسة الشرعية والأمثلة لها من عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الصحابة إلى التابعين للإمام مالك في مخالفته لاجتهادات سيدنا عمر لنقول: إن الأمر خلافي بين العلماء في اجتهادهم في المصلحة التي تعود على المسلمين بالنفع في زمانهم ومكانهم، وإذا كان للإمام أن يرى رأيه، وأن يجتهد اجتهاده فمن هو الإمام الذي نقصده..؟!
الإمام في العرف الإسلامي هو الخليفة الذي يحكم الأمة نيابةً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وقد ينوب عنه مَن يدير البلاد من الولاة يقومون بالسلطة التنفيذية، وهؤلاء أيضًا طالما أنهم أُنيبوا عن الإمام فلهم السمع والطاعة فيما أمروا به، وشرط أن يكون الأمر في معروف؛ لأنه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق، وحديث الرسول: "من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني"، وطبعًا إذا كان الإسلام دينًا ودولةً فكان لا بد من إمامٍ يسوس هذا المجتمع ويدير شئونه، السياسة الشرعية التي أشرنا إليها، والحقيقة أن العلماء اجتهدوا في وضع شروط للإمام لكي نطلق عليه (إمام) أو (خليفة):
- أولها (الإسلام): (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59).
- الشرط الثاني (الذكورة): ونحن نتكلم هنا عن الولاية العامة، يعني الحاكم، أما دون ذلك فكلام كثير جدًّا، واجتهادات عند العلماء أنها تكون قاضية أو تحكم أو لا تحكم، وتكون مثل الرجل وتدلي بصوتها، وتشارك في المجالس التشريعية؛ لكن عندما نتكلم عن الذكورة نقصد بها الولاية العامة، الخليفة أو الحاكم: "فلن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" في الولاية العامة.
الأسباب كثيرة؛ حيث توجد مجالات لا يستطيع أن يقوم بها الرجل وتقوم بها المرأة خير قيام، لماذا نقسم العمل، نعترف: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك"، وأعطاها هذه المنزلة ثلاث مرات.. لماذا لم يغضب الرجال؟! فنحن نتكلم عن وظائف لها خصائص، هل من العقل بمكان أن تكون المرأة مهندسةً مدنيةً تطلع على الخشب والحديد، الله لم يفاضل بين الرجل والمرأة من حيث التقوى؛ بل إن المرأة قد تفوق الرجل قُربًا لله- سبحانه وتعالى- سيدنا جبريل نزل خصيصًا لامرأة ليبلغها السلام من الله، هي السيدة خديجة- رضي الله عنها.
الولاية العامة لا تصلح لها المرأة.. أعطيكم مثالاً: مجرد الحمل والولادة أنتم تعلمون، دعونا من النظرة الغربية التي لوثت العقل الإسلامي وتأثر بها الناس.. المساواة في أي شيء، نحن لو ساوينا الرجل بالمرأة في كل شيء سنظلمها؛ لأنها على غير طبيعتها التي فطرها الله عليها، فلما نأتي للإمامة والولاية العامة الذي يسهر بالليل ويتحسس الناس بالنهار، وينظم الجيوش.. أمور لا تقوى عليها المرأة؛ لكن هل منعها أن تشارك في الجهاد، امرأة قالت لما أشيع عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قتل في أحد.. قالت "قوموا وموتوا على ما مات عليه نبيكم"..!!
- الشرط الثالث (أن يكون عدلاً في دينه): لا يُعرَف عنه فسوق، متقيًا عارفًا بأمور السياسة والحكم، ذا دراية بمصالح الأمة.
- الشرط الأخير (أن يكون جامعًا للعلم بالأحكام الشرعية): لأنه مكلف بتنفيذها.
هذه أهم الشروط التي وضعها العلماء في إمام المسلمين وخليفتهم.. نحن قلنا: إن الإمام البنا يقول: "ورأي الإمام ونائبه"، فإذا عرفنا مَن هو الإمام نريد أن نعرف ما هو الرأي، لأن معنى الرأي ينصرف للاجتهاد العقلي غير المفيد، طبعًا ما قصد الإمام بهذا المعنى مطلقًا؛ ولكن استخدم الرأي بمعناه الشرعي، ورأى يعني أبصر بعينه في اليقظة، ورأى رؤية وربما رأى أبصر بعينه في المنام، كل هذه المعاني اللغوية لا تعنينا في شيء بقدر ما يعنينا أن رأي الإمام هنا هو الاجتهاد وإعمال العقل في استنباط حكمٍ ما، واتخاذ قرار، هذا هو معنى الرأي.
الرأي هنا هو الاجتهاد، والاجتهاد له قواعده وأصوله التي تفيد المجتمع، وبهذه الصورة يكون الرأي بعيدًا عن الهوى والظن، فالاجتهاد علم يجتهد فيه في نصوص ظنية تحتمل الاجتهاد؛ ولكن هو نفسه لا بد أن يكون عالمًا يطبق القواعد الشرعية وليس لهوًى في نفسه في مثل هذه الأمور كلها.
كان يوجد قديمًا مدرستان في الفقه، مدرسة الرأي وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة في العراق، والمدرسة الثانية مدرسة الأثر في الحجاز في المدينة وعلى رأسها عبد الله بن عمر؛ لكن قد نقرأ أحاديث وأقوالاً تذم الرأي.. إذن عندما تقرأ الأحاديث التي تذم الرأي فإنه يقصد به الهوى والظن، ولا يقصد به الاجتهاد.
فسيدنا عمر كان يقول: "أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يسعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم"، وسيدنا عبد الله بن مسعود قال أيضًا فيهم: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شرٌّ من الذي قبله، أما إني لا أقول: أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم".
كل هذه مقولات تذم أصحاب الرأي، ويقول سيدنا علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من عاليه"، يقول جابر بن زيد: لقيني ابن عمر فقال: يا جابر، إنك من فقهاء البصرة وتُستفتى فلا تفتينا إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية"، والإمام ابن القيم له كتاب رائع؛ وهو (أعلام الموقعين)، فمَن أراد أن يستزيد فليرجع لـ(أعلام الموقعين) لابن القيم.
والذي يدل على أن الرأي هنا هو الهوى والظن أن بعض الصحابة أنفسهم قضوا بالرأي، يعني قضوا بالاجتهاد، بقي لنا أن نفرق بين الرأي المذموم والرأي المحمود.
يقول ميمون بن مهران: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به وإن لم يجد نظر في سنة الرسول فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس هل تعلمون حكمًا فيه في كتاب الله وسنة رسوله وإلا جمع رءوس الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به وهم علماء الأمة، وكذلك كان يفعل عمر؛ ولذلك سيدنا عمر الذي ذم الرأي هو الذي كتب لأبي موسى وقال له: اعرف الأشباه والأشياء والأمثال وقس الأمور.
وكما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "يا معاذ بم تقضي؟! فقال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يحبه الله ويرضاه"، وسُئل عليٌّ عن مسيره في صفين هل كان بعهد عهده إليه رسول الله أم رأيٍ رآه، قال بل رأي رأيته.
يقول الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود إنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد فوجد قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- فاختاره لرسالته، ثم اطلع على قلوب العباد بعده فرأى أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح.. والأحاديث في معنى الرأي كثيرة؛ ولهذا لا تعارض البتة بين هذه الأمور.
وحسم لنا الإمام ابن القيم هذه القضية، وقال الرأي ثلاثة: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح بلا ريب، والثالث الرأي موضع الاشتباه، فهل هو باطل بالكلية أم صحيح بالكلية هذه أمور أشار إليها السلف الصالح، واستعملوا كلمة الرأي بهذه الوجوه الثلاثة.
ولو أمسكنا بالرأي الباطل نجده أنواعًا: نوع يكون مخالفًا للدين بمخالفته النص، أو الكلام في الدين بالظن والخرص، أو التخمين أو الرأي المتضمن التعطيل، مثل المعطلة الذين يعطلون أسماء الله، أو الرأي الذي أحدث البدع وغيَّر من السنن، وهذه كلها آراء طبعًا اتفق السلف الصالح على ذمها وإخراجها من الدين.
أضاف بعض العلماء نوعًا آخر من الرأي المذموم وهو ما سموه في التاريخ (الأرئيتيين) يسأل عن أشياء لم تقع بعد، ويقول: أرأيت إن حدث كذا فماذا يكون الحكم؟! أن تسكت وتمسك لسانكلاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (المائدة: 101)، وعندما تنزل النازلة يجتهد فيها العلماء؛ ولكن قبل نزولها لا دخل لك فيها، ومكروه أن تتكلم فيها، وذم العلماء هذا النوع من الآراء؛ لدرجة أن مسروق- من التابعين- يقول سألت أبيَّ بنَ كعب في شيء، فقال: أكان هذا، أي وقع وحدث؟! قلت: لا، فقال فأجمنا حتى يكون، يعني اتركنا، يعني نطبق الأحكام التي نزلت ولا تسألني عن الذي لم ينزل، فإذا كان اجتهدت لك رأينا، وعن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن فإني سمعت عمر يلعن من يسأل عما لم يكن.
وتسمَّى هذه القضايا المعضلات أو الأغلوطات، وسميت بذلك لأنك تسأل عن أشياء لم تقع بعد تريد أن ترى فيها رأينا، وهذه لون من ألوان المغالطة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك؛ لكن الرأي المحمود رأي الصحابة رضوان الله عليهم، والرأي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة فيها ويقرها، ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها.. يقول ابن المبارك: "ليكن ما تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث"، وهذا هو الفهم الذي يختص به الله من يشاء من عباده.. وموضوع التفسير بالذات موضوع يتصدى له العلماء وقواعد التفسير اللغوي بالذات مهمة جدًّا عند المفسرين؛ ولذلك لا بد أن يكون المجتهد على علم بدلالة الألفاظ والعبارات والمفاهيم وغيرها، ومن أراد أن يستزيد فليقرأ أي كتاب من أصول الفقه يتكلم عن مفهوم العبارة والإشارة والدلالة والمخالفة وغيرها.
ولا بد لمن يتصدى للاجتهاد أو التفسير أن يكون عالمًا بمثل هذه الأمور، يعني مثلاً لو أننا نقول: إننا نَقَلة علم، هو حقيقة، وليس تواضعًا، ولا يعيبنا ذلك، ونسأل الله أن نكون من الذين وفقهم الله في النقل؛ لكن لكم أن تتصوروا كما تنقسم العبارات والألفاظ من ظهور معناها لذلك قسموا الأمر إلى الظاهر والنص والمفسر والمحكم.. إلخ.. والخلاصة نجد أن الرأي إما رأي مجرد لا دليل عليه ويخضع للتخمين، وحين سُئل أبو بكر عن مسألة قال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأي.. في رأيه في الكلالة لما سُئل عن الكلالة، وهو الذي يموت وليس له أصل ولا فرع.
وأما الآراء المحمودة الرأي الذي اجتمعت عليه الأمة وتلقَّاها الخلف من السلف بالقبول واجتهاد الرأي في ضوء الشرع يقول عمر لأبي موسى: الفهم الفهم لما أدلي إليك وما ورد عليك وليس في قرآن ولا سنة قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق.. يعني اجتهاد.
كل هذه المقدمة لكي نصل للأمور الثلاثة التي أشار إليها الإمام البنَّا في نصه في الأصل الخامس وهم أنواع ثلاثة: "ما لا نص فيه، وما تعددت فيه الأوجه والمصالح المرسلة" إذن هذا مجال، حدَّد الإمام البنا المجال الذي يجتهد فيه الإمام هذه المجالات الثلاثة.
ما لا نص فيه يسميه العلماء منطقة العفو؛ لأنها دلت على مرونة الشريعة الإسلامية، روى أبو داود عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: "ما أحله الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو".. لم يحدد له حكم ثابت؛ لأنه ربما كان يسبب حرجًا للمسلمين، لأنه من رحمة الله أن جعل النصوص الظنية فيما يتصل بتنظيم حياة البشر في داخل مجتمعهم؛ لأن هذا هو المتغير زمانًا ومكانًا.. فيه قواعد لكنها مرنةً، وفي رواية "فهو عافية من الله، فإن الله لم يكن لينسى شيئًا" ثم قرأ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64) يقول ابن عباس: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء فبعث الله نبيه، وأنزل كتابًا وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام: 145).
يؤكد ابن عباس مع حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين الرسول أن المولى حدَّ حدودًا.. وعندما نقول حدودًا يعني قطعية، لا تتعدى حدود الله يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
إذًا ما لم ينص عليه يبقى منطقة العفو يعني منطقة الاجتهاد بقواعد الشرع.. لا شك أننا هنا سنقول من هؤلاء الذين يستطيعون أن ينظروا في المسألة التي لا نص فيها، ربنا سبحانه وتعالى يقول: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى :38) (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، وهنا ستدور في الخواطر أسئلةٌ، من هم الذين يستشارون؟ كيف يختارون؟ وفيما يكون مشاورتهم؟ وما الحكم إذا اختلفوا فيما بينهم أو اختلفوا مع ولي الأمر؟ وهل الشورى ملزمة أو معلمة؟ سندخل في قضية الشورى، والواقع أننا عندما نقول الشورى إذن سنعرف أن التشاور هنا فيما لا نصَّ فيه، يعني المجتهَد فيه.
هل ما فيه النص المحكم فيه شورى؟! لا شورى في القطعي، الشورى في الأمور الظنية المجتهَد فيها وسوف نقف عند هذا الجزء قليلاً.. طبعًا أهل الحل والعقد هم أهل الشورى، الذين يختلفون تبعًا للمسألة، أي لو أنَّ المسألة فقهيةٌ صرفةٌ إذن سيكونون فقهاء، ولا يشترك في الشورى إنسان يجهل إسلامه أو يجهل الأحكام الشرعية، ونقول له "تعالَ نشاورك"؛ لذلك كانت الصورة من الانتخابات لغاية من المستويات حتى نصل إلى مستوى أهل الحل والعقد، هؤلاء ينتخبون بصفات معينة، طبعًا سواء أكان بالاختيار أو بالانتخاب.
هذه سياسة شرعية أيضًا تختلف زمانًا ومكانًا، يُختارون ويُنتخبون حسب ما يُتفق على ذلك؛ لكن المهم في الأمر أن اتخاذ قرار الشورى بالأغلبية يكون ملزمًا، ونحن اخترنا الشورى الملزمة وبالذات في الحركة، أما ما يتصل بالحركة في العبادة فكل واحد وشأنه.. الذي يصلي بمذهب مالك، بمذهب الشافعي.. إلخ فيما يتصل بعباداته وعلاقته بالله- سبحانه وتعالى- هو وشأنه.
هذا أمر لا شك يتصل بسياسة الجماعة وحركتها، فكان لابد أن يُحسم الأمر في الشورى الملزمة وليست شورى معلمة؛ لأن الشورى المعلمة لن توصلنا إلى قرار يعني هب أننا نعرض هذا الأمر وثلاثة أرباع الموجودين قالوا بالشورى الملزمة وربع قال بالشورى المعلِمة، وكل واحد قال إن له اختيارَه الفقهي، كيف نحسم المسألة وتبقى القضية كما هي ندخل أم لا؟
إذا كان كل واحد يلتزم برأيه الذي التزم به وهو صحيح من الناحية الفقهية؛ لأن الشورى مختلف فيها بين العلماء، منهم من قال ملزمة، ومنهم من قال معلمة فهي خلافية؛ لكن عندما تأتي الجماعة وتختار رأيًّا أو وجهًا من وجوه الفقه يتصل بحركتها إذن لابد للأفراد أن ينزلوا على هذا الرأي حسمًا للخلاف لا ينفع أن تقول إن الشورى ملزمة، ويأتي واحد ويقول هذا أمر فقهي وأنا آخذ بالرأي الآخر؛ لأنه لا يمكن أن تحسم الأمور ولا يمكن أن تسير الجماعة بخطواتها؛ وإلا فمن يحسم الخلاف؟ نحن نقول لو كان العدد واحدًا يرجح الذي فيه كفة الإمام أو كفة الأمير وترجح الكفة به، إذًا نحن أمام هذا الوجه الذي لا نص فيه، يحسم كما قلنا بالشورى.
الوجه الثاني ما يحتمل وجوهًا عدة يعني الشريعة تركت للمسلم أن يختار أمرين والاثنان موجودان في الفقه، يعني كفارة اليمين فيها إما الصيام أو الإطعام.. مثال معاملة الأسرى في الحرب فيها المن أو الفداء أو الاسترقاق أو القتل أو الحرية، اختيار المصلحة متروكة للإمام ليختار هذا الوجه في الأسرى، هل يا تُرى يمن عليهم ولا يفتدي ولا يقتل المجرم فيهم..؟!
وإذا كانت الشورى ملزمةً فعليه إذن أن يجمع أهل الشورى ويقبلوا الأمر ويختاروا وجهًا من الوجوه لمصلحة الأمة أو الدولة.. فمثلاً يمنُّ في حالة قوة المسلمين حتى يظهر حسن أخلاق المسلمين ورحمتهم بالأسرى يقوم يمن عليهم، وهم ليسوا في حاجة لحبس هؤلاء الأسرى لعل الله أن يشرح صدورهم ويشعروا بأخلاق الإسلام، ويقبل منهم الفداء إذا كان المسلمون فقراء ويحتاجون لمال يتقووا به فيقبل الفداء، ويقتل لو كان فيهم عتاةٌ مثلما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- وحدد أشخاصًا بعينها، وقال: اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، فهم مجرمو حرب وينبغي التخلص منهم، وهكذا نرى التعدد في أوجه الاجتهاد وللإمام أن يختار ما فيه مصلحة مجتمعه ذلك الوقت.
قصة أرض السواد في العراق عندما فتح سيدنا عمر العراق ومعلوم أن الحكم الشرعي هو أن الغنائم توزع على المحاربين المجاهدين فلما فتحوا العراق كان هناك أرضٌ تسمى أرض السواد أرض زراعية ضخمة فاجتهد سيدنا عمر وقال: أنا لو وزعتها القوة الاقتصادية التي ستعود على المسلمين تضعف، فلماذا لا أبقيها وتستثمر لصالح المسلمين فهنا اجتهد.. تكلمنا عن ما لا نص فيه، والأوجه المتعددة وضربنا مثالاً بالأرض المفتوحة التي وقفها سيدنا عمر للمسلمين.
المصالح المرسلة، وهو الأمر الثالث الذي تكلم فيه الإمام البنا على رأي الإمام، كلمة المصالح المرسلة، وهي مقسَّمة لقسمين: المصالح، والمرسلة.
فما هي المصلحة؟! هي كل ما فيه صلاح، ونفعٌ للخلق في دنياهم ودينهم، في معاشهم ومعادهم، سواء كانت فردية أو جماعية، مادية أو معنوية، آنية أو مستقبلية، مطلقة أم مقيدة أي التي لم يدل دليل خاص من نصوص الشرع على اعتبارها أو إلغائها.
هناك مصلحة معتبرة نصَّ عليها الشارع وهي معروفة، وهناك مصلحة مهدرة، المصلحة المرسلة التي ليس فيها نص بالاعتبار أو الإلغاء، وهذه أدنى مراتب المصالح؛ لأنها أعلى رتب المصالح التي شهد لها الشرع بالاعتبار لا شك في ذلك، ومن هنا اختلف الفقهاء في الأخذ بها كدليل شرعي، وأكبر الفقهاء أخذ بها الإمام مالك؛ لأن المصالح المرسلة ضمن الأدلة الشرعية عند بعض العلماء، وبعض العلماء لا يعتبرونها ضمن الأدلة والمصالح حتى تبقى الأمور واضحة.
عندنا المصالح لها درجات ثلاث: مصلحة معتبرة- مصلحة مهدرة- مصلحة مرسلة.
المصلحة المعتبرة: كل أمر من الأمور التي نص عليها الشارع الحكيم بحرمتها، فعندما نقول كل ما أُسكر من مشروب فهو خمر فيكون هذا من المصالح المعتبرة، أن أحرم الفودكا لأنها واضح فيها الحرمة، وحرمت لحفظ العقل مما يصيبه.
الزواج في ذاته مصلحة معتبرة؛ لأنه فيه نص، والشارع الحكيم اعتبر هذه المصلحة بنصوص والكثير من الأمور كالبيع والشراء وكل ما هو مأمور من الله ومحظور من الشارع الحكيم ففيه مصلحة للعباد، الله لما قدم الرسول لأهل الكتاب قال: (النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157).
فكل أمر فيه تحقيق هذه المصالح فهي مصالح معتبرة؛ ولذلك هنا المصلحة مقصود منها المحافظة على مقصود الشرع الحكيم، يعني المصلحة المعتبرة هي المصلحة التي تحافظ على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق عدَّدها العلماء، وقالوا: هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي تسمى المصالح الضرورية، الضروريات الخمس.. إذن كل مصلحة يقصد منها الشارع الحكيم المحافظة على هذه الخمس تكون مصلحةً معتبرة، لا شك في ذلك.
وكل أمر فيه مفسدة لهذه الأمور لا بد أن يدفعها الشارع الحكيم أي أمر من هذه الأمور تفسد الدين أو النسل أو المال أو العقل أو النفس فهي مصلحة غير معتبرة عند الشارع الحكيم؛ ولذلك في هذه الضرورات نجد أن المولى أوجبَ القصاص في قتل الكافر وعقوبة المبتدع وإيجاب القصاص في حد شرب الخمر؛ كي يحافظ على العقل والدين.
والدرجة التي تليها المصالح الحاجية التي توسع على المكلفين وترفع الضيق والحرج عنهم مثل رخصة السفر، فهذه من الحاجيات وليست من الضرورات.
المصالح التحسينية: كل ما يرجع إلى التحسين والتزين، مثل ستر العورة، وآداب الأكل، والنوافل، والمشي، وأي أمر يتصل بالعادات والمعاملات من نواحيها الخلقية والتعبدية.. هذا بالنسبة للمصالح المعتبرة.
وعكسها المصالح المهدرة التي لا تعود على الخلق بالنفع مطلقً، والتي أعطاها الشرع الحكيم درجة الإهدار؛ يعني لا يعمل بها مثل البلد الذي أجاز الفطر في رمضان لزيادة الإنتاج، وقال عندما يصوم الناس فإنهم يتكاسلون، ونحن في حاجة للقوة، فهذه تسمى مصلحة مهدرة، أي إن كان الذي قالها مجنونًا فعلى الذي يسمع أن يكون عاقلاً.
مثل الذي قال في أمريكا- من حوالي30 سنة- نصلي الجمعة يوم الأحد، وذلك يوم الإجازة وجَمع الناس يوم الأحد وخطب الخطيب الجمعة يوم الأحد، ظاهرها إحياءٌُ لفريضة؛ لكن لأنها اصطدمت بنص يكون اسمها مصلحة مهدرة لا يعتبرها بأي حال.
مثل الحاكم الذي عدَّد صلاة الجمعة في بلده يعني صلاة الجمعة الساعة الواحدة، وجماعة تصلي الساعة الثانية، وجماعة.. إلخ، وكل هذا في تونس الخضراء، هذه مصالح مهدرة.
لماذا الظُلم في الميراث مثلما يأخذ الرجل تأخذ المرأة.. هذا ظلم للمرأة أن تأخذ نصف الرجل، فصاحب هذا الرأي الجالس على مؤتمر بكين أرحم من خالقها تعالى الله عن ذلك..!!
قصة الخليفة حرص على المسلمين أنهم يسمعوا خطبة الجمعة فقال الناس تصلي العيد وتنصرف، ستكون خطبة العيد مثل خطبة الجمعة نخطب الأول وبعد ذلك نصلي.. والرسول- صلى الله عليه وسلم- قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وجاء في الأثر: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"، وليس هناك كلام في مثل هذه الأمور بأي حال من الأحوال.
وأمثلة كثيرة في مجتمعنا ليست مصالح مهدرة فقط بل مصالح قذرة منحطة سافلة تصطدم بالفطرة مثل مؤتمر بكين، وأنا كنت في زيارة لإحدى الولايات الأمريكية من خمس أو ست سنوات والأخ الذي استقبلني قال لي جيت اليوم فيه زواج رجلين من بعض، وأول مرة تحدث في الكنيسة، واعترفت الولاية بهذا الزواج زواج المتماثلين الذي يعرضونه في مؤتمر بكين.. إن ربنا- سبحانه وتعالى- ربط الفساد بتقطيع الأرحام: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد: 22)، فما بالنا بهذه المصائب.. نحن عندنا في بعض البلاد في مصر مثل إدكو ورشيد يحرمون ميراث البنت ولا يعطون للبنت ميراثًا، ويقولون ستعطي للغريب، هذه مصالح مهدرة.
ومن المصائب السوداء في الغرب والتي يريدون أن يوصلوها لنا أن الوصية جائزة عندنا طالما أنها التزمت بالأمور الشرعية، كالذي يوصي بأمواله بعد موته للكلب.. حدث في أمريكا أن رجلاً أوصى بماله لكلبه بعد موته؛ لأنه مثله بالضبط لا فرق؛ لكن عند المسلمين لا قيمة لهذا الأمر بالكلية، والقانون الروماني كان يجيز للدائن استرقاق المدين إذا لم يدفع، فأمثلة المصالح المهدرة لا تعد ولا تحصى؛ ومهدرة لأنها اصطدمت بقاعدة شرعية في كتاب الله أو سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم.
الغريب في الأمر أن هناك أمرين قرأتهما: أمر قديم، وأمر حديث، الأمر القديم أن القانون الإنجليزي والأمريكي كان لا يورِّث البنت ويعطي المال للابن الأكبر، أمريكا بعد المصائب التي مرت بها في مثل هذه الأمور أخذت بنظام الشريعة الإسلامية في الميراث سنة 1925م، ورجعت وقالت لا يوجد أحسن من هذا الأسلوب، ولو أنها لم تؤمن بما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم: (وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (النور: 49).
الأمر الحديث خاص بالربا- اللهم سامح من جعل الفائدة حلالاً في البنوك- هذه مصالح مهدرة.. الأمر الوحيد الذي قال فيه الله: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة: 279).. الاقتصاديون الأمريكيون يقولون: كيف نقضي على التضخم الموجود والمصيبة المقبلين عليها في اقتصادنا؟ لن يصلح الأمر إلا إذا كانت الفائدة صفرًا، إذن الإسلام قال لا توجد فائدة إما أن تضارب بمالك وتشتغل به وتدخله دورة المال لينموَ الاقتصاد في المجتمع وتعمل الأيدي العاملة وتنتج لا أن تشغل مالاً بمال، هذه كلها مصالح مهدرة لا قيمة لها، أو يحل الخمر والنساء، لا يجعلها امرأة إعلان، أو للسياحة، وتستخدم المرأة من أجل أن يزيد الدخل القومي!!
المصلحة الثالثة وهي المصالح المرسلة: وهي التي أرسلها الشارع فلم ينص على اعتبارها أو إلغائها، مثل جمع أبو بكر للمصحف من أكتاف العظم ومن سعف النخيل وغيرها من أماكن جمع القرآن، هذه ليس فيها نص لدرجة أنه حدث خلاف بين سيدنا عمر وسيدنا أبي بكر فيقول حتى شرح الله صدري لما شرح له صدر أبي بكر، هذه مصلحة مرسلة.
حينما تقول الدولة سنزرع كن