مفهوم تغيير المجتمع في القرآن الكريم
والسيرة النبوي
ينطلق كثير من الناس اليوم علماؤهم وعامتهم من أن تغيير واقع المجتمع يتم من خلال تغيير أفراده فرداً فرداً حتى ينتج عن ذلك تغييراً للمجتمع كله وذلك إنطلاقاً من فهمهم الخاطئ لماهية المجتمع حيث ذهبوا إلى أنه مجموعة من الأفراد فقط وقد اشتهرت عنهم مقولة أصلح الفرد يصلُح المجتمع .
ونحن في بحثنا هذا سوف نبين كيف بيَّن القرآن بآياته حقيقة المجتمع وكيف فهم النبي صلى الله عليه وسلم ماهية المجتمع وعمل على تغييره ونقله من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي راقي .
لا شك أن الله قد أرسل رسله إلى الناس ليبلغوهم شريعة الله ونظامه ويعملوا على تغيير المجتمعات التي أرسلوا إليها من مجتمعات غارقة في الكفر والضلال والمعصية إلى مجتمعات موحدة لله عابدة له وحده تحيا بشريعة الله ونظامه يسودها العدل والطمأنينة والسكينة في كل جوانب حياتها .
ذلك أن الله لم يخلق الإنسان وتركه وشأنه بل خلقه وتولى تدبير شؤونه، فالإنسان عبد لله شاء أم أبى وليس حراً في حياته يحيا كما يشاء ، وكون الإنسان كائن اجتماعي فإنه لا بد له أن يجتمع بغيره من بني جنسه ويكون بينه وبينهم علاقات تربطهم ببعضهم البعض وأنظمة يجتمعون عليها وطريقة في العيش يعيشون وفقها .
وقد بين القرآن الكريم في سرده لقصص الأنبياء مع أقوامهم كيف أنهم قد دعوا أقوامهم إلى توحيد الله عز وجل وعبادته وحده وعدم إشراك أحد معه وكما دعوهم لإتباع شريعة الله وتسيير أعمالهم ومعاملاتهم كلها حسب الحلال والحرام .
فكانت دعوة الرسل لتغيير المجتمعات دعوة لتغيير العقائد والأفكار والمفاهيم من جهة وتغيير العلاقات والأنظمة والأعراف من جهة أخرى .
وهذه بعض النصوص التي تدل على ما قلناه :
قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [الأعراف :59]
وقال تعالى : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) [الأعراف :65]
وقال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ) [الأعراف :73]
وقال تعالى مخاطبا موسى عليه السلام : ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ) [طه 13-14]
ثم أيده سبحانه بمعجزات تثبت نبوته وأمره بالتوجه إلى فرعون وقومه لدعوتهم إلى الله. قال تعالى : ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) [القصص:32 ]
ثم قال لهم : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء : 16] فهذا أمر من الله لموسى وهارون أن يبلغوا الرسالة وأنهم أرسلوا للدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له .
وقال تعالى عن المسيح : ( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة :72]
أما خطاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان للناس كافة وليس لقوم دون قوم لأنه خاتم الأنبياء والرسل ورسالته للعالم أجمع . قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة : 21] لذلك جاءت رسالة الإسلام لتغيير مجتمعات العالم كلها وليس مجتمعا دون مجتمع .
ونختم أخيراً بآية تبين أن جميع الرسل بعثوا من أجل الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله سبحانه وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل : 36].
فهذه الآيات تظهر بوضوح أن دعوة الرسل كانت لتوحيد الله وعبادته وحده وعبادة الله بالمعنى الشمولي هي أن تكون علاقات الناس كلها مسيرة حسب أوامر الله ونواهيه وحسب شريعته سبحانه وتعالى التي جاء بها الرسل.
وعلاقة الإنسان على ثلاثة أنواع علاقته بربه من عقائد وعبادات محضة وعلاقته بغيره من معاملات وعلاقته بنفسه من أخلاق ومأكل وملبس .
ومع أن عبادة الله بالمعنى الشمولي تشمل تسيير علاقات الناس وفقا لأوامر الله ونواهيه إلا أنه ورد في بعض الآيات التنصيص على أن الرسل بالاضافة إلى دعوتهم لتوحيد الله كانوا ينكرون على أقوامهم علاقاتهم الفاسدة ويدعونهم لتغييرها لما يتوافق مع شريعة الله .
فلوط مثلا أنكر على قومه إتيان الذكور دون الإناث فقد قال تعالى : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) [الأعراف 81-80]
فهذا رفض للنظام الاجتماعي الذي ارتضوه لأنفسهم .
وشعيب أنكر على قومه معاملاتهم المالية الفاسدة :
قال تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [الأعراف :85]
وهنا رفض للنظام الاقتصادي الذي ارتضوه لأنفسهم .
وقال المسيح عليه السلام مبينا أنه جاء بشريعة الله : ( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) [آل عمران 50]. فقد جاء لتصحيح ما حرفوه من شريعة موسى عليه السلام التي كانت منظومة من الأحكام الشرعية تنظم علاقات بني اسرائيل خاصة.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هاجم أبا لهب (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) [المسد :1]
وهذا من أعمال التغيير على الحكام والنظام السياسي القائم على غير الإسلام .
وأنكر على المطففين الذين يزيدون في الميزان (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) [المطففين : 1] فهذا رفض للنظام الاقتصادي القائم ، وأنكر وأد البنات (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) [التكوير : 8 – 9] وهو رفض للنظام الاجتماعي القائم .
إذاً اتجه الرسل في دعوتهم لتغيير المجتمعات إلى عقائد المجتمع وعلاقاته وأنظمته فنسفوها من أساسها وبينوا بطلانها ودعوا أقوامهم إلى تركها واتباع شريعة الله ونظامه .
ولا يتحقق هذا الاتباع إلا إن كان هؤلاء الأنبياء والرسل قادة وحكاماً للأمم التي بعثوا فيها لذلك كان عليهم أن يتسلموا القيادة والحكم وأن يحكموا الناس بما أنزل الله ويظهر ذلك جليا من الآيات الآنفة الذكر ففيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ) (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) ولا يملك الأمر والنهي إلا الأمير والحاكم أو من يظن نفسه أنه واجب الطاعة كما هو الحال مع الأنبياء والرسل .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه أن الأنبياء والرسل كانوا حكاما وساسة لأقوامهم فقال : كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلّمَا هَلَكَ نَبِيّ خَلَفَهُ نَبِيّ، وَإنّهُ لاَ نَبِيّ بَعْدِي. وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ . متفق عليه من حديث أبي هريرة .
ومعنى تسوسهم أي ترعى شؤونهم بشريعة الله، وقول وإنه لا نبي بعدي أي لا نبي بعدي يأتي ليسوسكم ولكن ستكون خلفاء ساسة عليكم .
ولم يتكون المجتمع الصالح الذي يُرضي الله إلا بعد أن مُكن الأنبياء والرسل في الأرض وحكموا بنظام الله وشرعه ، ومن هنا كان النظام المطبق جزءاً جوهرياً من تكوين أي مجتمع من المجتمعات .
إذاً عندنا علاقات بين أفراد أي مجتمع وعندنا أنظمة تنظم هذه العلاقات ولكن كيف تنشأ هذه العلاقات وماذا ينتج عن وجودها؟
تنشأ العلاقات في أي مجتمع كان، من حاجة أفراد هذا المجتمع لبعضهم البعض ومن اجتماعهم على تبادل المصالح فيما بينهم فيتكون بينهم علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية.
ففي أي مجتمع يوجد من يرعى شؤون المجتمع ويحكمه بأنظمة معينة، فتكون هناك علاقات بين الراعي والرعية وعلاقات بين الرعية أنفسهم من حيث تطبيق القوانين التي يضعها الحاكم لهم .
وتوجد علاقات بيع وشراء وتجارة بكل أنواعها مما يوجد علاقات اقتصادية بين أفراد المجتمع .
وكون المجتمع فيه النساء والرجال فإنه سيكون بينهم علاقات بين الرجال والنساء كالزواج مثلاً مما يضمن استمرارية بقاء أي مجتمع من المجتمعات .
وبوجود هذه العلاقات تتكون مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تحدد طريقة معينة تسير هذه العلاقات وفقها وتكون هذه الأفكار والمفاهيم مقبولة ومتفق عليها عند عامة أفراد هذا المجتمع كاتفاقهم مثلاً على أن يكون الحاكم فيهم أشجعهم أو أقواهم أو ذو نسب رفيع ، وكاتفاقهم على استحسان معاملات معينة كالربا أو غيره ، وكاتفاقهم على جواز أن يتزوج الرجل امرأة أبيه بعد موته وهكذا .
كما أنه ينتج عن الأفكار والمفاهيم التي يتفقون عليها مشاعر مشتركة بينهم فهم يفرحون لما يرونه صواباً كأن يتزوج أحدهم فيفرحون لذلك كونه يفعل أمراً صواباً بنظرهم ، بينما يغضبون لما يرونه خطأً كأن يزنى أحدهم وهم ينظرون إلى الزنا أنه علاقة خاطئة .
ولا بد أن نلاحظ أن ما ذكرناه من حتمية وجود أنظمة تنظم حياة أفراد المجتمع سواءاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ووجود أفكار ومفاهيم ومشاعر مشتركة بينهم لا يمكن أن يكون إلا إن كانت العلاقات بين أفراد المجتمع دائمية ومستمرة وليست آنية قصيرة .
فإذا اجتمع مثلا مئة شخص في قطار يسافر لعدة أيام فقط فان اجتماعهم هذا ينتهي بمجرد وصولهم للمكان المطلوب، ولكن نفس العدد من الناس يمكن أن يشكلوا باجتماعهم في قرية صغيرة مجتمعاً حقيقيا وذلك لأن علاقاتهم مع بعضهم دائمية مستمرة .
والخلاصة أن أي مجتمع من المجتمعات لا بد أن يتألف من مجموعة أفراد وعلاقات دائمية تربطهم وأفكار ومشاعر يجتمعون عليها وأنظمة تحكمهم .
فإذاً من واقع تعامل حملة الرسالة الإلهية من الأنبياء والرسل مع المجتمعات التي عملوا على تغييرها ومن واقع نظرتنا الدقيقة لواقع المجتمع يمكن أن نستنتج التعريف الصحيح للمجتمع وهو أنه مجموعة من الناس تربطهم علاقات دائمية تنتج عنها أفكار ومشاعر مشتركة بينهم وأنظمة يحتكمون إليها .
وإن أي مجتمع كان، يصنف حسب نوع تلك الأفكار والمشاعر والأنظمة التي تحكم وتسود في المجتمع، فإن كانت أفكاراً ومشاعر وأنظمة اسلامية كان المجتمع اسلامياً وإن كانت رأسمالية كان المجتمع رأسمالياً .
وبالنظر إلى مجتمعنا اليوم نرى أن أفراده مسلمون ولكن أفكارهم ومشاعرهم وأنظمتهم مزيج من الأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية وغير الإسلامية وإن كانت أفكارهم ومشاعرهم أغلبها إسلامية إلا أن أنظمتهم أغلبها غير اسلامية ، وبناءاً على ذلك فإن مجتمعهم ليس إسلامياً.
وإذاً أردنا اليوم العمل على إيجاد المجتمع الإسلامي من جديد فعلينا العمل على تغيير الأفكار والمفاهيم والمشاعر التي يحملها المسلمون والأنظمة التي تحكمهم لتصبح كلها إسلامية صرفة عندئذ فقط نحصل على المجتمع الاسلامي الصحيح، وبإيجاد المجتمع الاسلامي الحقيقي يصلح كل فرد من أفراد هذا المجتمع فتكون المقولة الصحيحة: (بصلاح المجتمع يصلح الفرد وليس العكس).
وبناءاً على الفهم الصحيح لواقع المجتمع نلاحظ أن دعوة الرسل للتغيير كانت تشمل جميع طبقات المجتمع بلا استثناء فقيرهم وغنيهم، ضعيفهم وقويهم ، حاكمهم ومحكومهم ، حيث نجد أن أهل الحكم والمال والنفوذ هم أكثر الناس محافظة على الواقع الفاسد للمجتمع يساندهم في ذلك عامة الناس تبعا لهم ، فكانت دعوة الرسل التغييرية جماعية شاملة وليست فردية ضيقة .
وطبيعة دعوة الرسل والأنبياء هذه التي توجهوا بها إلى كافة أطياف المجتمع وتوجهوا بها إلى علاقات المجتمع فأرادوا تغييرها أدت إلى الصدام العنيف مع القديم الذي اعتادت عليه تلك المجتمعات وأدت إلى مقابلة هذه المجتمعات بعمومها للدعوة بالعداوة والبغضاء والمحاربة والأذى الشديد. ويظهر ذلك جليا في القرآن الكريم من خلال قصص الأنبياء مع أقوامهم عامة ومن خلال الآيات المكية التي تناولت عهد النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم في حمله للدعوة إلى مجتمع قريش خاصة.
ودعونا نستعرض بعض النصوص التي تبين ما قلناه :
فقوم نوح مثلاً ردوا على دعوته لهم رداً عنيفاً وقابلوه بالتكذيب. قال تعالى : (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) [الأعراف: 60 ]. وقال أيضاً : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ) [الأعراف: 64]
أما قوم هود فقد قابلوه بالتكذيب أيضاً : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) [الأعراف : 66]. (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الأعراف : 70]. وهنا يظهر جليا تمسك قوم هود بالقديم وما كان عليه الآباء واستهزائهم بدعوة هود عليه السلام التي جاء بها لتغيير مجتمعهم إلى المجتمع الذي يرضى عنه الله تعالى .
أما قوم صالح فبين الله تعالى أنهم استكبروا وتطاولوا على صالح عليه السلام وعلى الذين اتبعوه من المؤمنين . قال تعالى : ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الأعراف: 75-76]
أما قوم لوط فقد قابلوه بالعداوة وأنكروا عليه إنكاره عليهم فعلهم الفاحشة حتى أنهم طردوه من قريتهم وأبعدوه . قال تعالى : (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف: 82-83]
وأما قوم شعيب فقد كذبوه كذلك وراحوا يهددونه بالنفي من قريتهم إن لم يعد في ملتهم ويترك دعوته التي أرسل بها .قال تعالى : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف : 88] . وقال : (وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:90-92].
وفي سورة هود يروي الله تعالى كيف أنهم أنكروا على شعيب إنكاره عليهم فساد معاملاتهم المالية . (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : 87].
أما فرعون وقومه فقد تمسكوا هم أيضاً بالقديم وبما جاء به الآباء ورفضوا اتباع هارون وموسى. (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) [يونس : 78].
من هنا يتبين أن الصدام كان عنيفاً بين الأنبياء والرسل وبين أقوامهم بسبب أن دعوتهم لتغيير المجتمع كانت دعوة لتغيير العلاقات القائمة بكل أشكالها ولم تقتصر على اصلاح جوانب ضيقة من العلاقات كالأخلاق مثلاً ويظهر ذلك بشكل أوضح في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم خلال دعوته في مكة وموقف قريش من هذه الدعوة.
ففي أول عهد الدعوة الإسلامية كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تقتصر على بعض الأشخاص المقربين منه أو من الذين يثق بهم ويطمع في هدايتهم وكانت قريش تعرف بوجود الدعوة ولكنها لم تكن تثير اهتمامها لأنهم لم يكن يهمهم وجود من يدعو إلى دين جديد أو أن يترك أحدهم دينه ويعتنق ديناً آخر، بل الذي كان يهمهم ألا يتعرض أحد لدينهم وعلاقاتهم التي ارتضوها لأنفسهم ويدعوهم لتغييرها.
وأما عندما نزل قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:94]
وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالتفاعل مع مجتمع قريش وبدأوا بالتعرض لدينهم وعلاقاتهم عندئذ كانت المجابهة والمعاداة والمحاربة بكل أشكالها .
وقوبل النبي صلى الله عليه وسلم كأسلافه من الأنبياء والرسل أيضاً من قريش بالتكذيب والتمسك بما جاء به الآباء والأجداد.
فقد قال تعالى في حق قريش : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [لقمان :21] فنرى أن قريشاً كذلك شأنها شأن من سبقها من الأقوام والمجتمعات تمسكت بالقديم وما عليه الآباء
بل قابلت قريش النبي صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء به وبدعوته ووصفوه بأنه مجنون وساحر وكذاب وعلى رأس هؤلاء قادة قريش وحكامها .
(وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص:4].
(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم:51].
حتى أنهم من شدة ما لاقوا من دعوة النبي الأعظم عليه السلام بعثوا وفداً لأبي طالب كي يخلي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيقضون عليه وعلى دعوته .
قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإمّا أن تكُفّه عنّا وإمّا أن تُخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكَهُ، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه. سيرة ابن هشام
وقد بين القرآن أن هذه سنة الله في كل دعوات الأنبياء والرسل فقال: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) [الزخرف: 23]
قال القرطبي في تفسيره (14/305): قوله تعالى وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها قال قتادة أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر.اهـ
وهذا أمر طبيعي أن يكون أول المعارضين والمحاربين للدعوات التغييرية هم أكثر المستفيدين من الواقع الفاسد ومن القديم البالي الذي ورثوه أباً عن جد .
ونحن إذ نقول بأن الأنبياء والرسل قد عملوا على تغيير أفكار الناس وعلاقاتهم وأعرافهم أي بعبارة أخر المجتمع ندرك صعوبة مواجهة الحكام ومن يساندهم من أهل القوة الرافضين للدعوة كون هذه الدعوة التغييرية ستؤدي إلى تغييرهم والاطاحة بعروشهم وكراسيهم التي طالما استفادوا من وجودهم عليها ، كما أننا ندرك أهمية أهل القوة والسلطة الذين قد يقبلون بالدعوة ويتبعوها في إحداث التغيير في المجتمع وفي فرض الأفكار والأنظمة الجديدة على المجتمع والمحافظة عليها قائمة في الوجود.
ولذلك كان التوجه نحو أهل القوة بالدعوة أمراً في بالغ الأهمية لما لهم من أثر عظيم في إحداث التغيير ويحضرني هنا قصة إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يد سيدنا مصعب بن عمير وهما كانا من سادة قومهما فلما أسلما أسلم بإسلامهما كثير من أتباعهما . وفيما بعد بايع أهل القوة من المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحكم والنصرة والحرب وكان من بينهم أسيد بن حضير رضي الله عنه.
وما كان لينتصر الاسلام وتقام دولته ويؤسس المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة لولا نصرة أهل القوة والسلطة فيها.
ودعونا نتكلم باختصار عن كيفية تحويل مجتمع المدينة الجاهلي إلى مجتمع إسلامي صحيح يحيا حياة إسلامية صحيحة وهو بحق أول مجتمع إسلامي في التاريخ .
فبعد أن تحجر مجتمع قريش عن قبول الدعوة الإسلامية قرر النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعرض نفسه على القبائل يدعوهم إلى دين الله عز وجل .
فأكرمه الله في موسم الحج في عام 11 من البعثة بنفر مكون من ستة أفراد من أهل المدينة آمنوا به وصدقوه ثم رجعوا إلى قومهم . وفي العالم التالي جاء خمسة من الستة بالاضافة إلى سبعة آخرون والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة وبايعوه على الاسلام والطاعة وطلبوا منه أن يرسل معهم أحد الصحابة يعلمهم القرآن وأمور دينهم . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه معهم .
وبعد ذلك بدأ الاسلام ينتشر في المدينة المنورة وأصبحت أفكار الاسلام ومفاهيمه ومشاعره سائدة في مجتمع المدينة وبالاضافة إلى دخول أهل القوة والسياسة في الاسلام واستعدادهم لتسليم القيادة والحكم للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم .
وبعد عام من بيعة العقبة الأولى وفي موسم الحج أيضاً قدم بضع وسبعون نفساً من مسلمي المدينة ليلتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة ويبايعوه على الحكم والنصرة والمنعة تمهيدا لهجرته إلى المدينة المنورة فقد جاء في السير أن المسلمين من أهل المدينة اجتمعوا وقالوا فيما بينهم : حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟
فمعنى كلامهم أنهم أرادوا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فيجد الأمن والآمان ويؤسس الدولة الإسلامية الأولى والمجتمع الإسلامي الأول .
وواقع مجتمع المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه لم يكن مجتمعاً إسلاميا بل هو مجتمع غير اسلامي وإن كان الرأي العام فيه اسلامياً وإن كان فيه كثير من الأفراد المسلمين الذين يحملون أفكاراً ومفاهيماً اسلامية ومفعمين بالمشاعر الإسلامية .
ولم يتحول مجتمع المدينة إلى مجتمع اسلامي حقيقي حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وطبق الإسلام وأحكامه فيها ، وبعد إقامة الدولة الإسلامية الأولى بدأت تنزل الأحكام المتعلقة بكل نواحي الحياة على رسول الله وهو يضعها مباشرة موضع التنفيذ حتى صُبغ مجتمع المدينة بصبغة اسلامية تامة سواءا بأفراده المسلمين أو بالأفكار والمشاعر والأنظمة الاسلامية الشاملة .
أما الذين يقولون بفكرة إصلاح الفرد لإصلاح المجتمع فإنهم يستدلون بقوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم ) [ الرعد : 11]
فقالوا إن الله لا يغير ما بقوم أي ما بمجتمع من انحطاط حتى يقوم كل فرد في هذا المجتمع بتغيير ما بنفسه من انحراف أو معصية حتى يصلح ، فإذا صلح كل فرد على حدة فإنه بمجوع هذه الأفراد الصالحة يتكون عندنا مجتمع صالح .
ومن ثم أصبحت هذه الآية متكأ كثير من الناس بأنه عليك بنفسك ودع الحاكم لنفسه فعطلوا فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا كل فرد مسؤول عن نفسه ولا علاقة له بغيره .
فعندهم أن المجتمع هو عبارة عن مجموعة من الأفراد فقط وهذا فهم سطحي جداً لواقع المجتمع وقد بينا خطأه ولكن ما معنى الآية؟
يبين الله تعالى في الآية الكريمة أن الله لا يغير واقع أي قوم أو مجتمع من واقع معين إلى آخر إلا أن يغيروا ما بأنفسهم من مفاهيم يحملونها تعطيهم طريقة معينة في التفكير وتؤثر في سلوكهم في الحياة .
والقوم قد يدل على المجتمع أو ما دون المجتمع كالأفراد القلة الذين لا يشكلون مجتمعاً.
فالآية عامة في الفرد والمجتمع وهي تدل على أن تغيير واقع الفرد أو المجتمع يكون بتغيير ما بالنفس من مفاهيم عند ذلك الفرد الواحد أو أفراد المجتمع .
والمفاهيم عند الإنسان تتكون بأن يأخذ أفكار معينة فيتبناها ويصدقها فتؤثر فيه وتدفعه لسلوك معين حسبها.
فإذا أردت أن يحبك شخص مثلاً فعليك أن تغير مفهومه عنك بطريقة معينة كأن تعامله معاملة حسنة أو أن تهديه هدية وهكذا تكون قد غيرت ما به (سلوكه نحوك) بأن غيرت ما بنفسه (مفهومه عنك) .
وإذا أردنا النهوض بالمجتمع وتغييره إلى مجتمع راقي لا بد أن يتبنى أفراد المجتمع مفهوم النهضة ومفهوم التغيير وأن يكون عملهم وفق هذا المفهوم .
فمثلاً نهضت المجتمعات الأوروبية عندما تبنوا مفهوم فصل الدين عن الحياة وأن الإنسان يجب أن يكون حراً في حياته فكانت كل مفاهيمهم الأخرى عن الحياة مبنية على هذا الأساس أي أساس فصل الدين عن الحياة .
ونتج عن مفهوم فصل الدين عن الحياة فصل الدين عن الدولة وكانت الدولة بنظرهم هي الحامية للحريات والمشرفة على ضمانها لكل أفراد المجتمع .
فكان عند الغرب مفهوما نحو طريقة العيش ونحو النظام الذي يجب أن يطبق لتنظيم هذه الحياة . أي أن المجتمع الغربي اتفق على أفكار ومفاهيم معينة وارتضى لنفسه نظاما معينا مما أوجد مجتمعاً غربيا رأسماليا ذو صبغة معينة وهوية خاصة. وسمي بالمجتمع الرأسمالي الغربي لأن أبرز ما فيه الناحية الاقتصادية الرأسمالية .
ونفس الشيء بالنسبة للمجتمع الإسلامي الأول فقد قبلوا الإسلام كعقيدة كلية بنوا عليها جميع أفكارهم ومفاهيمهم وقبلوا بأن يكون النظام المطبق عليهم نظام الإسلام .
وعملوا مع نبيهم الأكرم صلى الله عليه وسلم في تغيير واقعهم والنهوض بمجتمعهم بل عملوا لتغيير باقي المجتمعات عن طريق حمل الدعوة الإسلامية إليهم .
فكان المجتمع الإسلامي أناس آمنوا بالاسلام وتبنوا أفكاره ومفاهيمه وكان شعورهم اسلامياً وارتضوا أنظمته التي كانت تنظم جميع شؤون حياتهم وجعلوها موضع التنفيذ .
فكان مجتمعهم متناسقا متماسكا ذو صبغة ولون واحد وكان أرقى وأعظم مجتمع عرفته البشرية على مر أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن .
وفي بداية القرن العشرين عندما ألغيت دول الخلافة وألغي تطبيق نظام الإسلام تحول مجتمع المسلمين إلى مجتمع لا تناسق ولا انسجام بين أفكاره ومشاعره وأنظمته بل فيه مزيج من الأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية وغير الإسلامية مما جعله مجتمع بلا لون ثابت ولا هوية واضحة.
فنسأل الله العلي القدير أن يوفق كل العاملين المخلصين لتغيير واقع المجتمع الحالي وإيجاد المجتمع الإسلامي الصحيح لتحقيق غايتهم المنشودة .
وأن يعينهم في عملهم على استئناف الحياة الاسلامية وتطبيق نظام الاسلام عن طريق اقامة الخلافة الراشدة التي بدونها لا يمكن أن يوجد مجتمع اسلامي حقيقي لأنه فقط بوجود النظام الاسلامي يوجد المجتمع الاسلامي وبانعدامه ينعدم .
أبو محمود
والسيرة النبوي
ينطلق كثير من الناس اليوم علماؤهم وعامتهم من أن تغيير واقع المجتمع يتم من خلال تغيير أفراده فرداً فرداً حتى ينتج عن ذلك تغييراً للمجتمع كله وذلك إنطلاقاً من فهمهم الخاطئ لماهية المجتمع حيث ذهبوا إلى أنه مجموعة من الأفراد فقط وقد اشتهرت عنهم مقولة أصلح الفرد يصلُح المجتمع .
ونحن في بحثنا هذا سوف نبين كيف بيَّن القرآن بآياته حقيقة المجتمع وكيف فهم النبي صلى الله عليه وسلم ماهية المجتمع وعمل على تغييره ونقله من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي راقي .
لا شك أن الله قد أرسل رسله إلى الناس ليبلغوهم شريعة الله ونظامه ويعملوا على تغيير المجتمعات التي أرسلوا إليها من مجتمعات غارقة في الكفر والضلال والمعصية إلى مجتمعات موحدة لله عابدة له وحده تحيا بشريعة الله ونظامه يسودها العدل والطمأنينة والسكينة في كل جوانب حياتها .
ذلك أن الله لم يخلق الإنسان وتركه وشأنه بل خلقه وتولى تدبير شؤونه، فالإنسان عبد لله شاء أم أبى وليس حراً في حياته يحيا كما يشاء ، وكون الإنسان كائن اجتماعي فإنه لا بد له أن يجتمع بغيره من بني جنسه ويكون بينه وبينهم علاقات تربطهم ببعضهم البعض وأنظمة يجتمعون عليها وطريقة في العيش يعيشون وفقها .
وقد بين القرآن الكريم في سرده لقصص الأنبياء مع أقوامهم كيف أنهم قد دعوا أقوامهم إلى توحيد الله عز وجل وعبادته وحده وعدم إشراك أحد معه وكما دعوهم لإتباع شريعة الله وتسيير أعمالهم ومعاملاتهم كلها حسب الحلال والحرام .
فكانت دعوة الرسل لتغيير المجتمعات دعوة لتغيير العقائد والأفكار والمفاهيم من جهة وتغيير العلاقات والأنظمة والأعراف من جهة أخرى .
وهذه بعض النصوص التي تدل على ما قلناه :
قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [الأعراف :59]
وقال تعالى : (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) [الأعراف :65]
وقال تعالى : (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ ) [الأعراف :73]
وقال تعالى مخاطبا موسى عليه السلام : ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ) [طه 13-14]
ثم أيده سبحانه بمعجزات تثبت نبوته وأمره بالتوجه إلى فرعون وقومه لدعوتهم إلى الله. قال تعالى : ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) [القصص:32 ]
ثم قال لهم : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [الشعراء : 16] فهذا أمر من الله لموسى وهارون أن يبلغوا الرسالة وأنهم أرسلوا للدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له .
وقال تعالى عن المسيح : ( وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة :72]
أما خطاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان للناس كافة وليس لقوم دون قوم لأنه خاتم الأنبياء والرسل ورسالته للعالم أجمع . قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [البقرة : 21] لذلك جاءت رسالة الإسلام لتغيير مجتمعات العالم كلها وليس مجتمعا دون مجتمع .
ونختم أخيراً بآية تبين أن جميع الرسل بعثوا من أجل الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله سبحانه وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل : 36].
فهذه الآيات تظهر بوضوح أن دعوة الرسل كانت لتوحيد الله وعبادته وحده وعبادة الله بالمعنى الشمولي هي أن تكون علاقات الناس كلها مسيرة حسب أوامر الله ونواهيه وحسب شريعته سبحانه وتعالى التي جاء بها الرسل.
وعلاقة الإنسان على ثلاثة أنواع علاقته بربه من عقائد وعبادات محضة وعلاقته بغيره من معاملات وعلاقته بنفسه من أخلاق ومأكل وملبس .
ومع أن عبادة الله بالمعنى الشمولي تشمل تسيير علاقات الناس وفقا لأوامر الله ونواهيه إلا أنه ورد في بعض الآيات التنصيص على أن الرسل بالاضافة إلى دعوتهم لتوحيد الله كانوا ينكرون على أقوامهم علاقاتهم الفاسدة ويدعونهم لتغييرها لما يتوافق مع شريعة الله .
فلوط مثلا أنكر على قومه إتيان الذكور دون الإناث فقد قال تعالى : (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ ) [الأعراف 81-80]
فهذا رفض للنظام الاجتماعي الذي ارتضوه لأنفسهم .
وشعيب أنكر على قومه معاملاتهم المالية الفاسدة :
قال تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [الأعراف :85]
وهنا رفض للنظام الاقتصادي الذي ارتضوه لأنفسهم .
وقال المسيح عليه السلام مبينا أنه جاء بشريعة الله : ( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) [آل عمران 50]. فقد جاء لتصحيح ما حرفوه من شريعة موسى عليه السلام التي كانت منظومة من الأحكام الشرعية تنظم علاقات بني اسرائيل خاصة.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هاجم أبا لهب (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) [المسد :1]
وهذا من أعمال التغيير على الحكام والنظام السياسي القائم على غير الإسلام .
وأنكر على المطففين الذين يزيدون في الميزان (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) [المطففين : 1] فهذا رفض للنظام الاقتصادي القائم ، وأنكر وأد البنات (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) [التكوير : 8 – 9] وهو رفض للنظام الاجتماعي القائم .
إذاً اتجه الرسل في دعوتهم لتغيير المجتمعات إلى عقائد المجتمع وعلاقاته وأنظمته فنسفوها من أساسها وبينوا بطلانها ودعوا أقوامهم إلى تركها واتباع شريعة الله ونظامه .
ولا يتحقق هذا الاتباع إلا إن كان هؤلاء الأنبياء والرسل قادة وحكاماً للأمم التي بعثوا فيها لذلك كان عليهم أن يتسلموا القيادة والحكم وأن يحكموا الناس بما أنزل الله ويظهر ذلك جليا من الآيات الآنفة الذكر ففيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ) (أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ) (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) ولا يملك الأمر والنهي إلا الأمير والحاكم أو من يظن نفسه أنه واجب الطاعة كما هو الحال مع الأنبياء والرسل .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه أن الأنبياء والرسل كانوا حكاما وساسة لأقوامهم فقال : كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلّمَا هَلَكَ نَبِيّ خَلَفَهُ نَبِيّ، وَإنّهُ لاَ نَبِيّ بَعْدِي. وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ . متفق عليه من حديث أبي هريرة .
ومعنى تسوسهم أي ترعى شؤونهم بشريعة الله، وقول وإنه لا نبي بعدي أي لا نبي بعدي يأتي ليسوسكم ولكن ستكون خلفاء ساسة عليكم .
ولم يتكون المجتمع الصالح الذي يُرضي الله إلا بعد أن مُكن الأنبياء والرسل في الأرض وحكموا بنظام الله وشرعه ، ومن هنا كان النظام المطبق جزءاً جوهرياً من تكوين أي مجتمع من المجتمعات .
إذاً عندنا علاقات بين أفراد أي مجتمع وعندنا أنظمة تنظم هذه العلاقات ولكن كيف تنشأ هذه العلاقات وماذا ينتج عن وجودها؟
تنشأ العلاقات في أي مجتمع كان، من حاجة أفراد هذا المجتمع لبعضهم البعض ومن اجتماعهم على تبادل المصالح فيما بينهم فيتكون بينهم علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية.
ففي أي مجتمع يوجد من يرعى شؤون المجتمع ويحكمه بأنظمة معينة، فتكون هناك علاقات بين الراعي والرعية وعلاقات بين الرعية أنفسهم من حيث تطبيق القوانين التي يضعها الحاكم لهم .
وتوجد علاقات بيع وشراء وتجارة بكل أنواعها مما يوجد علاقات اقتصادية بين أفراد المجتمع .
وكون المجتمع فيه النساء والرجال فإنه سيكون بينهم علاقات بين الرجال والنساء كالزواج مثلاً مما يضمن استمرارية بقاء أي مجتمع من المجتمعات .
وبوجود هذه العلاقات تتكون مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تحدد طريقة معينة تسير هذه العلاقات وفقها وتكون هذه الأفكار والمفاهيم مقبولة ومتفق عليها عند عامة أفراد هذا المجتمع كاتفاقهم مثلاً على أن يكون الحاكم فيهم أشجعهم أو أقواهم أو ذو نسب رفيع ، وكاتفاقهم على استحسان معاملات معينة كالربا أو غيره ، وكاتفاقهم على جواز أن يتزوج الرجل امرأة أبيه بعد موته وهكذا .
كما أنه ينتج عن الأفكار والمفاهيم التي يتفقون عليها مشاعر مشتركة بينهم فهم يفرحون لما يرونه صواباً كأن يتزوج أحدهم فيفرحون لذلك كونه يفعل أمراً صواباً بنظرهم ، بينما يغضبون لما يرونه خطأً كأن يزنى أحدهم وهم ينظرون إلى الزنا أنه علاقة خاطئة .
ولا بد أن نلاحظ أن ما ذكرناه من حتمية وجود أنظمة تنظم حياة أفراد المجتمع سواءاً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ووجود أفكار ومفاهيم ومشاعر مشتركة بينهم لا يمكن أن يكون إلا إن كانت العلاقات بين أفراد المجتمع دائمية ومستمرة وليست آنية قصيرة .
فإذا اجتمع مثلا مئة شخص في قطار يسافر لعدة أيام فقط فان اجتماعهم هذا ينتهي بمجرد وصولهم للمكان المطلوب، ولكن نفس العدد من الناس يمكن أن يشكلوا باجتماعهم في قرية صغيرة مجتمعاً حقيقيا وذلك لأن علاقاتهم مع بعضهم دائمية مستمرة .
والخلاصة أن أي مجتمع من المجتمعات لا بد أن يتألف من مجموعة أفراد وعلاقات دائمية تربطهم وأفكار ومشاعر يجتمعون عليها وأنظمة تحكمهم .
فإذاً من واقع تعامل حملة الرسالة الإلهية من الأنبياء والرسل مع المجتمعات التي عملوا على تغييرها ومن واقع نظرتنا الدقيقة لواقع المجتمع يمكن أن نستنتج التعريف الصحيح للمجتمع وهو أنه مجموعة من الناس تربطهم علاقات دائمية تنتج عنها أفكار ومشاعر مشتركة بينهم وأنظمة يحتكمون إليها .
وإن أي مجتمع كان، يصنف حسب نوع تلك الأفكار والمشاعر والأنظمة التي تحكم وتسود في المجتمع، فإن كانت أفكاراً ومشاعر وأنظمة اسلامية كان المجتمع اسلامياً وإن كانت رأسمالية كان المجتمع رأسمالياً .
وبالنظر إلى مجتمعنا اليوم نرى أن أفراده مسلمون ولكن أفكارهم ومشاعرهم وأنظمتهم مزيج من الأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية وغير الإسلامية وإن كانت أفكارهم ومشاعرهم أغلبها إسلامية إلا أن أنظمتهم أغلبها غير اسلامية ، وبناءاً على ذلك فإن مجتمعهم ليس إسلامياً.
وإذاً أردنا اليوم العمل على إيجاد المجتمع الإسلامي من جديد فعلينا العمل على تغيير الأفكار والمفاهيم والمشاعر التي يحملها المسلمون والأنظمة التي تحكمهم لتصبح كلها إسلامية صرفة عندئذ فقط نحصل على المجتمع الاسلامي الصحيح، وبإيجاد المجتمع الاسلامي الحقيقي يصلح كل فرد من أفراد هذا المجتمع فتكون المقولة الصحيحة: (بصلاح المجتمع يصلح الفرد وليس العكس).
وبناءاً على الفهم الصحيح لواقع المجتمع نلاحظ أن دعوة الرسل للتغيير كانت تشمل جميع طبقات المجتمع بلا استثناء فقيرهم وغنيهم، ضعيفهم وقويهم ، حاكمهم ومحكومهم ، حيث نجد أن أهل الحكم والمال والنفوذ هم أكثر الناس محافظة على الواقع الفاسد للمجتمع يساندهم في ذلك عامة الناس تبعا لهم ، فكانت دعوة الرسل التغييرية جماعية شاملة وليست فردية ضيقة .
وطبيعة دعوة الرسل والأنبياء هذه التي توجهوا بها إلى كافة أطياف المجتمع وتوجهوا بها إلى علاقات المجتمع فأرادوا تغييرها أدت إلى الصدام العنيف مع القديم الذي اعتادت عليه تلك المجتمعات وأدت إلى مقابلة هذه المجتمعات بعمومها للدعوة بالعداوة والبغضاء والمحاربة والأذى الشديد. ويظهر ذلك جليا في القرآن الكريم من خلال قصص الأنبياء مع أقوامهم عامة ومن خلال الآيات المكية التي تناولت عهد النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم في حمله للدعوة إلى مجتمع قريش خاصة.
ودعونا نستعرض بعض النصوص التي تبين ما قلناه :
فقوم نوح مثلاً ردوا على دعوته لهم رداً عنيفاً وقابلوه بالتكذيب. قال تعالى : (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) [الأعراف: 60 ]. وقال أيضاً : (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ) [الأعراف: 64]
أما قوم هود فقد قابلوه بالتكذيب أيضاً : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) [الأعراف : 66]. (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) [الأعراف : 70]. وهنا يظهر جليا تمسك قوم هود بالقديم وما كان عليه الآباء واستهزائهم بدعوة هود عليه السلام التي جاء بها لتغيير مجتمعهم إلى المجتمع الذي يرضى عنه الله تعالى .
أما قوم صالح فبين الله تعالى أنهم استكبروا وتطاولوا على صالح عليه السلام وعلى الذين اتبعوه من المؤمنين . قال تعالى : ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الأعراف: 75-76]
أما قوم لوط فقد قابلوه بالعداوة وأنكروا عليه إنكاره عليهم فعلهم الفاحشة حتى أنهم طردوه من قريتهم وأبعدوه . قال تعالى : (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [الأعراف: 82-83]
وأما قوم شعيب فقد كذبوه كذلك وراحوا يهددونه بالنفي من قريتهم إن لم يعد في ملتهم ويترك دعوته التي أرسل بها .قال تعالى : (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) [الأعراف : 88] . وقال : (وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:90-92].
وفي سورة هود يروي الله تعالى كيف أنهم أنكروا على شعيب إنكاره عليهم فساد معاملاتهم المالية . (قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : 87].
أما فرعون وقومه فقد تمسكوا هم أيضاً بالقديم وبما جاء به الآباء ورفضوا اتباع هارون وموسى. (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) [يونس : 78].
من هنا يتبين أن الصدام كان عنيفاً بين الأنبياء والرسل وبين أقوامهم بسبب أن دعوتهم لتغيير المجتمع كانت دعوة لتغيير العلاقات القائمة بكل أشكالها ولم تقتصر على اصلاح جوانب ضيقة من العلاقات كالأخلاق مثلاً ويظهر ذلك بشكل أوضح في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم خلال دعوته في مكة وموقف قريش من هذه الدعوة.
ففي أول عهد الدعوة الإسلامية كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تقتصر على بعض الأشخاص المقربين منه أو من الذين يثق بهم ويطمع في هدايتهم وكانت قريش تعرف بوجود الدعوة ولكنها لم تكن تثير اهتمامها لأنهم لم يكن يهمهم وجود من يدعو إلى دين جديد أو أن يترك أحدهم دينه ويعتنق ديناً آخر، بل الذي كان يهمهم ألا يتعرض أحد لدينهم وعلاقاتهم التي ارتضوها لأنفسهم ويدعوهم لتغييرها.
وأما عندما نزل قوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:94]
وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالتفاعل مع مجتمع قريش وبدأوا بالتعرض لدينهم وعلاقاتهم عندئذ كانت المجابهة والمعاداة والمحاربة بكل أشكالها .
وقوبل النبي صلى الله عليه وسلم كأسلافه من الأنبياء والرسل أيضاً من قريش بالتكذيب والتمسك بما جاء به الآباء والأجداد.
فقد قال تعالى في حق قريش : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [لقمان :21] فنرى أن قريشاً كذلك شأنها شأن من سبقها من الأقوام والمجتمعات تمسكت بالقديم وما عليه الآباء
بل قابلت قريش النبي صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء به وبدعوته ووصفوه بأنه مجنون وساحر وكذاب وعلى رأس هؤلاء قادة قريش وحكامها .
(وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص:4].
(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم:51].
حتى أنهم من شدة ما لاقوا من دعوة النبي الأعظم عليه السلام بعثوا وفداً لأبي طالب كي يخلي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فيقضون عليه وعلى دعوته .
قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإمّا أن تكُفّه عنّا وإمّا أن تُخلّي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكَهُ، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً، وردّهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه. سيرة ابن هشام
وقد بين القرآن أن هذه سنة الله في كل دعوات الأنبياء والرسل فقال: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) [الزخرف: 23]
قال القرطبي في تفسيره (14/305): قوله تعالى وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها قال قتادة أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر.اهـ
وهذا أمر طبيعي أن يكون أول المعارضين والمحاربين للدعوات التغييرية هم أكثر المستفيدين من الواقع الفاسد ومن القديم البالي الذي ورثوه أباً عن جد .
ونحن إذ نقول بأن الأنبياء والرسل قد عملوا على تغيير أفكار الناس وعلاقاتهم وأعرافهم أي بعبارة أخر المجتمع ندرك صعوبة مواجهة الحكام ومن يساندهم من أهل القوة الرافضين للدعوة كون هذه الدعوة التغييرية ستؤدي إلى تغييرهم والاطاحة بعروشهم وكراسيهم التي طالما استفادوا من وجودهم عليها ، كما أننا ندرك أهمية أهل القوة والسلطة الذين قد يقبلون بالدعوة ويتبعوها في إحداث التغيير في المجتمع وفي فرض الأفكار والأنظمة الجديدة على المجتمع والمحافظة عليها قائمة في الوجود.
ولذلك كان التوجه نحو أهل القوة بالدعوة أمراً في بالغ الأهمية لما لهم من أثر عظيم في إحداث التغيير ويحضرني هنا قصة إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يد سيدنا مصعب بن عمير وهما كانا من سادة قومهما فلما أسلما أسلم بإسلامهما كثير من أتباعهما . وفيما بعد بايع أهل القوة من المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحكم والنصرة والحرب وكان من بينهم أسيد بن حضير رضي الله عنه.
وما كان لينتصر الاسلام وتقام دولته ويؤسس المجتمع الإسلامي الأول في المدينة المنورة لولا نصرة أهل القوة والسلطة فيها.
ودعونا نتكلم باختصار عن كيفية تحويل مجتمع المدينة الجاهلي إلى مجتمع إسلامي صحيح يحيا حياة إسلامية صحيحة وهو بحق أول مجتمع إسلامي في التاريخ .
فبعد أن تحجر مجتمع قريش عن قبول الدعوة الإسلامية قرر النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعرض نفسه على القبائل يدعوهم إلى دين الله عز وجل .
فأكرمه الله في موسم الحج في عام 11 من البعثة بنفر مكون من ستة أفراد من أهل المدينة آمنوا به وصدقوه ثم رجعوا إلى قومهم . وفي العالم التالي جاء خمسة من الستة بالاضافة إلى سبعة آخرون والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة وبايعوه على الاسلام والطاعة وطلبوا منه أن يرسل معهم أحد الصحابة يعلمهم القرآن وأمور دينهم . فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه معهم .
وبعد ذلك بدأ الاسلام ينتشر في المدينة المنورة وأصبحت أفكار الاسلام ومفاهيمه ومشاعره سائدة في مجتمع المدينة وبالاضافة إلى دخول أهل القوة والسياسة في الاسلام واستعدادهم لتسليم القيادة والحكم للنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم .
وبعد عام من بيعة العقبة الأولى وفي موسم الحج أيضاً قدم بضع وسبعون نفساً من مسلمي المدينة ليلتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة ويبايعوه على الحكم والنصرة والمنعة تمهيدا لهجرته إلى المدينة المنورة فقد جاء في السير أن المسلمين من أهل المدينة اجتمعوا وقالوا فيما بينهم : حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟
فمعنى كلامهم أنهم أرادوا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فيجد الأمن والآمان ويؤسس الدولة الإسلامية الأولى والمجتمع الإسلامي الأول .
وواقع مجتمع المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أنه لم يكن مجتمعاً إسلاميا بل هو مجتمع غير اسلامي وإن كان الرأي العام فيه اسلامياً وإن كان فيه كثير من الأفراد المسلمين الذين يحملون أفكاراً ومفاهيماً اسلامية ومفعمين بالمشاعر الإسلامية .
ولم يتحول مجتمع المدينة إلى مجتمع اسلامي حقيقي حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وطبق الإسلام وأحكامه فيها ، وبعد إقامة الدولة الإسلامية الأولى بدأت تنزل الأحكام المتعلقة بكل نواحي الحياة على رسول الله وهو يضعها مباشرة موضع التنفيذ حتى صُبغ مجتمع المدينة بصبغة اسلامية تامة سواءا بأفراده المسلمين أو بالأفكار والمشاعر والأنظمة الاسلامية الشاملة .
أما الذين يقولون بفكرة إصلاح الفرد لإصلاح المجتمع فإنهم يستدلون بقوله تعالى : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم ) [ الرعد : 11]
فقالوا إن الله لا يغير ما بقوم أي ما بمجتمع من انحطاط حتى يقوم كل فرد في هذا المجتمع بتغيير ما بنفسه من انحراف أو معصية حتى يصلح ، فإذا صلح كل فرد على حدة فإنه بمجوع هذه الأفراد الصالحة يتكون عندنا مجتمع صالح .
ومن ثم أصبحت هذه الآية متكأ كثير من الناس بأنه عليك بنفسك ودع الحاكم لنفسه فعطلوا فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا كل فرد مسؤول عن نفسه ولا علاقة له بغيره .
فعندهم أن المجتمع هو عبارة عن مجموعة من الأفراد فقط وهذا فهم سطحي جداً لواقع المجتمع وقد بينا خطأه ولكن ما معنى الآية؟
يبين الله تعالى في الآية الكريمة أن الله لا يغير واقع أي قوم أو مجتمع من واقع معين إلى آخر إلا أن يغيروا ما بأنفسهم من مفاهيم يحملونها تعطيهم طريقة معينة في التفكير وتؤثر في سلوكهم في الحياة .
والقوم قد يدل على المجتمع أو ما دون المجتمع كالأفراد القلة الذين لا يشكلون مجتمعاً.
فالآية عامة في الفرد والمجتمع وهي تدل على أن تغيير واقع الفرد أو المجتمع يكون بتغيير ما بالنفس من مفاهيم عند ذلك الفرد الواحد أو أفراد المجتمع .
والمفاهيم عند الإنسان تتكون بأن يأخذ أفكار معينة فيتبناها ويصدقها فتؤثر فيه وتدفعه لسلوك معين حسبها.
فإذا أردت أن يحبك شخص مثلاً فعليك أن تغير مفهومه عنك بطريقة معينة كأن تعامله معاملة حسنة أو أن تهديه هدية وهكذا تكون قد غيرت ما به (سلوكه نحوك) بأن غيرت ما بنفسه (مفهومه عنك) .
وإذا أردنا النهوض بالمجتمع وتغييره إلى مجتمع راقي لا بد أن يتبنى أفراد المجتمع مفهوم النهضة ومفهوم التغيير وأن يكون عملهم وفق هذا المفهوم .
فمثلاً نهضت المجتمعات الأوروبية عندما تبنوا مفهوم فصل الدين عن الحياة وأن الإنسان يجب أن يكون حراً في حياته فكانت كل مفاهيمهم الأخرى عن الحياة مبنية على هذا الأساس أي أساس فصل الدين عن الحياة .
ونتج عن مفهوم فصل الدين عن الحياة فصل الدين عن الدولة وكانت الدولة بنظرهم هي الحامية للحريات والمشرفة على ضمانها لكل أفراد المجتمع .
فكان عند الغرب مفهوما نحو طريقة العيش ونحو النظام الذي يجب أن يطبق لتنظيم هذه الحياة . أي أن المجتمع الغربي اتفق على أفكار ومفاهيم معينة وارتضى لنفسه نظاما معينا مما أوجد مجتمعاً غربيا رأسماليا ذو صبغة معينة وهوية خاصة. وسمي بالمجتمع الرأسمالي الغربي لأن أبرز ما فيه الناحية الاقتصادية الرأسمالية .
ونفس الشيء بالنسبة للمجتمع الإسلامي الأول فقد قبلوا الإسلام كعقيدة كلية بنوا عليها جميع أفكارهم ومفاهيمهم وقبلوا بأن يكون النظام المطبق عليهم نظام الإسلام .
وعملوا مع نبيهم الأكرم صلى الله عليه وسلم في تغيير واقعهم والنهوض بمجتمعهم بل عملوا لتغيير باقي المجتمعات عن طريق حمل الدعوة الإسلامية إليهم .
فكان المجتمع الإسلامي أناس آمنوا بالاسلام وتبنوا أفكاره ومفاهيمه وكان شعورهم اسلامياً وارتضوا أنظمته التي كانت تنظم جميع شؤون حياتهم وجعلوها موضع التنفيذ .
فكان مجتمعهم متناسقا متماسكا ذو صبغة ولون واحد وكان أرقى وأعظم مجتمع عرفته البشرية على مر أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن .
وفي بداية القرن العشرين عندما ألغيت دول الخلافة وألغي تطبيق نظام الإسلام تحول مجتمع المسلمين إلى مجتمع لا تناسق ولا انسجام بين أفكاره ومشاعره وأنظمته بل فيه مزيج من الأفكار والمشاعر والأنظمة الإسلامية وغير الإسلامية مما جعله مجتمع بلا لون ثابت ولا هوية واضحة.
فنسأل الله العلي القدير أن يوفق كل العاملين المخلصين لتغيير واقع المجتمع الحالي وإيجاد المجتمع الإسلامي الصحيح لتحقيق غايتهم المنشودة .
وأن يعينهم في عملهم على استئناف الحياة الاسلامية وتطبيق نظام الاسلام عن طريق اقامة الخلافة الراشدة التي بدونها لا يمكن أن يوجد مجتمع اسلامي حقيقي لأنه فقط بوجود النظام الاسلامي يوجد المجتمع الاسلامي وبانعدامه ينعدم .
أبو محمود