الحاجة ماسة لتوسيع رقعة الاهداف المشتركة للجماعات المصرية والعربية والاسلامية
المستشار طارق البشريہ
أظن أننا إذا تكلمنا عن بناة الجماعة السياسية في مصر علي مدي القرن العشرين، فسنجد أن ثلاثة يقفون في قمة هذا المجال، وهم بترتيب الظهور: سعد زغلول، وحسن البنا، وجمال عبد الناصر، وكلهم كانوا حركيين، كانت حركاتهم السياسية معبّرة عن دعواتهم وأفكارهم، ولم يطرحوا فكرا نظريا مجردا، وإنما طرحوه حركات سياسية ، أو تشكيلات تنظيمية أو تكوينات مؤسسية، وأن كلا منهم صار علامة علي تشكل جماعي سياسي، الجماعة المصرية عند سعد زغلول، والجماعة الإسلامية عند حسن البنا، والجماعة العربية عند جمال عبد الناصر.
حصيلة قرن كامل
وإذا كانت صراعات سياسية حادة قد جرت بين أصحاب كل من هذه الاتجاهات عبر عقود القرن العشرين، فنحن الآن ننظر في حصيلة قرن كامل، ومتي يمكن أن نتجاوز الطارئ والمؤقت والمتغير من هذه الصراعات لننظر في إمكان النظر إلي جهود السابقين بحسبانها أسس بناء الجماعة السياسية في بلادنا، وبما يقوم به التيار السياسي الإسلامي المستوعب لدينا، أي لننظر في وجوه التناسق والتكامل بين ما يجمع بينها من أهداف مشتركة.
والحق أن الحركة السياسية ذات القدرة الأوسع علي الانتشار الشعبي، والتي لم تصل أبدا إلي حكومة البلاد، بل عانت الكثير من ممارسات الحكومات المتعاقبة ضدها، كانت هي هذه الحركة الإسلامية السياسية التي أنشأها في عشرينيات القرن العشرين الأستاذ الشيخ حسن البنا، كما أنها الحركة التي توالدت أجيالها بغير انقطاع عضوي.
علي أننا نظل نحتاج إلي استخراج الصياغات السياسية التي تمكن من توسيع رقعة المساحة المشتركة من الأهداف العامة للتيارات السياسية الوطنية في بلادنا، وليس المقصد من ذلك الإشارة إلي أهداف السياسات العملية المتخذة فقط، وإنما المقصود أيضا أن يكون هناك قدر من التقبل الفكري، أو علي الأقل، التفاهم الفكري والمعرفة بحقائق ما يقصده كل تيار تجاه التيارات الأخري، إن لغة التعبير الفكرية عن السياسات والأهداف تتنوع بتنوع المرجعيات الفكرية وبأثر التراث الثقافي لدي كل تيار في صياغته لما يعنيه، فالجهاد مثلا يعني لدي آخرين مقاومة الاحتلال والاستبداد ... وهكذا.
ومن عدد من السنين ، بعد قراءتي لأعمال الأستاذ حسن البنا قراءة متصلة، وبعض كتابات من أتي بعده ممن يسير علي خطاه، وكانت مع كتابات الأستاذ البنا مما بني به فكر الحركة الإسلامية التي أنشأها، بعد ذلك حاولت أن أعّبر عن قراءتي الذاتية لهذه الأعمال بما أتصوره يقيم جسر تفاهم فكري، وما أتصوره يصلح امتدادا طبيعيا لا فرعاً في الشجرة ذاتها، مما لا أظنه ينفصل عن جذعها.
حاولت بهذه الصياغة أن ألخص ما أظنه أطر النظر السياسي الاجتماعي الذي يصدر أو يمكن أن يصدر عن هذا الفكر، أو بعبارة أدق، حاولت أن أبسط خطوطا عامة للرؤي السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تقوم علي هذه الأسس السابق وضعها، بحسبانها تفريعات محتملة لها وفق قراءة قارئ بذاته، هو أنا، بمعني أن هذا الذي أبسطه في البنود التالية، ليس كتابات الأستاذ البنا ذاته (رحمه الله)، إنما هو قراءتي لهذه الكتابات، أي: هو ما ورد في هذه الكتابات منقولا إلي عقل ناظر آخر، وهو يمثل تفاعلا بين مقروء وقارئ. ويظهر أثر القارئ في المقروء عن طريق اختيار المقتطفات ووضعها في سياق آخر، وتفريع التفاريع مع عدد من الإضافات التفصيلية.
وكانت نيتي الظاهرة لديّ في ذلك تتعلق بأن أجتهد في أن أترجم المكاتبات لقارئ جديد عليها وعلي مفاهيمها، أي أن أصل بين المكتوب وبين قارئ يرد من ثقافة أخري، وأن أحاول أن أسد فجوة في فجوات الثقافة السياسية في بلادنا بين تيارات ذات أصول ثقافية متباينة. لا أعرف مدي ما بلغته المحاولة من صواب، ولكنها اجتهاد رجوت منه أن يكون سعيا لبلوغ هدف التفاهم والتقبل، مما أراه ضروريا لنا في سعينا المشترك لإنقاذ هذه الأمة من عثرات الماضي والحاضر. والحمد لله.
الفكر السياسي للحركة الاسلامية
أولا:
1- إن الدعوة الإسلامية تصدر عن أن أحكام الإسلام شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، والله - سبحانه وتعالي - رب السماوات والأرض، والإسلام دين ودنيا، وروحانية وعمل، والمسلم يؤمن بالله ويعمل الصالحات، وإن أصل شرعية النظام الإسلامي وأساس التعاليم الإسلامية هو كتاب الله - تبارك وتعالي - وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وإن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا، وأن نظم الإسلام التي ينبغي أن تسير عليها الأمة، إنما تستقي من هذا المعين الصافي.
وهذا أساس الدعوة الإسلامية وسبب قيامها، وستبقي بإذن الله تعالي علي مدي الزمان، حتي تقوم شريعة الله حاكمة للعباد، ينهض بها المسلمون ويعملونها رسالة حضارة للبشرية جمعاء.
2 ـ إن غاية الدعوة أيضا تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل علي صبغ حياة المسلمين بالصبغة الإسلامية، في كل مجالات سلوكهم ومعاملاتهم. ووسيلتهم في ذلك تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة علي هذه التعاليم، حتي يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول علي حكمها.
وإذا ابتغي المسلمون القوة لأمتهم امتثالا لنداء القرآن الكريم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) (الأنفال 10) فإنهم يدركون أن أولي درجات القوة هي قوة العقيدة والإيمان، وتليها قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد لبناء المجتمع الناهض، وقوة السلاح في يد الدولة للدفاع عن الأمة، والذود عن الديار والأوطان، وتحصين إرادة الأمة من طواغيت العالم وشروره، وأطماع الدول الكبري وضغوطها وتهديداتها، وأن الترقي بين درجات القوة أمر يختلف باختلاف الظروف وأحوال الأمة والمجتمع في كل مرحلة خاصة.
3 ـ إنها دعوة تدعو إلي العودة للإسلام في معينه الصافي من الكتاب والسنة، وهي تدرك أن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، لذلك يجب لكي نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح (رضوان الله عليهم) أن نقف عند الحدود الربانية والنبوية، حتي لا نقيد أنفسنا بغير ما قيدنا به الله سبحانه، وحتي لا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جمعاء.
إن الإسلام دين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم، لكل الأزمان والعصور، وجاء أكمل وأسمي من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة، خاصة في الأمور الدنيوية الأكثر تأثرا بالبيئات وظروف الزمان والمكان، وإنما وضع الإسلام القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، وأرشد الناس إلي الطريقة العملية للبناء عليها، والتفريع منها، والسير في حدودها.
4 ـ إنها دعوة عامة لا تنتسب إلي طائفة خاصة، وهي تتوجه للأمة عامة بصحيح الدين ولبه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم، حتي يكون العمل أجدي، والإنتاج أعظم وأكبر، وهي مع الحق أينما كان، تحب الاجتماع، وتكره الشذوذ، وهي تري أن أفدح ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأن أساس ما انتصروا به الوحدة والوئام، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه، لأن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، والخلاف كان واقعا بين الصحابة أنفسهم، وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة، وأعرفهم بقرائن الأحكام، ولا يزال الخلاف واقعا وسيظل إلي يوم القيامة، والناس تختلف في سعة العلم وضيقه، ومنذ تفرق صحابة رسول الله في الأمصار صار عند كل قوم علم لم يلم به آخرون، كما أن اختلاف البيئات يخالف بين التطبيق في كل بيئة منها. والإجماع في الأمور الفرعية أمر متعذر، بل هو يتنافي مع طبيعة الدين، والله سبحانه يريد لهذا الدين أن يبقي ويخلد، وأن يساير العصور ويماشي الأزمان، لذلك فهو سهل مرن هين لين، لا جمود فيه ولا تشديد.
وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر علي عقول الناس وآرائهم، وهذه النظرة السمحة إلي الأمور الخلافية، تجمع الناس علي الفكرة الواحدة.وحسب الناس أن يجتمعوا علي ما يصير به المسلم مسلما.
5 ـ إن الدعوة الإسلامية منذ ظهرت حركتها الحديثة، التزمت أصلا لا محلاً للخروج عليه، وهو ألا تعرض للأشخاص بحكم ما، وأنها تعلن الأحكام الشرعية تالية الآيات والأحاديث، مستشهدة إذا لزم الأمر بأقوال الفقه، تاركة لكل شخص أن يضع نفسه في الوضع الذي هو أعلم بأنه ينطبق عليه، فهي داعية، وليست قاضية.
وأي امرئ هو علي الإسلام بنطقه بالشهادتين، وبهما يثبت له عقد الإسلام يقينا وفور النطق، وفي ذات لحظة التلفظ بهما دون أدني تأخير أو تأويل، ودون استلزام أي شرط آخر، وبعد ثبوت عقد الإسلام وبموجبه يتحمل المسلم ما يفرضه الإسلام عليه من موجبات، وما ينهاه عنه من النواهي، والإخلال بذلك لا يخرجه من الملة، إنما تقدر مخالفته في حدود ما أمر الله ورسوله في شأن المخالفة الواقعة.
والجاهلية في نظر الإسلام هي كالضلال والعصيان والفسوق والظلم، من الألفاظ التي استعملت في القرآن الكريم والسنة الشريفة لتعني الخروج علي أحكام الدين خروجا لا يبلغ بالضرورة حد الخروج عن الملة، ولا يصل باللزوم إلي حد الردة عن الإسلام، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: إنك امرؤ فيك جاهلية ، أورد البخاري هذا الحديث، وقال: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك .
والفرق بين المعصية وبين ما يصل إلي حد الردة من الخروج يرجع إلي الأحكام الشرعية، والقول بأن المجتمع جاهلي يوازي القول بأن المجتمع ضال، وأن تلك الصفة غالبة علي حال أفراده ونظمه.
ونحن منهيون عن أن نكفر مسلما برأي أو بمعصية، متي أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما، إلا إن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره علي وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أي يكون عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
6 ـ إن التكليف الإلهي مرتبط بعالم الأسباب وبسنن الله الكونية، ونحن مكلفون ضمن عالم الأسباب والسنن مع ملاحظة أن الله - تبارك وتعالي - يسهل للمؤمن ما لا يسهله لغيره، فالبحث عن السنن الكونية في كل أمر والسير في ضوئها لا يجوز إهماله بحال إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم (الرعد 11).
وهناك وسائل كثيرة للقيام بالدعوة وصياغة الرأي العام، وكسب القوة المرجوة للأمة في مختلف الميادين، وهي كلها جزء من عالم الأسباب، وفي إغفال هذه الوسائل المشروعة تفريط، وأن التصدي لشؤون السياسة والاقتصاد مرتبط بالسنن وله وسائله، وغير أنصار الحركة الإسلامية يتبعون الوسائل في هذه الشؤون ويعطونها مداها، وفي إغفال هذه الوسائل المشروعة المباحة تفريط. وإن صياغة النفس البشرية وتربية الناس وصياغة علاقاتهم وأنظمة معاملاتهم، لكل ذلك سنن، وعلينا أن نبحث عن هذه السنن في كل من هذه المجالات للوصول إلي النفس المسلمة وصياغة علائق المجتمع الإسلامي ونظمه، وإغفال ذلك تفريط، وأن للصراع البشري قوانينه وللقتال قوانينه، وللسيطرة قوانينها، وكل ذلك علينا أن نبحث عنه وأن نستوعبه، وأن نصوغه في ضوء الإسلام ولخدمته. إن في إغفال الأسباب الموصلة إلي نصرة الأمة وسيادة النظام الإسلامي تفريط كبير، إن لم يكن إثما كبيرا ، إن من فروض الكفاية في الإسلام أن يوجد المتخصصون في كل علم تحتاجه الأمة الإسلامية، ومن جملة ذلك علوم الاقتصاد والسياسة وغيرها.
ركيزتان.. ومشكلتان
ثانيا
7- قامت الدعوة الإسلامية، وتقوم علي ركيزتين أساسيتين،
الركيزة الأولي: هي الوحدة الإسلامية، والارتباط السياسي الوثيق بين أمم الإسلام وشعوبه، بحسبان أن هذه الوحدة وهذا الارتباط شعيرة إسلامية يتعين أن يحفظها المسلمون، ولا يفرطوا فيها، و
الركيزة الثانية: إقرار الشريعة الإسلامية ومبادئها كأساس للنظام الاجتماعي السياسي للجماعة، وللتنظيم القانوني في كل مجالاته، والإقرار بها كمصدر مهيمن علي الشرعية في المجتمع.
هاتان الركيزتان اللتان تقوم عليهما الدعوة الإسلامية في العصر الراهن، تمثلان الاستجابة الأساسية لمجالي التحدي الرئيسيين اللذين تواجههما شعوبنا في هذا العصر، عصر الغزو الاستعماري ومقاومته.
إن شعوبنا في عصرها الراهن تعاني من مشكلتين أساسيتين جاءتا بفعل السيطرة الاستعمارية، وهما: أولا التفتيت ، والتجزئة السياسية التي أحالت بلادنا وشعوبنا مزقا من الدول الصغيرة، والدويلات التي لا تملك لنفسها نفعا، وذلك كسعي مقصود من جانب الغزاة لإدامة السيطرة علينا، والمشكلة الثانية: تتراءي في التبعية العقيدية والحضارية والسياسية والاقتصادية، تبعية دولنا وشعوبنا لصالح دول الغرب والشمال الكبري، التي تتبوأ مكان السيطرة في عالم اليوم.
هذه التبعية بدأت محاولاتها مع بدايات القرن التاسع عشر، ولم ينته ذلك القرن، ويبدأ القرن العشرون حتي كانت قد استكملت حلقات التحكم الغربي الاستعماري في بلادنا وشعوبنا، مما وجهنا غير وجهتتا، وبدل أوضاع حياتنا، ومما ركز في صفوفنا هذا الضعف المتناهي، وأقام نظما حاكمة جعلت نفسها أدوات طيعة في يد الصالح الأجنبي يتحكم بها في رقاب الناس، وينفذ بها مطالبه وخططه، ويحقق مشيئته سافرة كانت أو مستترة.
نحن مأمورون دينا بأن ندعم شعور المسلم بانتمائه لجماعته، وأن نجاهد للحفاظ علي هذه الجماعة كرابطة متماسكة وعروة وثقي، ونحن مأمورن بديننا بأن نقيم روابطنا ونظمنا علي أساس من شريعة الإسلام المنزلة الخالدة، ولا غرو أن يكون ما نلتزم به دينا وعقيدة، هو الأصل الأصيل لما ينفعنا، ولما يقيمنا كجماعة مستقلة وناهضة.
8 ـ إن الدعوة الإسلامية دعوة إنسانية تتوجه إلي الناس كافة، وهي ليست لجنس دون جنس، ولا لأمة دون أخري، ومن هذا العموم في بعثة رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم، ومن شمول رسالته، يستمد العموم والشمول في هدفها ومرماها، فهي دعوة للناس جميعا، وهي تؤاخي بينهم جميعا وتسعي لخيرهم، ولا تعترف بفوارق الأجناس والألوان، ولا تتغير بتغير الشعوب والأوطان.
والمسلمون أمة واحدة من أمم عدة، والوطن الإسلامي وطن واحد من أوطان عدة، مهما تباعدت الأقطار، وتناءت الحدود، والدعوة الإسلامية تؤمن بهذه الوحدة، وتعمل لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام.
ومتي كان الوطن الإسلامي واحدا لا يتجزأ، فإن العدوان علي أي جزء من أجزائه يعتبر عدوانا عليه جميعه، وقد فرض الإسلام علي المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم سادة في أوطانهم، ولهذا فكل دولة اعتدت أو تعتدي علي أي من أوطان المسلمين وديارهم دولة ظالمة، لا بد أن تكف عدوانها، ولا بد أن يعد المسلمون أنفسهم لرفع العدوان، وأن يعملوا متساندين للتخلص من نيره، أيما كان هذا العدوان وأيا كانت وسائله العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية أو غيرها، ومن يقصر عن ذلك فهو من الآثمين.
9 ـ علي أن الإسلام الذي قام للناس كافة وأقام عروته الوثقي من المسلمين جميعا، قد فرض فريضة لازمة لا مناص منها، وهي أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفاني في خدمته، وأن يقدم كل ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا، ومن هنا وجب عليه أن يكون أعمق الناس وطنية، وأعظمهم نفعا لمواطنيه، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وأن يكون الأحرص علي خير وطنه، متمنيا لبلده العزة كل العزة، والمجد والرقي والنجاح والفلاح، وأن يحرص كل الحرص علي وحدة وطنه.
ولمصر منزلتها في الكفاح والجهاد، وقد نشأ أهلها علي أرضها الكريمة وتلقوا الإسلام أكرم تلق، وذادت عن الإسلام وردت عنه العدوان في الكثير من فترات التاريخ، وأخلصت مصر في اعتناقه، وقامت بدور أساسي في الحفاظ علي معالمه وشريعته ودعوة الناس إليه، مما صار به الأزهر الشريف منارا عليه وعلما. كما قامت مصر بدورها البارز في دعم الحضارة الإسلامية في شتي نواحيها العلمية والعملية، وفي العلوم والفنون والآداب، وتصدت لكل الغزوات الأجنبية علي العالم الإسلامي، سواء ضد الصليبيين، أو ضد التتار، كما تصدت لكل الغزوات الفكرية التي قصد المستعمرون بها الطعن علي الإسلام ، وحرف الناس عن أسسه المتينة.
فالجهاد لخير مصر هو جهاد لتلك الحلقة الأولي من سلسلة النهضة المنشودة، لأنها جزء من الوطن العربي العام، ومن أمة الإسلام.
ولا ضير من الاعتناء بتاريخ مصر القديم، وبما سبق إليه قدماء المصريين في العلوم والمعارف، فلمصر القديمة تاريخ فيه مجد وعلم ومعرفة، ولكن يتعين محاربة النزعة التي تحاول أن تصبغ مصر الآن بالصبغة الفرعونية، وأن تعزلها عن المسلمين والعرب كافة.
إن مصر هداها الله إلي الإسلام، وبه صارت إلي العروبة، ولا مكان فيها لأوضار الوثنية وأدران الشرك، وعادات الجاهلية.
العروبة
10- والعروبة لها في الدعوة الإسلامية مكانها البارز وحظها الوافر، فالعرب هم أمة الإسلام الأولي، وهم شعبه المتميز، وأنه لحق ما قال النبي صلي الله عليه وسلم: إذا ذل العرب ذل المسلمون ، ولن ينهض الإسلام بيسر دون اجتماع كلمة العرب، وأن كل شبر أرض في وطن عربي يعتبره الإخوان من صميم أرضهم، ومن لباب وطنهم.
إن الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية القائمة لا تمزق أبدا معني الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب علي أمل واحد، وهدف واحد، وجعلت من هذه الأقطار جميعا أمة واحدة، مهما حاول المحاولون فصم وحدتها، ومهما افتري الشعوبيون.
وقد روي عن مالك قول النبي صلي الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي .
ولذلك فإن هذه الشعوب الممتدة من خليج العرب إلي المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة، ويوحد بينها اللسان، وتؤلفها بعد ذلك هذه الوضعية المتناسقة في رقعة من الأرض واحدة متصلة متشابهة، لا يحول بين أجزائها حائل، ولا يفرق بين حدودها فارق.
وان العمل للعروبة هو عمل للإسلام، ووحدة العرب لا بد منها لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ويجب علي كل مصري ومسلم أن يعمل علي إحياء الوحدة العربية، وتأييدها ومناصرتها، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الموقف الإسلامي من الوحدة العربية.
ولكن يتعين ألا تقوم دعوة العروبة علي أساس جنسي يثير الاعتزاز بالجنس، أو يؤدي إلي انتقاص الأجناس الأخري والعدوان عليها، ويتعين بطبيعة الحال ضد أن تتحلل العروبة من عقدة الإسلام، ورباطه بدعوي القومية، ولا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي.
11 ـ كل ذلك يتعين أن ينظر إليه المسلمون في إطار تخليص الأوطان من أي نفوذ استعماري عليها، سواء في السياسة والاقتصاد، أو في الفكر والعقيدة.
والسياسة الخارجية هي السياسة التي ترمي إلي استقلال الأمة وضمان حريتها، وإشعارها بكرامتها وعزتها، والسير بها إلي الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها، وأن تحدد الصلة بينها وبين سواها تحديدا يفصل حقوقها جميعا، ويوجه الدول كلها إلي السلام العالمي العام القائم علي العدل.
فلسطين
إن سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها إنما تأتيها بالإسلام، وما يصبغها به من معان إنسانية رفيعة، ومن أسس حضارية متينة، وقد أمر الإسلام المسلمين بالمحافظة علي هذه السيادة، وأمرهم بإعداد العدة، واستكمال القوة حتي يسير الحق محفوفا بجلال القوة، كما هو مشرق بأنوار الهداية.
12 ـ إن خبرة تاريخ المسلمين تعرض الآن، وتظهر أن تحقيق أهدافهم المرجوة لا يتأتي إلا بعلاج عوامل التحلل التي قامت عبر مراحل من التاريخ تفت في عضد قوة الإسلام والمسلمين، ومن هذه العوامل: الخلافات السياسية والعصبية، وتنازع الرئاسة والجاه، رغم ما أوصي الإسلام به من تزهيد في الإمارة، وابتعاد عن التنازع، ومنها الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلي الألفاظ والمصطلحات الميتة، والجمود والتعصب للأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وهو ما حذر منه الله ورسوله، ومنها كذلك الانغماس في ألوان الترف والنعيم والإقبال علي المتع والشهوات، رغم ما حذرنا منه القرآن الكريم من إهلاك القري بترف مترفيها وفسقهم، ومنها أيضا إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات عقيمة، مع أن الإسلام يحث علي النظر في الكون، واكتناه أسرارالخلق والسير في الأرض، ومن ذلك أيضا غرور الحكام، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم الأخري حتي سبقت في الإعداد رغم أن الإسلام أمرنا باليقظة والحذر، واعتبر الغافلين أضل من الأنعام، ومنها الانخداع بدسائس الخصوم والانبهار بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، رغم النهي الشديد عن التشبه بهم.
كل ذلك تتعين مقاومته، ولن نستطيع أن نقاوم غازيا إلا بعد أن نقاوم الانهزام فينا، ولا أن نتحرر من الاستعمار إلا إذا تحررنا من قابليتنا للاستعمار.
13 ـ إن فلسطين علي مدار التاريخ كانت تمثل شاغلا أساسيا لمصر، فهي الحد الشرقي الذي ينبغي أن تؤمنه وتصونه، ولا حل للمسألة الفلسطينية إلا الحل الذي يحقق للفلسطينيين استرداد حقوقهم المشروعة في العودة لديارهم، وإنشاء دولتهم.
إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدي فلسطين، فأما مصر فلأنها حدها الشرقي المتاخم، وأما بلاد العرب فلأن فلسطين قلبها الخافق، وواسطة عقدها، ومركز وحدتها، وهي ضنينة بهذه الوحدة أن تتمزق مهما كانت الظروف، ومهما كلفها ذلك من تضحيات، وأما العالم الإسلامي فلأن فلسطين أولي القبلتين، وثاني الحرمين ومسري رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ولن يكف جهاد العرب والمسلمين ما بقي العدوان الصهيوني علي أرض العرب والمسلمين، ومهما امتدت السنون، وتتالت الأجيال، وهذه الحقيقة إن لم نؤكد عليها بألسنتنا، فإن كر السنين يؤكدها للعالمين، إذ لا أمن ولا استقرار في ديار العرب والمسلمين ما بقي العدوان الصهيوني قائما، وأن مصر والعرب والمسلمين مجروحون جرحا لا برء منه إلا أن يرد للفلسطينيين حقهم، وينتهي العدوان الصهيوني.
ثالثا:
14 ـ لم يجر غزو مصر ولا أي من بلاد العرب والمسلمين بقوة السلاح وحدها، ولا جري الاستعمار بنفوذ السياسة والاقتصاد، فقط، إنما قدر المستعمرون أنه لا بقاء لهم في هذه الديار إلا بأن ينزعوا عن أهاليها عقدة الإيمان بمقدساتهم، وإلا أن يزيلوا عنهم هويتهم وخواصهم الحضارية، وعلي رأس كل ذلك إبعادهم عن عقائدهم، وعما يتفرع عنها من النظم.
وكان النظام القانوني الآخذ عن الشريعة الإسلامية علي رأس ما أراد الاستعمار الإطاحة به لتحل محله النظم الوافدة من الغرب، وليسقط بذلك الجدار المنيع القائم في وجه استقرار نظمه وحكومته لبلادنا.
لقد تواكب قهر بلادنا علي الخروج علي أحكام الشريعة الإسلامية، مع قهرها علي الرضوخ لإرادة الغزاة والمستعمرين، مع الاجتياح العسكري لأراضيها منذ القرن التاسع عشر، ولم ينقض هذا القرن إلا وكانت بلادنا تحت الهيمنة الاستعمارية الغربية بالاحتلال العسكري والتسلط السياسي والسيطرة الاقتصادية، وكانت من أدواتهم في استدامة هذا الوضع، تقطيع أوصال الأمة تفتيتا لوحدتها، والخروج علي الشريعة الإسلامية انتقاصا لهويتها.
كانت الموجة قوية..
وهكذا فإن الله - سبحانه وتعالي - الذي بعث لنا إمامنا صلي الله عليه وسلم، ووضع النظام وفصل الأحكام وأنزل الكتاب، وأحل الحلال وحرم الحرام، وأرشدنا إلي ما فيه الخير، وهدانا إلي سواء السبيل، لم يعد إمامه متبوعا، ولا نظامه قائما، ولا أحكامه نافذة، ولا حلاله هو الحلال ولا حرامه هو الحرام، وصارت نظم المجتمع في كل شؤون العيش نظماً مقلدة وفدت مع جند الغزاة وحكوماتهم، نظم الحكم والعلاقات الدولية والقضاء والدفاع، ونظم المال والاقتصاد، ونظم الثقافة والتعليم، وتسرب تقليد النظام الغربي في شؤون الأسرة، وفي نظم السلوك الأخلاقي.
كانت الموجة قوية جارفة والتيار شديدا دافقا، طغي علي العقول والأفكار، ودغدغ الحواس والشهوات، وقامت مبادئ ودعوات، وظهرت نظم وفلسفات، وجرت أنماط للعيش والسلوك وقيم، كلها عملت علي منافسة فكرة الإسلام في نفوس أبنائها، واقتحمت عقولهم وقلوبهم، جري كل ذلك غزوا بالعلم والمال والسياسة والترف، وبالمتعة واللهو وضروب الحياة الناعمة.
15 ـ نحن ننادي بتطبيق الشريعة الإسلامية لأننا مأمورون بذلك من الله تبارك وتعالي، ولأننا نكون آثمين عند الله إن قعدنا عن المطالبة بإقامة حكم الشريعة ونظام القانون الإسلامي في شؤوننا وديارنا، وفضلا عن ذلك فالأخذ بالشريعة الإسلامية مكون أساسي من مكونات الاستقلال السياسي والاقتصادي الذي تنشده جماعتنا السياسية، سواء في مصر، أو في سائر ديار العرب والمسلمين، وعلي المصريين كافة، والوطنيين جميعا، وإن اختلفت عقائدهم، أن ينظروا إلي هذا المطلب في سياق المكونات الأساسية مما ينشدون من استقلال وفكاك من التبعية للأجنبي.
والإسلام لا يأبي أن نقتبس النافع، أو أن نأخذ الحكمة أنّي وجدناها، ولكنه يأبي أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله في شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه.
إن لنا هدفين أساسيين، أولهما: أن تتحرر مصر، وأن يتحرر الوطن العربي والإسلامي من كل سلطان ونفوذ أجنبي، وهذا حق لا ينكره إلا ظالم جائر، أو مستبد قاهر، وثانيهما: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة ذات ســـــيادة حقة تعمل بأحكام الإسلام، وتستمد نظمها من أصول الشــــريعة الإسلامية، وتعلن المبادئ القويمة للتشريع السماوي، وتبلغها للناس.
نحن نريد الفرد المتدين، والبيت المتدين، والشعب المتدين، ونريد أن تسود الفكرة الإسلامية لتؤثر في هذه الأوضاع وتصبغها بصبغتها، ونريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا يعتــــمد علي معتقداتنا وديننا، وليس علي الفكر المقلد الذي يقيدنا بنظريات الغرب، نريد أن نتميز بمقوماتنا، ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة.
__________________
المستشار طارق البشريہ
أظن أننا إذا تكلمنا عن بناة الجماعة السياسية في مصر علي مدي القرن العشرين، فسنجد أن ثلاثة يقفون في قمة هذا المجال، وهم بترتيب الظهور: سعد زغلول، وحسن البنا، وجمال عبد الناصر، وكلهم كانوا حركيين، كانت حركاتهم السياسية معبّرة عن دعواتهم وأفكارهم، ولم يطرحوا فكرا نظريا مجردا، وإنما طرحوه حركات سياسية ، أو تشكيلات تنظيمية أو تكوينات مؤسسية، وأن كلا منهم صار علامة علي تشكل جماعي سياسي، الجماعة المصرية عند سعد زغلول، والجماعة الإسلامية عند حسن البنا، والجماعة العربية عند جمال عبد الناصر.
حصيلة قرن كامل
وإذا كانت صراعات سياسية حادة قد جرت بين أصحاب كل من هذه الاتجاهات عبر عقود القرن العشرين، فنحن الآن ننظر في حصيلة قرن كامل، ومتي يمكن أن نتجاوز الطارئ والمؤقت والمتغير من هذه الصراعات لننظر في إمكان النظر إلي جهود السابقين بحسبانها أسس بناء الجماعة السياسية في بلادنا، وبما يقوم به التيار السياسي الإسلامي المستوعب لدينا، أي لننظر في وجوه التناسق والتكامل بين ما يجمع بينها من أهداف مشتركة.
والحق أن الحركة السياسية ذات القدرة الأوسع علي الانتشار الشعبي، والتي لم تصل أبدا إلي حكومة البلاد، بل عانت الكثير من ممارسات الحكومات المتعاقبة ضدها، كانت هي هذه الحركة الإسلامية السياسية التي أنشأها في عشرينيات القرن العشرين الأستاذ الشيخ حسن البنا، كما أنها الحركة التي توالدت أجيالها بغير انقطاع عضوي.
علي أننا نظل نحتاج إلي استخراج الصياغات السياسية التي تمكن من توسيع رقعة المساحة المشتركة من الأهداف العامة للتيارات السياسية الوطنية في بلادنا، وليس المقصد من ذلك الإشارة إلي أهداف السياسات العملية المتخذة فقط، وإنما المقصود أيضا أن يكون هناك قدر من التقبل الفكري، أو علي الأقل، التفاهم الفكري والمعرفة بحقائق ما يقصده كل تيار تجاه التيارات الأخري، إن لغة التعبير الفكرية عن السياسات والأهداف تتنوع بتنوع المرجعيات الفكرية وبأثر التراث الثقافي لدي كل تيار في صياغته لما يعنيه، فالجهاد مثلا يعني لدي آخرين مقاومة الاحتلال والاستبداد ... وهكذا.
ومن عدد من السنين ، بعد قراءتي لأعمال الأستاذ حسن البنا قراءة متصلة، وبعض كتابات من أتي بعده ممن يسير علي خطاه، وكانت مع كتابات الأستاذ البنا مما بني به فكر الحركة الإسلامية التي أنشأها، بعد ذلك حاولت أن أعّبر عن قراءتي الذاتية لهذه الأعمال بما أتصوره يقيم جسر تفاهم فكري، وما أتصوره يصلح امتدادا طبيعيا لا فرعاً في الشجرة ذاتها، مما لا أظنه ينفصل عن جذعها.
حاولت بهذه الصياغة أن ألخص ما أظنه أطر النظر السياسي الاجتماعي الذي يصدر أو يمكن أن يصدر عن هذا الفكر، أو بعبارة أدق، حاولت أن أبسط خطوطا عامة للرؤي السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تقوم علي هذه الأسس السابق وضعها، بحسبانها تفريعات محتملة لها وفق قراءة قارئ بذاته، هو أنا، بمعني أن هذا الذي أبسطه في البنود التالية، ليس كتابات الأستاذ البنا ذاته (رحمه الله)، إنما هو قراءتي لهذه الكتابات، أي: هو ما ورد في هذه الكتابات منقولا إلي عقل ناظر آخر، وهو يمثل تفاعلا بين مقروء وقارئ. ويظهر أثر القارئ في المقروء عن طريق اختيار المقتطفات ووضعها في سياق آخر، وتفريع التفاريع مع عدد من الإضافات التفصيلية.
وكانت نيتي الظاهرة لديّ في ذلك تتعلق بأن أجتهد في أن أترجم المكاتبات لقارئ جديد عليها وعلي مفاهيمها، أي أن أصل بين المكتوب وبين قارئ يرد من ثقافة أخري، وأن أحاول أن أسد فجوة في فجوات الثقافة السياسية في بلادنا بين تيارات ذات أصول ثقافية متباينة. لا أعرف مدي ما بلغته المحاولة من صواب، ولكنها اجتهاد رجوت منه أن يكون سعيا لبلوغ هدف التفاهم والتقبل، مما أراه ضروريا لنا في سعينا المشترك لإنقاذ هذه الأمة من عثرات الماضي والحاضر. والحمد لله.
الفكر السياسي للحركة الاسلامية
أولا:
1- إن الدعوة الإسلامية تصدر عن أن أحكام الإسلام شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة، والله - سبحانه وتعالي - رب السماوات والأرض، والإسلام دين ودنيا، وروحانية وعمل، والمسلم يؤمن بالله ويعمل الصالحات، وإن أصل شرعية النظام الإسلامي وأساس التعاليم الإسلامية هو كتاب الله - تبارك وتعالي - وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وإن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدا، وأن نظم الإسلام التي ينبغي أن تسير عليها الأمة، إنما تستقي من هذا المعين الصافي.
وهذا أساس الدعوة الإسلامية وسبب قيامها، وستبقي بإذن الله تعالي علي مدي الزمان، حتي تقوم شريعة الله حاكمة للعباد، ينهض بها المسلمون ويعملونها رسالة حضارة للبشرية جمعاء.
2 ـ إن غاية الدعوة أيضا تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل علي صبغ حياة المسلمين بالصبغة الإسلامية، في كل مجالات سلوكهم ومعاملاتهم. ووسيلتهم في ذلك تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة علي هذه التعاليم، حتي يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول علي حكمها.
وإذا ابتغي المسلمون القوة لأمتهم امتثالا لنداء القرآن الكريم (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) (الأنفال 10) فإنهم يدركون أن أولي درجات القوة هي قوة العقيدة والإيمان، وتليها قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد لبناء المجتمع الناهض، وقوة السلاح في يد الدولة للدفاع عن الأمة، والذود عن الديار والأوطان، وتحصين إرادة الأمة من طواغيت العالم وشروره، وأطماع الدول الكبري وضغوطها وتهديداتها، وأن الترقي بين درجات القوة أمر يختلف باختلاف الظروف وأحوال الأمة والمجتمع في كل مرحلة خاصة.
3 ـ إنها دعوة تدعو إلي العودة للإسلام في معينه الصافي من الكتاب والسنة، وهي تدرك أن كثيرا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، لذلك يجب لكي نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح (رضوان الله عليهم) أن نقف عند الحدود الربانية والنبوية، حتي لا نقيد أنفسنا بغير ما قيدنا به الله سبحانه، وحتي لا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جمعاء.
إن الإسلام دين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم، لكل الأزمان والعصور، وجاء أكمل وأسمي من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة، خاصة في الأمور الدنيوية الأكثر تأثرا بالبيئات وظروف الزمان والمكان، وإنما وضع الإسلام القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، وأرشد الناس إلي الطريقة العملية للبناء عليها، والتفريع منها، والسير في حدودها.
4 ـ إنها دعوة عامة لا تنتسب إلي طائفة خاصة، وهي تتوجه للأمة عامة بصحيح الدين ولبه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم، حتي يكون العمل أجدي، والإنتاج أعظم وأكبر، وهي مع الحق أينما كان، تحب الاجتماع، وتكره الشذوذ، وهي تري أن أفدح ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأن أساس ما انتصروا به الوحدة والوئام، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه، لأن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول والأفهام، والخلاف كان واقعا بين الصحابة أنفسهم، وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة، وأعرفهم بقرائن الأحكام، ولا يزال الخلاف واقعا وسيظل إلي يوم القيامة، والناس تختلف في سعة العلم وضيقه، ومنذ تفرق صحابة رسول الله في الأمصار صار عند كل قوم علم لم يلم به آخرون، كما أن اختلاف البيئات يخالف بين التطبيق في كل بيئة منها. والإجماع في الأمور الفرعية أمر متعذر، بل هو يتنافي مع طبيعة الدين، والله سبحانه يريد لهذا الدين أن يبقي ويخلد، وأن يساير العصور ويماشي الأزمان، لذلك فهو سهل مرن هين لين، لا جمود فيه ولا تشديد.
وليس العيب في الخلاف، ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر علي عقول الناس وآرائهم، وهذه النظرة السمحة إلي الأمور الخلافية، تجمع الناس علي الفكرة الواحدة.وحسب الناس أن يجتمعوا علي ما يصير به المسلم مسلما.
5 ـ إن الدعوة الإسلامية منذ ظهرت حركتها الحديثة، التزمت أصلا لا محلاً للخروج عليه، وهو ألا تعرض للأشخاص بحكم ما، وأنها تعلن الأحكام الشرعية تالية الآيات والأحاديث، مستشهدة إذا لزم الأمر بأقوال الفقه، تاركة لكل شخص أن يضع نفسه في الوضع الذي هو أعلم بأنه ينطبق عليه، فهي داعية، وليست قاضية.
وأي امرئ هو علي الإسلام بنطقه بالشهادتين، وبهما يثبت له عقد الإسلام يقينا وفور النطق، وفي ذات لحظة التلفظ بهما دون أدني تأخير أو تأويل، ودون استلزام أي شرط آخر، وبعد ثبوت عقد الإسلام وبموجبه يتحمل المسلم ما يفرضه الإسلام عليه من موجبات، وما ينهاه عنه من النواهي، والإخلال بذلك لا يخرجه من الملة، إنما تقدر مخالفته في حدود ما أمر الله ورسوله في شأن المخالفة الواقعة.
والجاهلية في نظر الإسلام هي كالضلال والعصيان والفسوق والظلم، من الألفاظ التي استعملت في القرآن الكريم والسنة الشريفة لتعني الخروج علي أحكام الدين خروجا لا يبلغ بالضرورة حد الخروج عن الملة، ولا يصل باللزوم إلي حد الردة عن الإسلام، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: إنك امرؤ فيك جاهلية ، أورد البخاري هذا الحديث، وقال: المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك .
والفرق بين المعصية وبين ما يصل إلي حد الردة من الخروج يرجع إلي الأحكام الشرعية، والقول بأن المجتمع جاهلي يوازي القول بأن المجتمع ضال، وأن تلك الصفة غالبة علي حال أفراده ونظمه.
ونحن منهيون عن أن نكفر مسلما برأي أو بمعصية، متي أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما، إلا إن أقر بكلمة الكفر أو أنكر معلوما من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره علي وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أي يكون عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
6 ـ إن التكليف الإلهي مرتبط بعالم الأسباب وبسنن الله الكونية، ونحن مكلفون ضمن عالم الأسباب والسنن مع ملاحظة أن الله - تبارك وتعالي - يسهل للمؤمن ما لا يسهله لغيره، فالبحث عن السنن الكونية في كل أمر والسير في ضوئها لا يجوز إهماله بحال إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم (الرعد 11).
وهناك وسائل كثيرة للقيام بالدعوة وصياغة الرأي العام، وكسب القوة المرجوة للأمة في مختلف الميادين، وهي كلها جزء من عالم الأسباب، وفي إغفال هذه الوسائل المشروعة تفريط، وأن التصدي لشؤون السياسة والاقتصاد مرتبط بالسنن وله وسائله، وغير أنصار الحركة الإسلامية يتبعون الوسائل في هذه الشؤون ويعطونها مداها، وفي إغفال هذه الوسائل المشروعة المباحة تفريط. وإن صياغة النفس البشرية وتربية الناس وصياغة علاقاتهم وأنظمة معاملاتهم، لكل ذلك سنن، وعلينا أن نبحث عن هذه السنن في كل من هذه المجالات للوصول إلي النفس المسلمة وصياغة علائق المجتمع الإسلامي ونظمه، وإغفال ذلك تفريط، وأن للصراع البشري قوانينه وللقتال قوانينه، وللسيطرة قوانينها، وكل ذلك علينا أن نبحث عنه وأن نستوعبه، وأن نصوغه في ضوء الإسلام ولخدمته. إن في إغفال الأسباب الموصلة إلي نصرة الأمة وسيادة النظام الإسلامي تفريط كبير، إن لم يكن إثما كبيرا ، إن من فروض الكفاية في الإسلام أن يوجد المتخصصون في كل علم تحتاجه الأمة الإسلامية، ومن جملة ذلك علوم الاقتصاد والسياسة وغيرها.
ركيزتان.. ومشكلتان
ثانيا
7- قامت الدعوة الإسلامية، وتقوم علي ركيزتين أساسيتين،
الركيزة الأولي: هي الوحدة الإسلامية، والارتباط السياسي الوثيق بين أمم الإسلام وشعوبه، بحسبان أن هذه الوحدة وهذا الارتباط شعيرة إسلامية يتعين أن يحفظها المسلمون، ولا يفرطوا فيها، و
الركيزة الثانية: إقرار الشريعة الإسلامية ومبادئها كأساس للنظام الاجتماعي السياسي للجماعة، وللتنظيم القانوني في كل مجالاته، والإقرار بها كمصدر مهيمن علي الشرعية في المجتمع.
هاتان الركيزتان اللتان تقوم عليهما الدعوة الإسلامية في العصر الراهن، تمثلان الاستجابة الأساسية لمجالي التحدي الرئيسيين اللذين تواجههما شعوبنا في هذا العصر، عصر الغزو الاستعماري ومقاومته.
إن شعوبنا في عصرها الراهن تعاني من مشكلتين أساسيتين جاءتا بفعل السيطرة الاستعمارية، وهما: أولا التفتيت ، والتجزئة السياسية التي أحالت بلادنا وشعوبنا مزقا من الدول الصغيرة، والدويلات التي لا تملك لنفسها نفعا، وذلك كسعي مقصود من جانب الغزاة لإدامة السيطرة علينا، والمشكلة الثانية: تتراءي في التبعية العقيدية والحضارية والسياسية والاقتصادية، تبعية دولنا وشعوبنا لصالح دول الغرب والشمال الكبري، التي تتبوأ مكان السيطرة في عالم اليوم.
هذه التبعية بدأت محاولاتها مع بدايات القرن التاسع عشر، ولم ينته ذلك القرن، ويبدأ القرن العشرون حتي كانت قد استكملت حلقات التحكم الغربي الاستعماري في بلادنا وشعوبنا، مما وجهنا غير وجهتتا، وبدل أوضاع حياتنا، ومما ركز في صفوفنا هذا الضعف المتناهي، وأقام نظما حاكمة جعلت نفسها أدوات طيعة في يد الصالح الأجنبي يتحكم بها في رقاب الناس، وينفذ بها مطالبه وخططه، ويحقق مشيئته سافرة كانت أو مستترة.
نحن مأمورون دينا بأن ندعم شعور المسلم بانتمائه لجماعته، وأن نجاهد للحفاظ علي هذه الجماعة كرابطة متماسكة وعروة وثقي، ونحن مأمورن بديننا بأن نقيم روابطنا ونظمنا علي أساس من شريعة الإسلام المنزلة الخالدة، ولا غرو أن يكون ما نلتزم به دينا وعقيدة، هو الأصل الأصيل لما ينفعنا، ولما يقيمنا كجماعة مستقلة وناهضة.
8 ـ إن الدعوة الإسلامية دعوة إنسانية تتوجه إلي الناس كافة، وهي ليست لجنس دون جنس، ولا لأمة دون أخري، ومن هذا العموم في بعثة رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم، ومن شمول رسالته، يستمد العموم والشمول في هدفها ومرماها، فهي دعوة للناس جميعا، وهي تؤاخي بينهم جميعا وتسعي لخيرهم، ولا تعترف بفوارق الأجناس والألوان، ولا تتغير بتغير الشعوب والأوطان.
والمسلمون أمة واحدة من أمم عدة، والوطن الإسلامي وطن واحد من أوطان عدة، مهما تباعدت الأقطار، وتناءت الحدود، والدعوة الإسلامية تؤمن بهذه الوحدة، وتعمل لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام.
ومتي كان الوطن الإسلامي واحدا لا يتجزأ، فإن العدوان علي أي جزء من أجزائه يعتبر عدوانا عليه جميعه، وقد فرض الإسلام علي المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم سادة في أوطانهم، ولهذا فكل دولة اعتدت أو تعتدي علي أي من أوطان المسلمين وديارهم دولة ظالمة، لا بد أن تكف عدوانها، ولا بد أن يعد المسلمون أنفسهم لرفع العدوان، وأن يعملوا متساندين للتخلص من نيره، أيما كان هذا العدوان وأيا كانت وسائله العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية أو غيرها، ومن يقصر عن ذلك فهو من الآثمين.
9 ـ علي أن الإسلام الذي قام للناس كافة وأقام عروته الوثقي من المسلمين جميعا، قد فرض فريضة لازمة لا مناص منها، وهي أن يعمل كل إنسان لخير بلده، وأن يتفاني في خدمته، وأن يقدم كل ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا، ومن هنا وجب عليه أن يكون أعمق الناس وطنية، وأعظمهم نفعا لمواطنيه، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وأن يكون الأحرص علي خير وطنه، متمنيا لبلده العزة كل العزة، والمجد والرقي والنجاح والفلاح، وأن يحرص كل الحرص علي وحدة وطنه.
ولمصر منزلتها في الكفاح والجهاد، وقد نشأ أهلها علي أرضها الكريمة وتلقوا الإسلام أكرم تلق، وذادت عن الإسلام وردت عنه العدوان في الكثير من فترات التاريخ، وأخلصت مصر في اعتناقه، وقامت بدور أساسي في الحفاظ علي معالمه وشريعته ودعوة الناس إليه، مما صار به الأزهر الشريف منارا عليه وعلما. كما قامت مصر بدورها البارز في دعم الحضارة الإسلامية في شتي نواحيها العلمية والعملية، وفي العلوم والفنون والآداب، وتصدت لكل الغزوات الأجنبية علي العالم الإسلامي، سواء ضد الصليبيين، أو ضد التتار، كما تصدت لكل الغزوات الفكرية التي قصد المستعمرون بها الطعن علي الإسلام ، وحرف الناس عن أسسه المتينة.
فالجهاد لخير مصر هو جهاد لتلك الحلقة الأولي من سلسلة النهضة المنشودة، لأنها جزء من الوطن العربي العام، ومن أمة الإسلام.
ولا ضير من الاعتناء بتاريخ مصر القديم، وبما سبق إليه قدماء المصريين في العلوم والمعارف، فلمصر القديمة تاريخ فيه مجد وعلم ومعرفة، ولكن يتعين محاربة النزعة التي تحاول أن تصبغ مصر الآن بالصبغة الفرعونية، وأن تعزلها عن المسلمين والعرب كافة.
إن مصر هداها الله إلي الإسلام، وبه صارت إلي العروبة، ولا مكان فيها لأوضار الوثنية وأدران الشرك، وعادات الجاهلية.
العروبة
10- والعروبة لها في الدعوة الإسلامية مكانها البارز وحظها الوافر، فالعرب هم أمة الإسلام الأولي، وهم شعبه المتميز، وأنه لحق ما قال النبي صلي الله عليه وسلم: إذا ذل العرب ذل المسلمون ، ولن ينهض الإسلام بيسر دون اجتماع كلمة العرب، وأن كل شبر أرض في وطن عربي يعتبره الإخوان من صميم أرضهم، ومن لباب وطنهم.
إن الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية القائمة لا تمزق أبدا معني الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب علي أمل واحد، وهدف واحد، وجعلت من هذه الأقطار جميعا أمة واحدة، مهما حاول المحاولون فصم وحدتها، ومهما افتري الشعوبيون.
وقد روي عن مالك قول النبي صلي الله عليه وسلم: يا أيها الناس إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي .
ولذلك فإن هذه الشعوب الممتدة من خليج العرب إلي المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة، ويوحد بينها اللسان، وتؤلفها بعد ذلك هذه الوضعية المتناسقة في رقعة من الأرض واحدة متصلة متشابهة، لا يحول بين أجزائها حائل، ولا يفرق بين حدودها فارق.
وان العمل للعروبة هو عمل للإسلام، ووحدة العرب لا بد منها لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ويجب علي كل مصري ومسلم أن يعمل علي إحياء الوحدة العربية، وتأييدها ومناصرتها، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الموقف الإسلامي من الوحدة العربية.
ولكن يتعين ألا تقوم دعوة العروبة علي أساس جنسي يثير الاعتزاز بالجنس، أو يؤدي إلي انتقاص الأجناس الأخري والعدوان عليها، ويتعين بطبيعة الحال ضد أن تتحلل العروبة من عقدة الإسلام، ورباطه بدعوي القومية، ولا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي.
11 ـ كل ذلك يتعين أن ينظر إليه المسلمون في إطار تخليص الأوطان من أي نفوذ استعماري عليها، سواء في السياسة والاقتصاد، أو في الفكر والعقيدة.
والسياسة الخارجية هي السياسة التي ترمي إلي استقلال الأمة وضمان حريتها، وإشعارها بكرامتها وعزتها، والسير بها إلي الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها، وأن تحدد الصلة بينها وبين سواها تحديدا يفصل حقوقها جميعا، ويوجه الدول كلها إلي السلام العالمي العام القائم علي العدل.
فلسطين
إن سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها إنما تأتيها بالإسلام، وما يصبغها به من معان إنسانية رفيعة، ومن أسس حضارية متينة، وقد أمر الإسلام المسلمين بالمحافظة علي هذه السيادة، وأمرهم بإعداد العدة، واستكمال القوة حتي يسير الحق محفوفا بجلال القوة، كما هو مشرق بأنوار الهداية.
12 ـ إن خبرة تاريخ المسلمين تعرض الآن، وتظهر أن تحقيق أهدافهم المرجوة لا يتأتي إلا بعلاج عوامل التحلل التي قامت عبر مراحل من التاريخ تفت في عضد قوة الإسلام والمسلمين، ومن هذه العوامل: الخلافات السياسية والعصبية، وتنازع الرئاسة والجاه، رغم ما أوصي الإسلام به من تزهيد في الإمارة، وابتعاد عن التنازع، ومنها الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلي الألفاظ والمصطلحات الميتة، والجمود والتعصب للأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وهو ما حذر منه الله ورسوله، ومنها كذلك الانغماس في ألوان الترف والنعيم والإقبال علي المتع والشهوات، رغم ما حذرنا منه القرآن الكريم من إهلاك القري بترف مترفيها وفسقهم، ومنها أيضا إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات عقيمة، مع أن الإسلام يحث علي النظر في الكون، واكتناه أسرارالخلق والسير في الأرض، ومن ذلك أيضا غرور الحكام، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم الأخري حتي سبقت في الإعداد رغم أن الإسلام أمرنا باليقظة والحذر، واعتبر الغافلين أضل من الأنعام، ومنها الانخداع بدسائس الخصوم والانبهار بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، رغم النهي الشديد عن التشبه بهم.
كل ذلك تتعين مقاومته، ولن نستطيع أن نقاوم غازيا إلا بعد أن نقاوم الانهزام فينا، ولا أن نتحرر من الاستعمار إلا إذا تحررنا من قابليتنا للاستعمار.
13 ـ إن فلسطين علي مدار التاريخ كانت تمثل شاغلا أساسيا لمصر، فهي الحد الشرقي الذي ينبغي أن تؤمنه وتصونه، ولا حل للمسألة الفلسطينية إلا الحل الذي يحقق للفلسطينيين استرداد حقوقهم المشروعة في العودة لديارهم، وإنشاء دولتهم.
إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدي فلسطين، فأما مصر فلأنها حدها الشرقي المتاخم، وأما بلاد العرب فلأن فلسطين قلبها الخافق، وواسطة عقدها، ومركز وحدتها، وهي ضنينة بهذه الوحدة أن تتمزق مهما كانت الظروف، ومهما كلفها ذلك من تضحيات، وأما العالم الإسلامي فلأن فلسطين أولي القبلتين، وثاني الحرمين ومسري رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ولن يكف جهاد العرب والمسلمين ما بقي العدوان الصهيوني علي أرض العرب والمسلمين، ومهما امتدت السنون، وتتالت الأجيال، وهذه الحقيقة إن لم نؤكد عليها بألسنتنا، فإن كر السنين يؤكدها للعالمين، إذ لا أمن ولا استقرار في ديار العرب والمسلمين ما بقي العدوان الصهيوني قائما، وأن مصر والعرب والمسلمين مجروحون جرحا لا برء منه إلا أن يرد للفلسطينيين حقهم، وينتهي العدوان الصهيوني.
ثالثا:
14 ـ لم يجر غزو مصر ولا أي من بلاد العرب والمسلمين بقوة السلاح وحدها، ولا جري الاستعمار بنفوذ السياسة والاقتصاد، فقط، إنما قدر المستعمرون أنه لا بقاء لهم في هذه الديار إلا بأن ينزعوا عن أهاليها عقدة الإيمان بمقدساتهم، وإلا أن يزيلوا عنهم هويتهم وخواصهم الحضارية، وعلي رأس كل ذلك إبعادهم عن عقائدهم، وعما يتفرع عنها من النظم.
وكان النظام القانوني الآخذ عن الشريعة الإسلامية علي رأس ما أراد الاستعمار الإطاحة به لتحل محله النظم الوافدة من الغرب، وليسقط بذلك الجدار المنيع القائم في وجه استقرار نظمه وحكومته لبلادنا.
لقد تواكب قهر بلادنا علي الخروج علي أحكام الشريعة الإسلامية، مع قهرها علي الرضوخ لإرادة الغزاة والمستعمرين، مع الاجتياح العسكري لأراضيها منذ القرن التاسع عشر، ولم ينقض هذا القرن إلا وكانت بلادنا تحت الهيمنة الاستعمارية الغربية بالاحتلال العسكري والتسلط السياسي والسيطرة الاقتصادية، وكانت من أدواتهم في استدامة هذا الوضع، تقطيع أوصال الأمة تفتيتا لوحدتها، والخروج علي الشريعة الإسلامية انتقاصا لهويتها.
كانت الموجة قوية..
وهكذا فإن الله - سبحانه وتعالي - الذي بعث لنا إمامنا صلي الله عليه وسلم، ووضع النظام وفصل الأحكام وأنزل الكتاب، وأحل الحلال وحرم الحرام، وأرشدنا إلي ما فيه الخير، وهدانا إلي سواء السبيل، لم يعد إمامه متبوعا، ولا نظامه قائما، ولا أحكامه نافذة، ولا حلاله هو الحلال ولا حرامه هو الحرام، وصارت نظم المجتمع في كل شؤون العيش نظماً مقلدة وفدت مع جند الغزاة وحكوماتهم، نظم الحكم والعلاقات الدولية والقضاء والدفاع، ونظم المال والاقتصاد، ونظم الثقافة والتعليم، وتسرب تقليد النظام الغربي في شؤون الأسرة، وفي نظم السلوك الأخلاقي.
كانت الموجة قوية جارفة والتيار شديدا دافقا، طغي علي العقول والأفكار، ودغدغ الحواس والشهوات، وقامت مبادئ ودعوات، وظهرت نظم وفلسفات، وجرت أنماط للعيش والسلوك وقيم، كلها عملت علي منافسة فكرة الإسلام في نفوس أبنائها، واقتحمت عقولهم وقلوبهم، جري كل ذلك غزوا بالعلم والمال والسياسة والترف، وبالمتعة واللهو وضروب الحياة الناعمة.
15 ـ نحن ننادي بتطبيق الشريعة الإسلامية لأننا مأمورون بذلك من الله تبارك وتعالي، ولأننا نكون آثمين عند الله إن قعدنا عن المطالبة بإقامة حكم الشريعة ونظام القانون الإسلامي في شؤوننا وديارنا، وفضلا عن ذلك فالأخذ بالشريعة الإسلامية مكون أساسي من مكونات الاستقلال السياسي والاقتصادي الذي تنشده جماعتنا السياسية، سواء في مصر، أو في سائر ديار العرب والمسلمين، وعلي المصريين كافة، والوطنيين جميعا، وإن اختلفت عقائدهم، أن ينظروا إلي هذا المطلب في سياق المكونات الأساسية مما ينشدون من استقلال وفكاك من التبعية للأجنبي.
والإسلام لا يأبي أن نقتبس النافع، أو أن نأخذ الحكمة أنّي وجدناها، ولكنه يأبي أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله في شيء، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه.
إن لنا هدفين أساسيين، أولهما: أن تتحرر مصر، وأن يتحرر الوطن العربي والإسلامي من كل سلطان ونفوذ أجنبي، وهذا حق لا ينكره إلا ظالم جائر، أو مستبد قاهر، وثانيهما: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة ذات ســـــيادة حقة تعمل بأحكام الإسلام، وتستمد نظمها من أصول الشــــريعة الإسلامية، وتعلن المبادئ القويمة للتشريع السماوي، وتبلغها للناس.
نحن نريد الفرد المتدين، والبيت المتدين، والشعب المتدين، ونريد أن تسود الفكرة الإسلامية لتؤثر في هذه الأوضاع وتصبغها بصبغتها، ونريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا يعتــــمد علي معتقداتنا وديننا، وليس علي الفكر المقلد الذي يقيدنا بنظريات الغرب، نريد أن نتميز بمقوماتنا، ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة.
__________________