بقلم: حسام تمام(1)
تعيش حركة الإخوان المسلمين " حالة تحول " تعاني جرائها مخاض تغيرات كبري وجوهرية تخرج بها من حالة " السكون " التي اعتادها منظار كثير من الباحثين والمراقبين مازالوا يعيدون إنتاج نفس الصورة التي كان عليها الإخوان قبل عقدين أو يزيد، كما أنها تخرج أيضا عن حالة " الثبات " التي تسيطر علي المخيال الإخواني فتحيله إلي صورة طوباوية عن الجماعة "الصامدة" "النقية" "الثابتة" رغم تعاقب المحن عليها عبر ثلاثة أرباع القرن أو يزيد!.إنها حالة " تحول " تجعلنا حين التدقيق بإزاء حركة إخوان أخري غير التي كنا نعرفها قبل عقدين أو ثلاث، حتى ولو تواطأ علي الإبقاء علي الصورة القديمة الأنصار والخصوم.
وأتصور أن أهم ما يميز " التحولات " التي يعيشها الإخوان سمتان رئيسيتان، أولاهما أنها في مجملها تغيرات غير واعية أو مخطط لها مسبقا بقدر ما هي أقرب إلي التغير الذاتي الذي يجري وفق منطق الصيرورة الاجتماعية وهو منطق تسبق فيه الحركةُ التنظيرَ الذي يتأخر ليأتي مكملا لها مؤكدا عليها أو داعما مؤيدا لها بل وأحيانا لا يأتي لتظل الحركة أكثر تقدما من التنظير..وفي كل الأحوال لم يكن التنظير- وهذا حال التحولات دائما داخل الجماعة - مُنشأ أو مؤسساً وإنما تالياً للحركة ومنفصلا عنها.
إنها تحولات تجري وفق منطق البرجماتية الذي طالما وسم المسلكية الإخوانية وأعطاها قدرة علي الاستجابة التغيرات والمستجدات وخاصة فيما يتصل بالعمل السياسي والعمل العام الذي كان الدخول الكثيف للجماعة فيه المحرك والمسئول الأول عن كل ما طالها من تغيير.
أما الملمح الثاني لحالة التحولات التي تعيشها جماعة الإخوان فهو أنها وإن بدأت بالمجال السياسي وربما بسببه فإنها سرعان ما طالت مجمل الحركة الإسلامية الكبرى وغطتها كاملة: مشروعا وتنظيما وأفرادا بل وروحا من دون استثناء وإن بدرجات مختلفة، فرغم أنها جاءت وليدة الدخول الكثيف للجماعة في الحقل السياسي والعمل العام – بشكل أساس- إلا أنها لم تلبث أن تجاوزت المجال السياسي لتنتقل بتأثيراتها إلي شتي مجالات ومسارات الحركة لتدمغها بطابعها وليسيطر عليها منطقها: منطق الصيرورة الاجتماعية.
ولهذا كله فإن أفضل مقاربة لفهم التحولات التي عاشتها وتعيشها جماعة الإخوان هي المقاربة الاجتماعية السياسية، وهو ما يفرضه منطق التحولات الإخوانية التي لا يمكن الوقوف عليها عبر مراجعة النصوص والأدبيات الصادرة عن الجماعة أو المعتمد منها بقدر ما يجب البحث عنها في المسكوت عنه وغير المكتوب بل وغير الواعي من قبل الجماعة في معظم الأحيان.
أول ما سيلاحظه الراصد لتحولات الإخوان أن هذه التحولات ينفصل فيها دائما الفعل عن الخطاب فلا يخضع له ولا ينطلق منه، فمشاركة الإخوان المصريين- علي سبيل المثال- في الانتخابات الطلابية ثم المهنية والمحلية فالنيابية ..كلها كانت سلسلة من التحولات أشبه بالمبادرات التي لم يسبقها أي تنظير بل دائما ما جاء التنظير داعما وليس منشئا لها! هذا الانفصال بين الممارسة والخطاب لدي الإخوان ربما كان السبب الحقيقي فيما يمكن أن نعتبره " فجوة " أو " تناقض " تعانيه الجماعة، وهو ما يظهر في موقف الجماعة من قضية الدولة، فهي تمارس فعلا سياسيا ينتمي إلي لحظة الدولة الوطنية الحديثة التي نعيش في ظلها فيما مازالت أطرها الفكرية والتربوية عاكفة علي تداول أفكار ونظريات سياسية عتيقة تنتمي إلي ما قبل ظهور الدولة القومية.إنها الفجوة التي يدخل منها خصوم الجماعة للطعن في قناتها واتهامها والتحايل بل و"التقية" والازدواجية التي تستبطن فيها اعتقادا وتمارس في الواقع خلافه.
مع اتساع حركة الجماعة وتعدد مسارات حركتها التي يلتقي فيها الدعوي والسياسي مع غيرهما؛ ومع تعدد بل تباين الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمنضوين فيها تتسع هذه الفجوة التي تعيشها الجماعة بين الفعل والخطاب ولكن تبقي هناك حالة " تعايش " بين خطابات وممارسات متباينة بل ومتناقضة، ويساعد علي هذا التعايش ما عرفت به الجماعة تاريخيا من التزام خطاب عام فضفاض يقوم علي قاعدة " أن جماعة الإخوان يسعها ما يسع الإسلام ".
يبقي التجاور بين الخطابات المختلفة داخل الإخوان ولا تحاول الجماعة حسمه أو المفاصلة بشأنه إلا حين تضطر إلي ذلك في لحظة " توتر " تستلزم منها الحسم، وغالبا ما يكون حسما تحت حرج اللحظة وضغط الخصم، تماما مثلما جري في قضية الأقباط ودفع الجزية التي أثيرت في حوار شهير للمرشد الراحل الأستاذ مصطفي مشهور عام 1996.فقد أعلن المرشد وقتها أن الأقباط أهل ذمة ويفترض أن تجري عليهم أحكام الذمة بما تقتضيها من دفع الجزية مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية.
ما فعله السيد مشهور وقتها كان مجرد إعلان لتصور يسود قطاعات واسعة داخل الإخوان بل وداخل المؤسسات الدينية الرسمية في عالمنا العربي بما فيها الأزهر الشريف الأكثر استنارة..كان هذا التصور موجودا ورائجا لكن إعلانه في لحظة فارقة وعلي لسان شخص بوزن مرشد الجماعة أثار حملة واسعة وعنيفة ضد الجماعة دفع بها إلي المراجعة ومن ثم الحسم الاضطراري في هذه القضية والقطع لجهة تغليب تصور كان حاضرا لدي بعض أبناء الجماعة من تيار العمل العام الذين دخلوا التنظيم من بوابة السياسة، وهذا التصور كان يتبني الرأي القائل بضرورة القبول بالاجتهاد الجديد الذي يؤسس لفكرة المواطنة علي أرضية إسلامية وهو اجتهاد كان قد انتهي إليه المفكر الإسلامي المستقل الأستاذ طارق البشري. لقد اضطرت اللحظة " الحرجة " التي وقع فيها الإخوان تحت القصف العنيف للخصوم إلي مراجعة تصور فقهي في قضية صارت ملحة بما يعطل الآلة السياسية الإخوانية، ولم يجد الإخوان حرجا في تجاوز طرح إلي غيره طالما جاءت اللحظة التي تؤذن بالتجاوز لأفكار والإعلان عن القبول التام بغيرها كما حدث بعد ذلك في إعلان الجماعة القبول التام بفكرة المواطنة الكاملة لغير المسلمين.
وسنكتشف هنا أن الخطاب الجديد جاء علي طريقة الاستدعاء لضمان استمرار العمل وليس إنشاءا لهذا العمل، وأن العقدة أو الفجوة تم حلها أو ردمها عبر خطاب إسلامي ظل هامشيا حينا من الدهر، وهو في هذه الحالة خطاب المفكرين الإسلاميين المستقلين الذين كان ينظر إليهم باعتبارهم علي هامش الحركة وجودا وتأثيرا، فإذا باللحظة التاريخية تتيح لهم فعلا وتأثيرا واسع المدي داخل الحركة التي كانت تظن – من قبل- أنها غنية بأفكارها واجتهاداتها ومستغنية عن الآخرين!
لم يكن هناك قصد إخواني يبيت النية في تعدد الأفكار والرؤي داخل الجماعة بشأن قضية واحدة – كقضية الأقباط، ولكن كانت هناك حالة تجاور وتعايش، كما لم يلجأ تقية أو نكوصا إلي تبني طرح جديد في القضية نفسها، إنما الذي حدث أن اللحظة التاريخية هي التي ساعدت علي تراجع طرح وصعود آخر كان كلاهما موجودا وفاعلا من قبل تحت المظلة الإخوانية التي تقول أن الإخوان يسعهم أي تصور أو اجتهاد يسعه الإسلام!
من يتابع المشروع الإخواني في السنوات الأخيرة سيكتشف أنه شهد تحولا بالغ الأهمية انتقل به من أفق الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية العالمية إلي الاستيعاب كاملا في مشروع الدولة الوطنية القطرية الحديثة التي بدا أنها استوعبت المشروع الإخواني بعد أن ظل زمنا طويلا يسعي إلي تجاوزها.
لن يجد الباحث- بالضرورة- مراجعة واضحة صريحة من قبل الجماعة لقضية الخلافة والدولة الإسلامية العالمية أو موقفا واضحا صريحا في الشكل النهائي للدولة" الإسلامية" التي يطمح إليها الإخوان، لكن مراجعة لتفاصيل العمل اليومي والآني وكثير من التصريحات المتناثرة لقادة الجماعة هنا وهناك تقول بلا لبس أن " الرواية الكبرى " التي كانت تعيشها الجماعة وترفعها هدفا نهائيا لمشروعها تفككت وتم تجاوزها تلقائيا ومن دون توقف للمراجعة أو حتى إعلان عن هذا التحول...ومن يتابع الخطاب المسلكية الإخوانية سيلحظ بسهولة أن خطاب إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة قد تواري تماما في السنوات الأخيرة حتى صار لا يكاد يبين!
يكفينا القول في هذا المقام أن أهم الأدبيات الإخوانية التي صدرت في المسألة السياسية في السنوات الأخيرة أغفلت تماما أو سقط منها أي حديث أو إشارة لقضية إقامة دولة الخلافة الإسلامية، فالبيانات الرسمية للجماعة في السنوات الأخيرة – بدءا من ولاية المأمون الهضيبي تقريبا- كانت أقرب إلي بيانات لحزب سياسي محلي منه إلي جماعة عالمية خاصة بعد احتدام جدل الإصلاح السياسي في البلاد، ومن يتابع حفلات الإفطار الرمضانية التي تنظمها الجماعة سنويا سيجد أن المرشد يبدو فيها أقرب إلي رجل الدولة منه إلي قيادة إسلامية عالمية، وأنها دائما ما تحلق في الأفق المحلي حضورا وجدلا ولا تبعد عنه إلي الشأن الدولي إلا بشكل عام غير محدد لا يختلف كثيرا عن مقاربة الأحزاب القومية.
وإذا نظرنا إلي مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة في شهر مارس من عام 2004 والتي يمكن النظر إليها باعتبارها أهم ورقة متكاملة طرحتها الحركة في السنوات الخمس الأخيرة، سنجد أنها خلت تماما من قضية الخلافة وجاءت محلية بحتة غارقة في قضايا وهموم الشأن المصري البحث، بل كانت المفارقة أن أبرز التعديلات التي طالت المبادرة التي كانت تطويرا للبرنامج الانتخابي للجماعة عام 2000 هو إسقاط البعد الخارجي تماما بما فيه القضيتين المركزيتين في العالم الإسلامي؛ فلسطين والعراق!.
وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2005، أسقطت الجماعة تماما كل ما تعلق بقضية الخلافة ليس علي مستوي البرنامج السياسي فقط بل وحتى علي مستوي " الرمزية "، إذ خلت الدعاية الانتخابية من أي إشارة إلي دولة "الخلافة الإسلامية" أو حتى "الدولة الإسلامية" وكانت مفارقة مدهشة أن قارب النجاة أو السفينة التي كانت محور الدعاية الإخوانية في انتخابات 1987 والتي كانت ترمز لجماعة الإخوان كقبطان يقود الأمة في معممات البحار طرأ علي شراعها التعديل فلم يعد سداسيا كما كان يرمز إلي مراحل المشروع الإخواني الستة كما صاغها المرشد المؤسس الإمام حسن البنا ( وهي: بناء الفرد المسلم؛ فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالدولة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية وأستاذية العالم ). لقد جري تعديلها لتصبح رباعية وأسقطت منها خطوتي إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية!
لقد أدي الدخول الكثيف حد الاستغراق في العمل السياسي وما يتعلق به من عمل عام إلي تماهي المشروع الإخواني في حدود الدولة الوطنية التي صارت منتهي سعي المشروع الإخواني الذي بدأ منذ تأسيسه عالميا..وقد أدي الاستغراق في العمل السياسي وتفصيلاته إلي أن يغلب علي المشروع الإخواني الاهتمام بالقضايا الداخلية المحلية وأن تصير مفرداته وموضوعاته محلية بحتة في الأغلب الأعم وصار الخطاب الإخواني أقرب إلي خطاب الأحزاب أو الجماعات الوطنية المحلية منه إلي الجماعات ذات المشروعات العالمية.ومن ثم توارت بهدوء قضايا الخلافة الإسلامية وكل ما يتصل بالمشروع العالمي.
لم يعد هناك حديث إخواني عن الدولة الإسلامية بل صارت تظهر تسميات جديدة بعضها مراوغ- أحيانا- في حسن التخلص من " أزمة " الدولة الإسلامية ، فصارت هناك مقاربات جديدة عن "دولة المسلمين" ثم "الدولة الآذنة بالإسلام" إلي "الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية" التي يطرحها جيل الوسط داخل الجماعة علي لسان أبرز رموزه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد!.
لقد قطع الإخوان شوطا كبيرا في قضية الانتقال من التصور الديني لشكل الدولة إلي تصور مدني، وتجاوزوا في هذا الانتقال خطاب الأزهر الشريف والمؤسسة الدينية الرسمية. وما قدمه الإخوان في قضية المواطنة يبدو بالغ الدلالة إذ تبنوا التأسيس الشرعي لها متقدمين علي الخطاب الديني الرسمي السائد حتى في الأزهر الشريف رمز الاعتدال والوسطية ..وشهدت السنة الأخيرة التي احتدم فيها جدل الإصلاح في مصر تصريحات من قيادات إخوانية نافذة – خاصة من جيل الوسط- تعلن القبول بالمواطنة الكاملة حتى لو انتهت برئيس غير مسلم إذا ما جاءت بها صناديق الانتخابات، وهو تصريح يصعب أن يصدر عن الحزب الحاكم ( الحزب الوطني الديمقراطي) أو المؤسسات الدينية الرسمية ( الأزهر الشريف ) ، بل ولم يجد بعض قادة الإخوان( مثل الدكتور عصام العريان ) حرجا في القبول بتأسيس حزب مسيحي وهو إعلان لم يسبق إليه تيار سياسي أو ديني معتبر في الحياة السياسية بمصر حتى داخل الكنيسة نفسها بل وهو أقرب إلي أن يكون خروجا عن المستقر والسائد في مصر.
إن مراجعة سريعة في مواقف الإخوان من القضايا السياسية والاقتصادية الاجتماعية في مصر تقول إن الجماعة صارت أقرب إلي حزب وطني قطري بل وحزب يميني ذو توجهات ليبرالية في المسالة الاجتماعية الاقتصادية حيث القبول أو عدم الممانعة للتحولات التي طالت البلاد باتجاه أقرار سياسيات التحول الاقتصادي نحو تبني اقتصاد السوق القائم علي الخصخصة وإعادة الهيكلة وحرية التجارة وانسحاب الدولة.
وربما اقتصر اختلاف الطرح الإخواني في هذه القضايا علي الإضافات الأخلاقية دون أي اختلافات جذرية حيث مازالت المسألة الأخلاقية تلقي اهتماما إخوانيا دائما ما نراه في التشديد علي محاربة العري والتحلل الأخلاقي والتأكيد علي ضرورة التزام وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والفنية والنخبة المثقفة بأخلاق المجتمع وتقاليده.
إنه التزام بأخلاقية لا تخفي وراءها بالضرورة طرحا مغايرا عن السائد، بل هي أخلاقية لم يعد يختلف فيها الإخوان كثيرا عن المجتمع المصري الذي تكونت لديه – في السنوات الأخيرة خاصة- حساسية في المسائل الأخلاقية..لا يكاد يستثني منها شريحة من شرائحه، بل صارت موضوعا للمزايدة حتى من قطاعات كانت بعيدة تقليديا عن هذه المساحة..سنلحظ ذلك في أزمة مصادرة الروايات الثلاث التي تتضمن "خروجا" أخلاقيا التي صدرت عن وزارة الثقافة، فبالرغم من أن أحد نواب الإخوان في البرلمان هو من فجر القضية إلا أنه لم يطالب بالمصادرة بل بألا تصدر بأموال دافعي الضرائب، فإذا بقيادة الحزب الحاكم تصعد القضية إلي الدعوة للمصادرة، فتفاجئ وزارة الثقافة الجميع بسحب الروايات وإقالة المسئولين عن نشرها دفاعا عن الأخلاق والقيم والدين الإسلامي!
التحولات التي طالت مشروع الإخوان ونقلته من التحليق في يوتوبيا دولة الخلافة إلي الاستغراق في واقع الدولة الوطنية لحقت -أيضا- برافعته أو إطاره التنظيمي، أو التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تأسس وانطلق ليكون الرافعة السياسية لتحقيق المشروع الإسلامي والذي علي شاكلته كان يفترض أن يقوم ويتحقق حلم دولة الخلافة الإسلامية.
يتحدث المراقبون وكذا الإخوان عن "التنظيم الدولي" فتطل من بين أحاديثهم صورة أسطورية يبدو فيها كما لو كان هناك تنظيم عالمي يمسك بقبضة من حديد بالتنظيمات القطرية المحلية فيجمعها علي رؤية واحدة ويقودها بسياسة موحدة تسير بالجماعة العالمية في طريق تحقيق الهدف الواحد..غير أن دراسة موسعة للتنظيم وما طرأ عليه من تحولات في العقد الأخيرين تقول أن الواقع مختلف تماما، وأن هذه الصورة هي أبعد ما تكون عن الحقيقة وأقرب للوهم الذي يتصوره المراقبون ويستعذبه الإخوان كما يستعذبون أمجاد السلف.
بدأ التنظيم العالمي يتشكل نهاية السبعينيات من ممثلي التنظيمات القطرية وقاد عملية تأسيسه عدد من الرعيل الأول من قادة الجماعة في مصر كان معظمهم من رجال تنظيم الخاص الذين تسيطر عليهم فكرة استعادة دولة الخلافة الإسلامية من أبرزهم الأساتذة مصطفي مشهور وكمال السنانيري وأحمد حسنين ونفيس حمدي..خرجوا جميعا من السجون الناصرية التي قضوا فيها سنوات طويلة حتى قرار الرئيس السادات بالإفراج عنهم في أوائل السبعينيات، وفي سنوات معدودة نجحوا في تجميع خيوط التنظيمات الإخوانية المتناثرة خاصة في الخليج وأوربا، وأسسوا نواة تنظيم دولي محكم له لائحة منظمة وقيادة محددة وأعلنوا ميلاده رسميا في مايو 1982.
استمر نجم التنظيم الدولي في الصعود طوال عقد الثمانينات وبعضا من سنوات التسعينيات، وصار الحديث عنه يجذب أنظار الخصوم والأنصار علي السواء، ولكن التحولات التي طالت الجماعة تقول أن التنظيم الدولي لم يعد يبقي منه إلا الذكري والبريق الذي يخطف الأنظار في حين أن الواقع يؤكد أن هذا التنظيم "الأسطوري" لم يعد له أي سلطة توجيه أو ضبط أو إلزام علي التنظيمات القطرية التي استقلت تماما في قراراتها حتى المصيري منها أو الاستراتيجي.علي عكس ما تقتضيه طبيعة التنظيم ولوائحه التي كانت تفرض مستوي من التنسيق والتشاور يضمن وحدة الرؤية والموقف في القضايا السياسية الكبرى وهو ما لم يعد واقعا.
لن أطيل في هذا المقال في سرد تحولات التنظيم الدولي للإخوان فقد كتبت دراسة موسعة في ذلك نشرتها فصلية المنار الجديد، ولكن سأكتفي في هذا المقام بسرد وقائع لها دلالاتتها فيما نذهب إليه بشأن التنظيم الدولي.
ففي منتصف التسعينيات اتخذ تنظيم الإخوان في الجزائر ( حماس قبل أن يتحول إلي حمس) قرار ترشيح زعيمه الشيخ محفوظ نحناح في انتخابات رئاسة الجمهورية– وهو أكبر منصب ترشح له مسئول إخواني- دون العودة لقيادة التنظيم العالمي رغم خطورة القرار الذي لا سابقة له في تاريخ الإخوان، ثم دون رضا التنظيم الدولي حين اعترض قادته علي قرار ترشيح نحناح!
أكثر من هذا فإن تنظيم الإخوان القطري في العراق – الحزب الإسلامي- أخذ قرار القبول بالمشاركة في مجلس الحكم الانتقالي الذي كان يرأسه ممثل جيش الاحتلال الأمريكي بول بريمر دون العودة لقيادة التنظيم العالمي ثم دون رضاه، وأصر علي قراره في الوقت الذي أصدر جاره الإخواني في الأردن – جبهة العمل الإسلامي – بيانه بإدانة المجلس وتخوين بل وتكفير من يشارك فيه أو يقبل به! أما المرشد العام للجماعة السيد مهدي عاكف فلم يعقب في المسألة وترك الأمر وحق حسمه إلي إخوان العراق دون غيرهم، واعتبر أن أهل مكة أدري بشعابها!
ثم صارت سياسة عامة ألا تتدخل قيادة الجماعة في قرارات التنظيمات القطرية فلم يعقب السيد مهدي عاكف علي قبول تنظيم الإخوان في سوريا بقيادة صدر الدين البيانوني الدخول في تحالف مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس المنشق لإسقاط النظام برعاية أمريكية! يصر الإخوان علي الحنين إلي صورة التنظيم العالمي الحديدي المتماسك ويبالغون في تقدير حجمه ودوره ويتابعهم في ذلك خصوم يجدون في هذه الصورة ما يبرر إشاعة الخوف والرعب من الإخوان في حين أن الواقع يختلف تماما عن هذه الصورة.
الواقع يقول أن الانغماس في العمل السياسي جعل المصلحة العليا هي المصلحة الوطنية سواء للتنظيم القطري أو لمشروعه الوطني، فهموم هذه التنظيمات وحساباتها قطرية وطنية بحتة لا يحتل فيها البعد العالمي إلا مساحة ضئيلة جدا تعكس في النهاية وتوظف لمصلحة المحلي الوطني، ومن هنا رفضت قيادة التنظيم القطري في فلسطين – حركة حماس- الوساطة التي طلبها الراحل ياسر عرفات من قيادة الإخوان في مصر للضغط علي حماس في إطار المفاوضات بينها وبين فتح، وغلبت حماس مصلحتها أو رؤيتها لمصلحة التنظيم القطري علي أي اعتبارات أخري بما فيها التقدير للقيادة التاريخية لإخوان مصر.
كما أن المناخ الدولي ساعد أيضا في هذه التحولات التي طالت التنظيم الدولي، فقد انتهت حقبة الحرب الباردة، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم كقطب وحيد من دون منافس وحين وقعت هجمات سبتمبر عام 2001 وبدأت حربها العالمية علي ما أسمته بالإرهاب أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الإخوان التي فضلت التخفف من "العالمية" خاصة حين ترتفع كلفتها السياسية بما لا تطيقه ومن دون عائد..وبدأ كل تنظيم يعكف علي شئونه وشجونه الخاصة مع الاحتفاظ بنوستالجيا- الحنين إلي حقبة التنظيم الدولي الواحد! لم يصدر أي مراجعة أو تعديل في القانون الأساسي للتنظيم الدولي للإخوان بما يستجيب لهذه التطورات، وهو ما يؤكد نظرتنا بأن من القصور الاكتفاء بدراسة الإخوان من خلال الوثائق والأدبيات، وأقصي ما صدر في قضية التنظيم الدولي هو حديث بعض قيادات الجماعة الأكثر واقعية وانغماسا في العمل السياسي والعام – مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح- عن أن التنظيم الدولي صار فكرة غير واقعية وطوباوية وأن تكلفته السياسية أكبر بكثير من فائدة التمسك به وأنه من الأفضل تطويره كمنبر للتنظيمات الإخوانية التي تلتقي علي الفكرة الإخوانية في العالم كما هو العالم في منتدى الاشتراكية الدولية الذي يجمع الأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم أو المؤتمر القومي العربي الذي يجمع الأحزاب القومية في العالم العربي.
غير مشروع الإخوان المسلمين فتحول من مشروع استعادة دولة الخلافة إلي مشروع مستغرق كلية في الدولة الوطنية، وقد واكب هذا التحول أو ترتب عليه تحول لا يقل أهمية في الجماعة نفسها التي توارت عنها صورة الجماعة المفتوحة الشمولية التي تقدم نفسها ممثلا وحيدا للأيدلوجية الإسلامية وبدأت تبرز صورة جديدة تحمل نوعا من الخصوصية الإخوانية التي تتمايز عن غيرها من "الإسلامية".
فيما مضي كان الإخوان المسلمون يمثلون الواجهة الرسمية للأيدلوجية الإسلامية التي اجتاحت مصر والعالم العربي بدأ من السبعينيات ووصلت قمتها في نهاية الثمانينات، والتي كان شعارها أو روايتها الكبرى إقامة الدولة الإسلامية، وهو شعار كان يستقطب بريقه قطاعات وشرائح وأعمار بالغة التنوع والاختلاف ويخفي وراءه تناقضات طبقية ومصلحية تكاد تصل حد الصراع لو تهيأت لها سبله، وكانت هذه الأيدلوجية التي استطاع الإخوان احتكارها حصرا قادرة علي أن تلهم الطبقات المحرومة والمهمّشة وترى فيها طريقا للخلاص من كل ما تعانيه من فقر وتهميش وظلم اجتماعي كما كانت تلهم في الوقت نفسه الطبقات الوسطي والبورجوازية التي وجدت فيها استجابة لمصالحها هي الأخرى بدأ من تلبية الاحتياجات الأخلاقية انتهاء بمنحها فرصة للحراك الاجتماعي صعودا في سلم السلطة، وكانت الأيدلوجية نفسها تجذب إليها المتمردين ذوي النزعات الثورية الراغبين في المواجهة العنيفة مثلما ينضوي تحتها المندمجون اجتماعيا من أبناء البورجوازية التي طالما أحكمت وأجادت فن التفاوض والمساومة.
لقد أدي الدخول البراجماتي والكثيف للإخوان في السياسة إلى تخليهم عن الرواية الكبرى – الدولة الإسلامية – والالتزام بطرح برنامج لا يبعد كثيرا عن برامج الأحزاب الوطنية الأخرى، ، بل والليبرالية منها علي وجه الخصوص.
من يتابع الخطاب الإخواني في الفترة الأخيرة يلاحظ غياب مفردات الرواية الكبري من الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة والوحدة السياسية الجامعة لكل الأمة الإسلامية ومفاهيم أهل الذمة، كما سيلاحظ حضور مكثف ومتصاعد لمفردات خطاب جديد لا علاقة له بالقديم وإنما يرتبط بمشروع حزبي سياسي بامتياز حتي وإن لم يعلنه أصحابه كاملا.
فالبرنامج السياسي للإخوان تتأكد يوما بعد يوم مفارقته – تماما- لكل ما كان يقدمونه عن "المشروع الإسلامي"، باتجاه برنامج ديمقراطي بعيد عن الأرضية الدينية التي كانوا ينطلقون منها ، فكثر حديثهم عن الاحتكام التام للشعب أيا كانت خياراته، والقبول بحق ومبدأ تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب مهما كانت، وأن حكم الشريعة مرتهن بقبول الشعب له؛ مع اتجاه للتخفف من المرجعية الدينية ففي العمل السياسي قياسا بما كان يحدث من قبل.
لقد اضطر الإخوان بفعل الدخول الكثيف في العمل السياسي إلي أن يقولوا كلاما محددا بعيدا عن العموميات الفضفاضة التي كان يحرصون عليها وهو ما كان له أثر بالغ علي مقدرتهم السابقة علي الحشد الواسع لقطاعات متعددة ومتباينة في المجمتع.
وواكب ذلك تحول ثان بالغ الأهمية طال هذه المرة الدولة المصرية نفسها التي عاشت تحولات اقتصادية كبرى كانت تصب جميعها ضد مصالح الطبقات الفقيرة ، فكان أن بدأت هذه الأيدلوجية في التفكك لتكشف عما وراءها من تناقضات طبقية ومصلحية هائلة أكبر من أن يستمر تسترها وراء أيدلوجية تخلي عنها ممثلوها الرسميون.
تنحدر الغالبية العظمى لقواعد الإخوان المسلمين من الطبقة الوسطى، ورغم وجود الإخوان وانتشارهم في شتى أنحاء البلاد يقل وجودهم التنظيمي في الطبقات الفقيرة، ويهتم المسئولون عن التجنيد بتجنب التوسع في ضم عناصر من الطبقات الفقيرة إلا لحساب ميزات استثنائية تتمتع بها هذه العناصر دون أن تكون هذه قاعدة معلنة، ويعد الانضمام للجماعة أحد آليات الصعود الاجتماعي في الطبقات الدنيا، إذ تتيح الجماعة لأعضائها فرصة للتحقق والصعود الاجتماعي من خلال شبكة حماية اجتماعية كبرى، وتساعد هذه الشبكة على تأمين الحد الأدنى من الضمان الاجتماعي للأعضاء والمساعدة للمتعاطفين والمؤيدين والأنصار، وتعتمد الجماعة في ذلك على سيطرتها وإدارتها لعدد كبير من المساجد ومؤسسات البر والصدقات التي تمارس دورا مهما في غياب مظلة حماية من الدولة.
وجاء موقف الإخوان من التحولات الاقتصادية للبلاد باتجاه الانفتاح واقتصاد السوق لتؤكد أن الجماعة اتجهت إلى اليمين الرأسمالي بفعل التركيبة الداخلية واتساع حجم ودور رجال الأعمال فيها، وهو توجه أكدته مجمل التحولات الدينية في البرجوازية المصرية المتدينة سواء التي ترتبط بالجماعة أو التي تدور في فلك ما عرف بظاهرة الدعاة الجدد، وخلت مواقف وأدبيات الإخوان – وآخرها مبادرة الإصلاح الصادرة في مارس 2004 – من أي تمثيل لهموم الطبقات الدنيا.
لقد أدت هذه الاستراتيجية إلى انفصال تدريجي للجماعة عن الطبقات الفقيرة والمهمشة، الآخذة في الاتساع والمعاناة،على مستوي الانتشار التنظيمي ثم على مستوي المشروع الذي تطرحه والذي لم يعد يمثل إلا طموحات البورجوازية المصرية المتوسطة المتدينة، وهو انفصال ظهر جليا في غياب هذه الطبقات كأشخاص أو كبرامج أو حتى كشعارات في تظاهرات وتحركات الإخوان الأخيرة.
لم يعد مشروع جماعة الإخوان يمثل الطبقات الفقيرة حتى المتدينة منها والتي تعاني جراء التحولات الاقتصادية، وربما كانت الجماعة الإسلامية الأقرب إلى تمثيل هذه الطبقات لولا صدامها المسلح مع النظام ، ومن هنا يمكننا فهم أهمية المشروع الذي كان يطمح إليه الراحل عادل حسين المفكر والسياسي الإسلامي القادم من صفوف اليسار الواعي بالتناقضات الطبقية بحكم ماركسيته، وهو مشروع تسييس كوادر هذه الجماعة وإسلاميي الضواحي وأحزمة الفقر وضمهم لحزبه – حزب العمل – بديلا عن المواجهة المسلحة مع النظام التي يقدر ضحاياهم فيها بما بين 20 إلى 30 ألف معتقل، ولولا صدام الحزب نفسه مع التنظيم وتجميده إداريا لكان حزب العمل الإطار التمثيلي المناسب لهذه الطبقات التي سقطت من خطاب وحركة الإخوان.
وإذا تجاوزنا الطبقات الفقيرة إلى الطبقة المتوسطة والبرجوازية ، سنفاجأ في ضوء التحولات الكبرى التي عاشتها الظاهرة الدينية في مصر أننا لا نستطيع النظر إلى الإخوان باعتبارهم الممثلين الوحيدين للطبقة المتوسطة وللبورجوازية المتدينة، فالحالة الدينية المصرية تجاوزت الأطر التنظيمية ولم تعد خاضعة لها، بعدما تفتت الأطر التي حكمتها وظهر فاعلون جدد من خارج التنظيمات أكثر قدرة على الفعل والتأثير وجذب الجماهير كما هو الحال في عمرو خالد والدعاة الجدد، كما أن المزاج الديني العام لم يعد يلقي بالا للسياسة وإن دخلها فليس على طريقة الاصطفاف الأيدلوجي والتنظيمي التي يجدها عند الإخوان، فأمام الشاب الملتزم دينيا أطر أخرى بديلة للتعبير السياسي الأكثر حرية وأمنا تبدأ من حزب الوسط الواقف على تخوم الشرعية وصاحب المرجعية الإسلامية المنفتحة وانتهاء بحركات الاحتجاج السياسي بما فيها حركة كفاية التي تتجمع على حاجات مطلبية وليس على اصطفاف أيدلوجي...هذا إذا افترضنا أن هذه البورجوازية لها مصلحة أصيلة ومتفق عليها في تغيير الوضع الحالي.
لم يعد الإخوان وحدهم في الساحة الإسلامية بل استقرت ظاهرة "المفكرين الإسلاميين المستقلين" وتنامي تأثيرهم، ولحق بهم "المثقفون الإسلاميون" الخارجون عن التنظيمات والمؤسسات الإسلامية ، وبرزت ظاهرة "الدعاة الجدد" التي احتلت صدارة المشهد الإسلامي في مصر وصارت أكثر حضورا في صياغة الوعي الإسلامي من جماعة مثل الإخوان، وكان هذا إيذانا بتأكيد الخصوصية الإخوانية التي تختلف عن غيرها من الأفكار والدعوات الإسلامية.
ومثلما تغير المشروع وإطاره التنظيمي تغيرت القواعد الإخوانية. لم يعد "المناضل" الإخواني هو نفس " المناضل" ذي التكوين الأيدلوجي المغلق أو ابن الثقافة الإخوانية " النقية "، لقد انفتحت هذه القواعد علي مراجع ثقافية وفكرية بل وشرعية مختلفة بما يستدعي النظر في أسطورة " النقاء " الإخواني التي ظلت مهيمنة.
في حقبة السبعينيات إلي نهاية الثمانينيات كانت تروج في القواعد الإخوانية مقولة الشهيد سيد قطب (جيل قرآني فريد) التي كانت عنوانا لأحد فصول كتابه (معالم في الطريق)..كان لهذه المقولة فعل السحر في سعي قيادات الجماعة وكوادرها إلي الوصول لنموذج الوحدة الفكرية التي تؤسس للقاعدة " النقية " في منطلقاتها الشرعية وتأسيسها الفكري وفي معاملاتها بل وفي صورتها وهيئتها أو ما كان يعرف ب" الهدي الظاهر".وكلها كانت تتحالف علي بناء "مناضل" إخواني "نقي" و"مختلف" عن أقرانه وزملائه في بيئته. غير أن تحولات كثيرة – خاصة علي علي المستوي الاجتماعي والاقتصادي- جعلت هذه المقولة أقرب إلي أحلام الرومانسية أو- في أفضل الأحوال- إلي ذكري جميلة من مرحلة " البراءة " التي يحن إليها المناضل الإخواني ويجترها في حديث الذكريات دون أن يلتزم بالسعي إلي تحقيقها.
لقد حلت بدلا منها مقولات أخري تعكس الرغبة في الانفتاح وتنوع الأفكار والمراجع دون النظر إلي التمييز أو المفاصلة الفكرية والعقدية الحادة التي كانت تسم هذا المناضل، انفتح " الكادر" الإخواني علي الدنيا بعد أن فتحت أبوابها أمامه، ولم تعد مقولات النقاوة والمفاصلة تناسبه ، وربما حل بديلا عن مقولة قطب في الوعي الإخواني مقولات أخري؛ دينية أيضا لكنها تعكس هذه الرغبة في الخروج من أسر "النقاوة" والكف عن رؤية العالم من ثقب الأيدلوجيا، فتوارت من خطابه ووعيه مقولة قطب لتفسح الطريق لأثار أخري مثل: ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) و(الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها).
الكادر الإخواني يقرأ في التراث الإسلامي أقل مما يقرأ في شئون الحياة، وتزخر مكتبته بمجموعات ستيفن كوفي في علم الإدارة وروايات باولو كويلو ..ولا يشعر بحرج أن يقتبس في إحالاته إلي فلاسفة ومفكرين غربيين وغير مسلمين بل وربما رآها عنوانا للثقافة والتميز علي خلاف ما كان عليه أسلافه في جيل السبعينيات
وهو ينفق جزءا لا باس من تفكيره في الإجابة عن سؤال: أين وكيف يقضي عطلة الصيف؟، يذهب إلي السينما ويتناقش في آخر ما شاهده من أفلامها، ويقتني الأطباق اللاقطة وإن سعي في بعض الأحيان لتشفير القنوات الإباحية، لكنه فيما عدا ما يجرح الأخلاق مقبل علي المتعة والترفيه خاصة مباريات كرة القدم التي لم يعد يختلف "المناضل" الإخواني في حبها ومتابعتها والاهتمام بها عن بقية أفراد الشعب المصري الذي يذوب فيها عشقا. لقد كف " المناضلون" الإخوان عن التهكم علي "الولع" المصري بكرة القدم ولم يعودوا يرونها مظهرا للخفة أو مضيعة للوقت أو وجها من وجوه الانصراف عن قضايا الأمة كما كانت نظرتهم من قبل. لقد أدان نواب الإخوان في البرلمان مثل غيرهم تشفير مباريات كاس الأم الأفريقية الأخيرة وحرمان الشعب المصري من متعة مشاهدتها، وشاركوا غيرهم من السياسيين في نصب شاشات العرض في الساحات الكبرى لتشاهد الجماهير المصرية المباريات مجانا! وحين فاز المنتخب المصري بالبطولة سارع رئيس الكتلة الإخوانية في البرلمان إلي إصدار بيان تهنئة بالفوز ولم تمض عليه ساعات حتى اصدر المرشد العام – في سابقة هى الأولى- بيانا رسميا للتهنئة بالإنجاز القومي الذي حققه اللاعبون المصريون!
انفتاح الكادر الإخواني ودخوله في تفصيلات الحياة ومعاركها جعله أقرب إلي " العادية "، وانتزعه أو انتزع منه روح الاستعلاء والتفرد والإحساس المبالغ فيه بالرسالية التي تجعله مختلفا بل ومميزا في سلوكه وأفكاره وطريقته في الحياة..فهو دخل في فضاء العمل العام وما يستدعيه من علاقات ومشاعر وعواطف وما استلزمه – بالضرورة – من الوقوع في الأخطاء مثل بعض وقائع الفساد المالي والإداري بل والأخلاقي التي نسبت لكوادر إخوانية خاصة في تجربة إدارة العمل النقابي ، وهو ما رفع عنه هالة القداسة وقربه من غيره من كوادر الحركات السياسية والاجتماعية الأخرى.
لقد بدأنا نري ونسمع عن القيادي الإخواني الذي توجه إليه تهم التحرش بموظفات عنده ( رغم عدم التيقن من صحتها واحتمال كونها جزء من خصومات سياسية) وعن القيادي الإخواني البارز الذي يقع ابنه في حب فتاة عصرية في ملبسها ورؤيتها من خريجات الجامعة الأمريكية ويتقدم لزواجها رغم أن والدها الفنان عادل إمام هو أكثر فناني مصر هجوما علي التيار الإسلامي وسخرية منه في أعماله التي تزيد فيها جرعة الإثارة والجنس! ثم لا يمانع والده في ذلك بل يحشد للمناسبة قيادات الجماعة وعلي رأسها المرشد العام!!. وزاد من تحولات الكادر الإخواني المنفتح نحو " العادية " طبيعة الخطاب الإخواني الذي غلب عليه الحرص علي عدم الدخول في التفصيلات بما أدي إلي تعدد الخطابات والاتجاهات إلي حد التناقض تحت مظلة الجماعة الواحدة ،فصرنا بإزاء جماعات الإخوان وليس جماعة واحدة مهما قيل عن الوحدة الفكرية الجامعة، فهناك رؤى إخوانية تتعدد من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تتفاوت رؤيتها السياسية ما بين الاندراج في حزب سياسي قطري يدعم دولة عصرية وما بين أفكار مازالت تستدعي صورة غائمة لدولة الخلافة الإسلامية العالمية، كما تتجاور فيها مقولات أهل الذمة مع قاعدة المواطنة دون حسم أو تمييز..ويصعب دائما يصعب تحقيق الفرز وتنعدم الرغبة فيه مع استمرار تمسك الجماعة في خطابها بتقديم نفسها كعباءة تتسع لكل العاملين بالإسلام مع تحديد سقف واسع يحكم الجميع وهو مبدأ السمع والطاعة لقيادتها مع نبذ العنف منهجا. لذا نجد بين كوادر التنظيم أزهريون وأنصار سنة وجمعية شرعية وتيار سلفي وجهاديون سابقون وسياسيون بدأوا في أحزاب سياسية أخري و..وقطاعات من العمال والفلاحين تنحصر علاقتها بالجماعة في كونها الإطار أو الصلة التي تربطها بالله!
ثم جاءت التطورات- التي أشرنا إليها- في حقل التدين لتنهي أي حديث عن النقاوة الأيدلوجية في القاعدة الإخوانية، فمع تراجع دور المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، صار تأثير الخارج ثقافيا وفكريا في الداخل الإخواني أكبر بكثير وذلك عبر ظاهرة الدعاة الجدد وقبلها المفكرون الإسلاميون المستقلون التي تعكس حجم تأثر الصف الإخواني– بدلا من تأثيره- بمقولات وأفكار لم تنتجها الجماعة وإنما جاءت من لمفكرين ودعاة من خارجها.
التحولات التي رصدناها تعكس تحولا في الروح الإخوانية التي عرفناها قبل عقدين من الزمان، لقد أدي خروج الإخوان من الرؤية الكلية أو الرواية الكبرى للعالم والدخول في الواقع والآني والاشتباك مع تفاصيله وأجزائه الصغرى واندماج الجماعة اجتماعيا في النسيج الاجتماعي المصري إلي خفوت النفس النضالي الثوري الذي يطمح إلي تغيير العالم، وهو ما كان ملمحا بارزا للجماعة في مدها الثاني (حقبة السبعينيات).
كان " الحلم " أبرز سمات جيل السبعينيات الذي قام بالتأسيس الثاني للجماعة، كان تغيير النظام مجرد خطوة بسيطة في عمل لا تنتهي خطواته إلا بإعلان دولة الخلافة الإسلامية العالمية، وكان الطريق إلي الخلافة أقصر من الانتظار بل هو من القصر بما يغري بالانتقال إلي ما بعده: ما شكل الخلافة؟ وأين سيكون مقرها؟ بل وما الشعار المفترض لها؟!..وكلها أسئلة كانت تطرح للنقاش ليس في اللقاءات الخاصة فقط بل وفي الدروس العامة، وكانت مبشرات تحقق الحلم جزءا من معاش يومي ونقاشات لا تتوقف بين "الأخوة"
كان طموح هؤلاء الشباب من طلاب الجماعة ليس أقل من " التغيير الشامل " لوجه الأرض العالم الذي يجب أن يرحب بهم وبما ينتظره منهم..كان شعارهم الأثير: صُمّت أذن الدنيا إن لم تسمع لنا!
كان لدي إخوان هذا الجيل رغبة عارمة في التغيير الجذري لبناء مستقبل وعالم آخر صاغته رؤية مثالية حالمة لكنها قادرة علي أن تشحذ همهم للفعل.
لقد تراجع "الحلم" بتغيير العالم حتى لدي جيل الشباب فضلا عن الكبار، فطموحات شباب الإخوان في الجامعة لم تعد تتجاوز السماح لها بالترشح في الانتخابات الطلابية، وأقصي مطالبهم صارت إصلاح اللائحة الطلابية والعودة إلي لائحة 1979! ، وإلي قبيل اندلاع مظاهرات الإصلاح في ربيع العام الماضي كان أهم نشاط أقامه شباب الإخوان في الجامعة في العام الماضي ( 2004-2005 ) هو مظاهرة نظموها في جامعة الإسكندرية للتنديد بالعري والابتذال في أغاني الفيديو كليب! أما أقرانهم في جامعة القاهرة فكان قمة فعالياتهم تنظيم يوم طلابي بمناسبة عيد الحب أطلقوا عليه اسم ( يوم محمد ) Mohamed Day! لتقديم رؤية إسلامية في الحب!
لقد أفلت الروح الثورية النضالية بين الإخوان حتى في الأناشيد ( صارت تسمي أغاني ! ) فصارت تحفل بالمتعة وتحتفي بالترفيه والبهجة بعدما كانت تمجد الشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والأوطان، وبعدما كانت تستمد كلماتها من أشعار هاشم الرفاعى والشهيد سيد قطب التي تفيض ثورة وتمرد صارت يكتبها مؤلفو الأغاني الجدد الذين تغلب عليهم روح "الشعبية" والفكاهة وبعضها من رومانسيات الراحل سيد درويش في الغرام والغزل! في حقبة الحلم كانت الكوادر تستغرقها روح زهد وتقشف وانصراف عن زينة الدنيا ومتاعها، فكان أقل القليل يكفي للعيش والزواج، وكان التزام القصد في النفقة وفي الملبس أصلا في السلوك، وكانت روح الجد حد الصرامة والتجهّم سمتا به يعرفون، حتى في أوقات الفرح والسرور كانت تستغرقهم حالة الصرامة والجد فيستحضرون وصية الأمام الشهيد حسن البنا ( لا تكثر من الضحك فإن الأمة المجاهدة لا تعرف المزاح )!..أما الآن فعكس ذلك هو ما يسود، النموذج الذي يلهب الشاب الإخواني ليس نموذج رهبان الليل فرسان النهار الذين كانت تتغني لهم الأنشودة الإخوانية " إذا جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا"! بل هو نموذج الجنتل مان الإسلامي الذي يرتدي أبهي الحلل ويقتني أفخم السيارات ويعتلي أهم المناصب ولكنه يسخّر ذلك كله في سبيل الله!
تغيرت حقبة الحلم فلم تعد الدنيا دار الابتلاء والشرور ولم تعد جحيم المؤمن أو مجرد شجرة يستظل بها ثم يغادرها إلي الآخرة بل صارت مرغوبة ومقصودة والنجاح فيها معيار للإيمان الديني ومؤشرا علي النجاح في الآخرة ..أقبل الإخوان علي الدنيا وأعاد الوعي الإخواني توجيه بوصلته فصارت محاضن التربية والتكوين والتثقيف تخرّج نوعا جديدا من الكوادر، إنه كادر راغب في الدنيا بعد أن كان راغبا عنها، همّه أن يبني ذاته ويتعلم إدارتها ليستعد لمواجهة متطلبات الحياة أكثر مما يستعد لسؤال الآخرة، فحظه في الدنيا هو عنوان لحظه من الآخرة! ولديه من التراث ما يدعم رؤيته الجديدة فالمشروع الإسلامي يقوم به أمثال عثمان بن عفان و الزبير بن العوام (رمزا لليسر والغني) وليس أهل الصُّفّة من فقراء المهاجرين!.
الروح الإخوانية الجديدة هي روح التعايش والتكيف مع الواقع كما هو دون السعي إلي تغييره؛ فقط إعطاؤه مسحة أخلاقية تحت لافتة الأسلمة!..إنها روح جديدة لا تري أفقا آخر غير الذي نعيشه..فهي تريد الواقع نفسه ولكن بمزيد من التحسينات...وهذا ما سنجده في أدبياتهم الحديثة؛ ليس هناك دعوة إلي تغيير جذري وإنما تعديلات أو تحسينات علي الواقع...ومن يقرأ البرنامج السياسي للإخوان في الانتخابات الأخيرة لن يجد فيه فروقا كبيرة عن غيره وربما ظنه برنامج الحزب الوطني الحاكم!
تغيرت رؤية الإخوان للعالم وللآخر المختلف سياسيا أو دينيا، فالعالم – في الرؤية الجديدة-ليس غابة بلا قانون وأهله ليس كلهم صليبيين وصهاينة، بل هناك شعوب صديقة وأمم متحدة ومؤسسات دولية يرجع إليها ويطلب منها أن تقيم العدل وأن تكف – فقط- عن الكيل بمكيالين! ولا حديث عن صورية هذه المؤسسات أو كونها مؤسسات بيد الامبريالية العالمية والصهيونية وقوي الكفر المعادية للإسلام كما كان الحديث من قبل.
حين وقعت أزمة الإساءة إلي الرسول الأعظم –صلي الله عليه وسلم- تأخر التعاطي الإخواني مع الحدث عن معظم بل ربما كل القوي الإسلامية بل وغير الإسلامية الأخرى في مصر والعالم الإسلامي ثم صدر في مجرد بيان قصير مختزل فيما لا يزيد عن ثلاثة أسطر يتحدث فيه المرشد كما لو كان رئيسا لواحدة من جمعيات النفع العام؛ فيستنكر الإساءة إلى النبي الذي هو " رمز الأمة العربية والإسلامية " مؤكدا على أن الإساءة إليه "لا يقبلها أصحاب الأديان السماوية" ..!!.. من يقرأ البيان سيختلط عليه الأمر فيما إذا كان بيانا للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين أم لأحد الشيوخ الرسميين خاصة وأنه يتكلم عن النبي كرمز للأمة العربية والإسلامية ثم هو يحمي ظهره في موقفه هذا بأصحاب الأديان السماوية!
لهجة البيان أقرب إلي البيانات الرسمية؛ تلتزم الهدوء والروية وتبتعد تماما عن الإثارة والتحريض، مكتفية بتسجيل موقف أكثر منها متطلبة لعمل يرد الإساءة، ثم هي تخلو تماما من أي إشارة إلي "المؤامرات" أو عداء "القوي الصليبية" أو "الصهيونية" و"الكفار" أعداء الإسلام ورسوله، بل وهي تستدعي أيضا تعاطف نصرة غير المسلمين.
تعيش حركة الإخوان المسلمين " حالة تحول " تعاني جرائها مخاض تغيرات كبري وجوهرية تخرج بها من حالة " السكون " التي اعتادها منظار كثير من الباحثين والمراقبين مازالوا يعيدون إنتاج نفس الصورة التي كان عليها الإخوان قبل عقدين أو يزيد، كما أنها تخرج أيضا عن حالة " الثبات " التي تسيطر علي المخيال الإخواني فتحيله إلي صورة طوباوية عن الجماعة "الصامدة" "النقية" "الثابتة" رغم تعاقب المحن عليها عبر ثلاثة أرباع القرن أو يزيد!.إنها حالة " تحول " تجعلنا حين التدقيق بإزاء حركة إخوان أخري غير التي كنا نعرفها قبل عقدين أو ثلاث، حتى ولو تواطأ علي الإبقاء علي الصورة القديمة الأنصار والخصوم.
وأتصور أن أهم ما يميز " التحولات " التي يعيشها الإخوان سمتان رئيسيتان، أولاهما أنها في مجملها تغيرات غير واعية أو مخطط لها مسبقا بقدر ما هي أقرب إلي التغير الذاتي الذي يجري وفق منطق الصيرورة الاجتماعية وهو منطق تسبق فيه الحركةُ التنظيرَ الذي يتأخر ليأتي مكملا لها مؤكدا عليها أو داعما مؤيدا لها بل وأحيانا لا يأتي لتظل الحركة أكثر تقدما من التنظير..وفي كل الأحوال لم يكن التنظير- وهذا حال التحولات دائما داخل الجماعة - مُنشأ أو مؤسساً وإنما تالياً للحركة ومنفصلا عنها.
إنها تحولات تجري وفق منطق البرجماتية الذي طالما وسم المسلكية الإخوانية وأعطاها قدرة علي الاستجابة التغيرات والمستجدات وخاصة فيما يتصل بالعمل السياسي والعمل العام الذي كان الدخول الكثيف للجماعة فيه المحرك والمسئول الأول عن كل ما طالها من تغيير.
أما الملمح الثاني لحالة التحولات التي تعيشها جماعة الإخوان فهو أنها وإن بدأت بالمجال السياسي وربما بسببه فإنها سرعان ما طالت مجمل الحركة الإسلامية الكبرى وغطتها كاملة: مشروعا وتنظيما وأفرادا بل وروحا من دون استثناء وإن بدرجات مختلفة، فرغم أنها جاءت وليدة الدخول الكثيف للجماعة في الحقل السياسي والعمل العام – بشكل أساس- إلا أنها لم تلبث أن تجاوزت المجال السياسي لتنتقل بتأثيراتها إلي شتي مجالات ومسارات الحركة لتدمغها بطابعها وليسيطر عليها منطقها: منطق الصيرورة الاجتماعية.
ولهذا كله فإن أفضل مقاربة لفهم التحولات التي عاشتها وتعيشها جماعة الإخوان هي المقاربة الاجتماعية السياسية، وهو ما يفرضه منطق التحولات الإخوانية التي لا يمكن الوقوف عليها عبر مراجعة النصوص والأدبيات الصادرة عن الجماعة أو المعتمد منها بقدر ما يجب البحث عنها في المسكوت عنه وغير المكتوب بل وغير الواعي من قبل الجماعة في معظم الأحيان.
أول ما سيلاحظه الراصد لتحولات الإخوان أن هذه التحولات ينفصل فيها دائما الفعل عن الخطاب فلا يخضع له ولا ينطلق منه، فمشاركة الإخوان المصريين- علي سبيل المثال- في الانتخابات الطلابية ثم المهنية والمحلية فالنيابية ..كلها كانت سلسلة من التحولات أشبه بالمبادرات التي لم يسبقها أي تنظير بل دائما ما جاء التنظير داعما وليس منشئا لها! هذا الانفصال بين الممارسة والخطاب لدي الإخوان ربما كان السبب الحقيقي فيما يمكن أن نعتبره " فجوة " أو " تناقض " تعانيه الجماعة، وهو ما يظهر في موقف الجماعة من قضية الدولة، فهي تمارس فعلا سياسيا ينتمي إلي لحظة الدولة الوطنية الحديثة التي نعيش في ظلها فيما مازالت أطرها الفكرية والتربوية عاكفة علي تداول أفكار ونظريات سياسية عتيقة تنتمي إلي ما قبل ظهور الدولة القومية.إنها الفجوة التي يدخل منها خصوم الجماعة للطعن في قناتها واتهامها والتحايل بل و"التقية" والازدواجية التي تستبطن فيها اعتقادا وتمارس في الواقع خلافه.
مع اتساع حركة الجماعة وتعدد مسارات حركتها التي يلتقي فيها الدعوي والسياسي مع غيرهما؛ ومع تعدد بل تباين الخلفيات الثقافية والاجتماعية للمنضوين فيها تتسع هذه الفجوة التي تعيشها الجماعة بين الفعل والخطاب ولكن تبقي هناك حالة " تعايش " بين خطابات وممارسات متباينة بل ومتناقضة، ويساعد علي هذا التعايش ما عرفت به الجماعة تاريخيا من التزام خطاب عام فضفاض يقوم علي قاعدة " أن جماعة الإخوان يسعها ما يسع الإسلام ".
يبقي التجاور بين الخطابات المختلفة داخل الإخوان ولا تحاول الجماعة حسمه أو المفاصلة بشأنه إلا حين تضطر إلي ذلك في لحظة " توتر " تستلزم منها الحسم، وغالبا ما يكون حسما تحت حرج اللحظة وضغط الخصم، تماما مثلما جري في قضية الأقباط ودفع الجزية التي أثيرت في حوار شهير للمرشد الراحل الأستاذ مصطفي مشهور عام 1996.فقد أعلن المرشد وقتها أن الأقباط أهل ذمة ويفترض أن تجري عليهم أحكام الذمة بما تقتضيها من دفع الجزية مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية.
ما فعله السيد مشهور وقتها كان مجرد إعلان لتصور يسود قطاعات واسعة داخل الإخوان بل وداخل المؤسسات الدينية الرسمية في عالمنا العربي بما فيها الأزهر الشريف الأكثر استنارة..كان هذا التصور موجودا ورائجا لكن إعلانه في لحظة فارقة وعلي لسان شخص بوزن مرشد الجماعة أثار حملة واسعة وعنيفة ضد الجماعة دفع بها إلي المراجعة ومن ثم الحسم الاضطراري في هذه القضية والقطع لجهة تغليب تصور كان حاضرا لدي بعض أبناء الجماعة من تيار العمل العام الذين دخلوا التنظيم من بوابة السياسة، وهذا التصور كان يتبني الرأي القائل بضرورة القبول بالاجتهاد الجديد الذي يؤسس لفكرة المواطنة علي أرضية إسلامية وهو اجتهاد كان قد انتهي إليه المفكر الإسلامي المستقل الأستاذ طارق البشري. لقد اضطرت اللحظة " الحرجة " التي وقع فيها الإخوان تحت القصف العنيف للخصوم إلي مراجعة تصور فقهي في قضية صارت ملحة بما يعطل الآلة السياسية الإخوانية، ولم يجد الإخوان حرجا في تجاوز طرح إلي غيره طالما جاءت اللحظة التي تؤذن بالتجاوز لأفكار والإعلان عن القبول التام بغيرها كما حدث بعد ذلك في إعلان الجماعة القبول التام بفكرة المواطنة الكاملة لغير المسلمين.
وسنكتشف هنا أن الخطاب الجديد جاء علي طريقة الاستدعاء لضمان استمرار العمل وليس إنشاءا لهذا العمل، وأن العقدة أو الفجوة تم حلها أو ردمها عبر خطاب إسلامي ظل هامشيا حينا من الدهر، وهو في هذه الحالة خطاب المفكرين الإسلاميين المستقلين الذين كان ينظر إليهم باعتبارهم علي هامش الحركة وجودا وتأثيرا، فإذا باللحظة التاريخية تتيح لهم فعلا وتأثيرا واسع المدي داخل الحركة التي كانت تظن – من قبل- أنها غنية بأفكارها واجتهاداتها ومستغنية عن الآخرين!
لم يكن هناك قصد إخواني يبيت النية في تعدد الأفكار والرؤي داخل الجماعة بشأن قضية واحدة – كقضية الأقباط، ولكن كانت هناك حالة تجاور وتعايش، كما لم يلجأ تقية أو نكوصا إلي تبني طرح جديد في القضية نفسها، إنما الذي حدث أن اللحظة التاريخية هي التي ساعدت علي تراجع طرح وصعود آخر كان كلاهما موجودا وفاعلا من قبل تحت المظلة الإخوانية التي تقول أن الإخوان يسعهم أي تصور أو اجتهاد يسعه الإسلام!
من يتابع المشروع الإخواني في السنوات الأخيرة سيكتشف أنه شهد تحولا بالغ الأهمية انتقل به من أفق الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية العالمية إلي الاستيعاب كاملا في مشروع الدولة الوطنية القطرية الحديثة التي بدا أنها استوعبت المشروع الإخواني بعد أن ظل زمنا طويلا يسعي إلي تجاوزها.
لن يجد الباحث- بالضرورة- مراجعة واضحة صريحة من قبل الجماعة لقضية الخلافة والدولة الإسلامية العالمية أو موقفا واضحا صريحا في الشكل النهائي للدولة" الإسلامية" التي يطمح إليها الإخوان، لكن مراجعة لتفاصيل العمل اليومي والآني وكثير من التصريحات المتناثرة لقادة الجماعة هنا وهناك تقول بلا لبس أن " الرواية الكبرى " التي كانت تعيشها الجماعة وترفعها هدفا نهائيا لمشروعها تفككت وتم تجاوزها تلقائيا ومن دون توقف للمراجعة أو حتى إعلان عن هذا التحول...ومن يتابع الخطاب المسلكية الإخوانية سيلحظ بسهولة أن خطاب إقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة قد تواري تماما في السنوات الأخيرة حتى صار لا يكاد يبين!
يكفينا القول في هذا المقام أن أهم الأدبيات الإخوانية التي صدرت في المسألة السياسية في السنوات الأخيرة أغفلت تماما أو سقط منها أي حديث أو إشارة لقضية إقامة دولة الخلافة الإسلامية، فالبيانات الرسمية للجماعة في السنوات الأخيرة – بدءا من ولاية المأمون الهضيبي تقريبا- كانت أقرب إلي بيانات لحزب سياسي محلي منه إلي جماعة عالمية خاصة بعد احتدام جدل الإصلاح السياسي في البلاد، ومن يتابع حفلات الإفطار الرمضانية التي تنظمها الجماعة سنويا سيجد أن المرشد يبدو فيها أقرب إلي رجل الدولة منه إلي قيادة إسلامية عالمية، وأنها دائما ما تحلق في الأفق المحلي حضورا وجدلا ولا تبعد عنه إلي الشأن الدولي إلا بشكل عام غير محدد لا يختلف كثيرا عن مقاربة الأحزاب القومية.
وإذا نظرنا إلي مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة في شهر مارس من عام 2004 والتي يمكن النظر إليها باعتبارها أهم ورقة متكاملة طرحتها الحركة في السنوات الخمس الأخيرة، سنجد أنها خلت تماما من قضية الخلافة وجاءت محلية بحتة غارقة في قضايا وهموم الشأن المصري البحث، بل كانت المفارقة أن أبرز التعديلات التي طالت المبادرة التي كانت تطويرا للبرنامج الانتخابي للجماعة عام 2000 هو إسقاط البعد الخارجي تماما بما فيه القضيتين المركزيتين في العالم الإسلامي؛ فلسطين والعراق!.
وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة 2005، أسقطت الجماعة تماما كل ما تعلق بقضية الخلافة ليس علي مستوي البرنامج السياسي فقط بل وحتى علي مستوي " الرمزية "، إذ خلت الدعاية الانتخابية من أي إشارة إلي دولة "الخلافة الإسلامية" أو حتى "الدولة الإسلامية" وكانت مفارقة مدهشة أن قارب النجاة أو السفينة التي كانت محور الدعاية الإخوانية في انتخابات 1987 والتي كانت ترمز لجماعة الإخوان كقبطان يقود الأمة في معممات البحار طرأ علي شراعها التعديل فلم يعد سداسيا كما كان يرمز إلي مراحل المشروع الإخواني الستة كما صاغها المرشد المؤسس الإمام حسن البنا ( وهي: بناء الفرد المسلم؛ فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالدولة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية وأستاذية العالم ). لقد جري تعديلها لتصبح رباعية وأسقطت منها خطوتي إقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية!
لقد أدي الدخول الكثيف حد الاستغراق في العمل السياسي وما يتعلق به من عمل عام إلي تماهي المشروع الإخواني في حدود الدولة الوطنية التي صارت منتهي سعي المشروع الإخواني الذي بدأ منذ تأسيسه عالميا..وقد أدي الاستغراق في العمل السياسي وتفصيلاته إلي أن يغلب علي المشروع الإخواني الاهتمام بالقضايا الداخلية المحلية وأن تصير مفرداته وموضوعاته محلية بحتة في الأغلب الأعم وصار الخطاب الإخواني أقرب إلي خطاب الأحزاب أو الجماعات الوطنية المحلية منه إلي الجماعات ذات المشروعات العالمية.ومن ثم توارت بهدوء قضايا الخلافة الإسلامية وكل ما يتصل بالمشروع العالمي.
لم يعد هناك حديث إخواني عن الدولة الإسلامية بل صارت تظهر تسميات جديدة بعضها مراوغ- أحيانا- في حسن التخلص من " أزمة " الدولة الإسلامية ، فصارت هناك مقاربات جديدة عن "دولة المسلمين" ثم "الدولة الآذنة بالإسلام" إلي "الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية" التي يطرحها جيل الوسط داخل الجماعة علي لسان أبرز رموزه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد!.
لقد قطع الإخوان شوطا كبيرا في قضية الانتقال من التصور الديني لشكل الدولة إلي تصور مدني، وتجاوزوا في هذا الانتقال خطاب الأزهر الشريف والمؤسسة الدينية الرسمية. وما قدمه الإخوان في قضية المواطنة يبدو بالغ الدلالة إذ تبنوا التأسيس الشرعي لها متقدمين علي الخطاب الديني الرسمي السائد حتى في الأزهر الشريف رمز الاعتدال والوسطية ..وشهدت السنة الأخيرة التي احتدم فيها جدل الإصلاح في مصر تصريحات من قيادات إخوانية نافذة – خاصة من جيل الوسط- تعلن القبول بالمواطنة الكاملة حتى لو انتهت برئيس غير مسلم إذا ما جاءت بها صناديق الانتخابات، وهو تصريح يصعب أن يصدر عن الحزب الحاكم ( الحزب الوطني الديمقراطي) أو المؤسسات الدينية الرسمية ( الأزهر الشريف ) ، بل ولم يجد بعض قادة الإخوان( مثل الدكتور عصام العريان ) حرجا في القبول بتأسيس حزب مسيحي وهو إعلان لم يسبق إليه تيار سياسي أو ديني معتبر في الحياة السياسية بمصر حتى داخل الكنيسة نفسها بل وهو أقرب إلي أن يكون خروجا عن المستقر والسائد في مصر.
إن مراجعة سريعة في مواقف الإخوان من القضايا السياسية والاقتصادية الاجتماعية في مصر تقول إن الجماعة صارت أقرب إلي حزب وطني قطري بل وحزب يميني ذو توجهات ليبرالية في المسالة الاجتماعية الاقتصادية حيث القبول أو عدم الممانعة للتحولات التي طالت البلاد باتجاه أقرار سياسيات التحول الاقتصادي نحو تبني اقتصاد السوق القائم علي الخصخصة وإعادة الهيكلة وحرية التجارة وانسحاب الدولة.
وربما اقتصر اختلاف الطرح الإخواني في هذه القضايا علي الإضافات الأخلاقية دون أي اختلافات جذرية حيث مازالت المسألة الأخلاقية تلقي اهتماما إخوانيا دائما ما نراه في التشديد علي محاربة العري والتحلل الأخلاقي والتأكيد علي ضرورة التزام وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والفنية والنخبة المثقفة بأخلاق المجتمع وتقاليده.
إنه التزام بأخلاقية لا تخفي وراءها بالضرورة طرحا مغايرا عن السائد، بل هي أخلاقية لم يعد يختلف فيها الإخوان كثيرا عن المجتمع المصري الذي تكونت لديه – في السنوات الأخيرة خاصة- حساسية في المسائل الأخلاقية..لا يكاد يستثني منها شريحة من شرائحه، بل صارت موضوعا للمزايدة حتى من قطاعات كانت بعيدة تقليديا عن هذه المساحة..سنلحظ ذلك في أزمة مصادرة الروايات الثلاث التي تتضمن "خروجا" أخلاقيا التي صدرت عن وزارة الثقافة، فبالرغم من أن أحد نواب الإخوان في البرلمان هو من فجر القضية إلا أنه لم يطالب بالمصادرة بل بألا تصدر بأموال دافعي الضرائب، فإذا بقيادة الحزب الحاكم تصعد القضية إلي الدعوة للمصادرة، فتفاجئ وزارة الثقافة الجميع بسحب الروايات وإقالة المسئولين عن نشرها دفاعا عن الأخلاق والقيم والدين الإسلامي!
التحولات التي طالت مشروع الإخوان ونقلته من التحليق في يوتوبيا دولة الخلافة إلي الاستغراق في واقع الدولة الوطنية لحقت -أيضا- برافعته أو إطاره التنظيمي، أو التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي تأسس وانطلق ليكون الرافعة السياسية لتحقيق المشروع الإسلامي والذي علي شاكلته كان يفترض أن يقوم ويتحقق حلم دولة الخلافة الإسلامية.
يتحدث المراقبون وكذا الإخوان عن "التنظيم الدولي" فتطل من بين أحاديثهم صورة أسطورية يبدو فيها كما لو كان هناك تنظيم عالمي يمسك بقبضة من حديد بالتنظيمات القطرية المحلية فيجمعها علي رؤية واحدة ويقودها بسياسة موحدة تسير بالجماعة العالمية في طريق تحقيق الهدف الواحد..غير أن دراسة موسعة للتنظيم وما طرأ عليه من تحولات في العقد الأخيرين تقول أن الواقع مختلف تماما، وأن هذه الصورة هي أبعد ما تكون عن الحقيقة وأقرب للوهم الذي يتصوره المراقبون ويستعذبه الإخوان كما يستعذبون أمجاد السلف.
بدأ التنظيم العالمي يتشكل نهاية السبعينيات من ممثلي التنظيمات القطرية وقاد عملية تأسيسه عدد من الرعيل الأول من قادة الجماعة في مصر كان معظمهم من رجال تنظيم الخاص الذين تسيطر عليهم فكرة استعادة دولة الخلافة الإسلامية من أبرزهم الأساتذة مصطفي مشهور وكمال السنانيري وأحمد حسنين ونفيس حمدي..خرجوا جميعا من السجون الناصرية التي قضوا فيها سنوات طويلة حتى قرار الرئيس السادات بالإفراج عنهم في أوائل السبعينيات، وفي سنوات معدودة نجحوا في تجميع خيوط التنظيمات الإخوانية المتناثرة خاصة في الخليج وأوربا، وأسسوا نواة تنظيم دولي محكم له لائحة منظمة وقيادة محددة وأعلنوا ميلاده رسميا في مايو 1982.
استمر نجم التنظيم الدولي في الصعود طوال عقد الثمانينات وبعضا من سنوات التسعينيات، وصار الحديث عنه يجذب أنظار الخصوم والأنصار علي السواء، ولكن التحولات التي طالت الجماعة تقول أن التنظيم الدولي لم يعد يبقي منه إلا الذكري والبريق الذي يخطف الأنظار في حين أن الواقع يؤكد أن هذا التنظيم "الأسطوري" لم يعد له أي سلطة توجيه أو ضبط أو إلزام علي التنظيمات القطرية التي استقلت تماما في قراراتها حتى المصيري منها أو الاستراتيجي.علي عكس ما تقتضيه طبيعة التنظيم ولوائحه التي كانت تفرض مستوي من التنسيق والتشاور يضمن وحدة الرؤية والموقف في القضايا السياسية الكبرى وهو ما لم يعد واقعا.
لن أطيل في هذا المقال في سرد تحولات التنظيم الدولي للإخوان فقد كتبت دراسة موسعة في ذلك نشرتها فصلية المنار الجديد، ولكن سأكتفي في هذا المقام بسرد وقائع لها دلالاتتها فيما نذهب إليه بشأن التنظيم الدولي.
ففي منتصف التسعينيات اتخذ تنظيم الإخوان في الجزائر ( حماس قبل أن يتحول إلي حمس) قرار ترشيح زعيمه الشيخ محفوظ نحناح في انتخابات رئاسة الجمهورية– وهو أكبر منصب ترشح له مسئول إخواني- دون العودة لقيادة التنظيم العالمي رغم خطورة القرار الذي لا سابقة له في تاريخ الإخوان، ثم دون رضا التنظيم الدولي حين اعترض قادته علي قرار ترشيح نحناح!
أكثر من هذا فإن تنظيم الإخوان القطري في العراق – الحزب الإسلامي- أخذ قرار القبول بالمشاركة في مجلس الحكم الانتقالي الذي كان يرأسه ممثل جيش الاحتلال الأمريكي بول بريمر دون العودة لقيادة التنظيم العالمي ثم دون رضاه، وأصر علي قراره في الوقت الذي أصدر جاره الإخواني في الأردن – جبهة العمل الإسلامي – بيانه بإدانة المجلس وتخوين بل وتكفير من يشارك فيه أو يقبل به! أما المرشد العام للجماعة السيد مهدي عاكف فلم يعقب في المسألة وترك الأمر وحق حسمه إلي إخوان العراق دون غيرهم، واعتبر أن أهل مكة أدري بشعابها!
ثم صارت سياسة عامة ألا تتدخل قيادة الجماعة في قرارات التنظيمات القطرية فلم يعقب السيد مهدي عاكف علي قبول تنظيم الإخوان في سوريا بقيادة صدر الدين البيانوني الدخول في تحالف مع عبد الحليم خدام نائب الرئيس المنشق لإسقاط النظام برعاية أمريكية! يصر الإخوان علي الحنين إلي صورة التنظيم العالمي الحديدي المتماسك ويبالغون في تقدير حجمه ودوره ويتابعهم في ذلك خصوم يجدون في هذه الصورة ما يبرر إشاعة الخوف والرعب من الإخوان في حين أن الواقع يختلف تماما عن هذه الصورة.
الواقع يقول أن الانغماس في العمل السياسي جعل المصلحة العليا هي المصلحة الوطنية سواء للتنظيم القطري أو لمشروعه الوطني، فهموم هذه التنظيمات وحساباتها قطرية وطنية بحتة لا يحتل فيها البعد العالمي إلا مساحة ضئيلة جدا تعكس في النهاية وتوظف لمصلحة المحلي الوطني، ومن هنا رفضت قيادة التنظيم القطري في فلسطين – حركة حماس- الوساطة التي طلبها الراحل ياسر عرفات من قيادة الإخوان في مصر للضغط علي حماس في إطار المفاوضات بينها وبين فتح، وغلبت حماس مصلحتها أو رؤيتها لمصلحة التنظيم القطري علي أي اعتبارات أخري بما فيها التقدير للقيادة التاريخية لإخوان مصر.
كما أن المناخ الدولي ساعد أيضا في هذه التحولات التي طالت التنظيم الدولي، فقد انتهت حقبة الحرب الباردة، وانفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم كقطب وحيد من دون منافس وحين وقعت هجمات سبتمبر عام 2001 وبدأت حربها العالمية علي ما أسمته بالإرهاب أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الإخوان التي فضلت التخفف من "العالمية" خاصة حين ترتفع كلفتها السياسية بما لا تطيقه ومن دون عائد..وبدأ كل تنظيم يعكف علي شئونه وشجونه الخاصة مع الاحتفاظ بنوستالجيا- الحنين إلي حقبة التنظيم الدولي الواحد! لم يصدر أي مراجعة أو تعديل في القانون الأساسي للتنظيم الدولي للإخوان بما يستجيب لهذه التطورات، وهو ما يؤكد نظرتنا بأن من القصور الاكتفاء بدراسة الإخوان من خلال الوثائق والأدبيات، وأقصي ما صدر في قضية التنظيم الدولي هو حديث بعض قيادات الجماعة الأكثر واقعية وانغماسا في العمل السياسي والعام – مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح- عن أن التنظيم الدولي صار فكرة غير واقعية وطوباوية وأن تكلفته السياسية أكبر بكثير من فائدة التمسك به وأنه من الأفضل تطويره كمنبر للتنظيمات الإخوانية التي تلتقي علي الفكرة الإخوانية في العالم كما هو العالم في منتدى الاشتراكية الدولية الذي يجمع الأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم أو المؤتمر القومي العربي الذي يجمع الأحزاب القومية في العالم العربي.
غير مشروع الإخوان المسلمين فتحول من مشروع استعادة دولة الخلافة إلي مشروع مستغرق كلية في الدولة الوطنية، وقد واكب هذا التحول أو ترتب عليه تحول لا يقل أهمية في الجماعة نفسها التي توارت عنها صورة الجماعة المفتوحة الشمولية التي تقدم نفسها ممثلا وحيدا للأيدلوجية الإسلامية وبدأت تبرز صورة جديدة تحمل نوعا من الخصوصية الإخوانية التي تتمايز عن غيرها من "الإسلامية".
فيما مضي كان الإخوان المسلمون يمثلون الواجهة الرسمية للأيدلوجية الإسلامية التي اجتاحت مصر والعالم العربي بدأ من السبعينيات ووصلت قمتها في نهاية الثمانينات، والتي كان شعارها أو روايتها الكبرى إقامة الدولة الإسلامية، وهو شعار كان يستقطب بريقه قطاعات وشرائح وأعمار بالغة التنوع والاختلاف ويخفي وراءه تناقضات طبقية ومصلحية تكاد تصل حد الصراع لو تهيأت لها سبله، وكانت هذه الأيدلوجية التي استطاع الإخوان احتكارها حصرا قادرة علي أن تلهم الطبقات المحرومة والمهمّشة وترى فيها طريقا للخلاص من كل ما تعانيه من فقر وتهميش وظلم اجتماعي كما كانت تلهم في الوقت نفسه الطبقات الوسطي والبورجوازية التي وجدت فيها استجابة لمصالحها هي الأخرى بدأ من تلبية الاحتياجات الأخلاقية انتهاء بمنحها فرصة للحراك الاجتماعي صعودا في سلم السلطة، وكانت الأيدلوجية نفسها تجذب إليها المتمردين ذوي النزعات الثورية الراغبين في المواجهة العنيفة مثلما ينضوي تحتها المندمجون اجتماعيا من أبناء البورجوازية التي طالما أحكمت وأجادت فن التفاوض والمساومة.
لقد أدي الدخول البراجماتي والكثيف للإخوان في السياسة إلى تخليهم عن الرواية الكبرى – الدولة الإسلامية – والالتزام بطرح برنامج لا يبعد كثيرا عن برامج الأحزاب الوطنية الأخرى، ، بل والليبرالية منها علي وجه الخصوص.
من يتابع الخطاب الإخواني في الفترة الأخيرة يلاحظ غياب مفردات الرواية الكبري من الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة والوحدة السياسية الجامعة لكل الأمة الإسلامية ومفاهيم أهل الذمة، كما سيلاحظ حضور مكثف ومتصاعد لمفردات خطاب جديد لا علاقة له بالقديم وإنما يرتبط بمشروع حزبي سياسي بامتياز حتي وإن لم يعلنه أصحابه كاملا.
فالبرنامج السياسي للإخوان تتأكد يوما بعد يوم مفارقته – تماما- لكل ما كان يقدمونه عن "المشروع الإسلامي"، باتجاه برنامج ديمقراطي بعيد عن الأرضية الدينية التي كانوا ينطلقون منها ، فكثر حديثهم عن الاحتكام التام للشعب أيا كانت خياراته، والقبول بحق ومبدأ تداول السلطة والتسليم باختيار الشعب مهما كانت، وأن حكم الشريعة مرتهن بقبول الشعب له؛ مع اتجاه للتخفف من المرجعية الدينية ففي العمل السياسي قياسا بما كان يحدث من قبل.
لقد اضطر الإخوان بفعل الدخول الكثيف في العمل السياسي إلي أن يقولوا كلاما محددا بعيدا عن العموميات الفضفاضة التي كان يحرصون عليها وهو ما كان له أثر بالغ علي مقدرتهم السابقة علي الحشد الواسع لقطاعات متعددة ومتباينة في المجمتع.
وواكب ذلك تحول ثان بالغ الأهمية طال هذه المرة الدولة المصرية نفسها التي عاشت تحولات اقتصادية كبرى كانت تصب جميعها ضد مصالح الطبقات الفقيرة ، فكان أن بدأت هذه الأيدلوجية في التفكك لتكشف عما وراءها من تناقضات طبقية ومصلحية هائلة أكبر من أن يستمر تسترها وراء أيدلوجية تخلي عنها ممثلوها الرسميون.
تنحدر الغالبية العظمى لقواعد الإخوان المسلمين من الطبقة الوسطى، ورغم وجود الإخوان وانتشارهم في شتى أنحاء البلاد يقل وجودهم التنظيمي في الطبقات الفقيرة، ويهتم المسئولون عن التجنيد بتجنب التوسع في ضم عناصر من الطبقات الفقيرة إلا لحساب ميزات استثنائية تتمتع بها هذه العناصر دون أن تكون هذه قاعدة معلنة، ويعد الانضمام للجماعة أحد آليات الصعود الاجتماعي في الطبقات الدنيا، إذ تتيح الجماعة لأعضائها فرصة للتحقق والصعود الاجتماعي من خلال شبكة حماية اجتماعية كبرى، وتساعد هذه الشبكة على تأمين الحد الأدنى من الضمان الاجتماعي للأعضاء والمساعدة للمتعاطفين والمؤيدين والأنصار، وتعتمد الجماعة في ذلك على سيطرتها وإدارتها لعدد كبير من المساجد ومؤسسات البر والصدقات التي تمارس دورا مهما في غياب مظلة حماية من الدولة.
وجاء موقف الإخوان من التحولات الاقتصادية للبلاد باتجاه الانفتاح واقتصاد السوق لتؤكد أن الجماعة اتجهت إلى اليمين الرأسمالي بفعل التركيبة الداخلية واتساع حجم ودور رجال الأعمال فيها، وهو توجه أكدته مجمل التحولات الدينية في البرجوازية المصرية المتدينة سواء التي ترتبط بالجماعة أو التي تدور في فلك ما عرف بظاهرة الدعاة الجدد، وخلت مواقف وأدبيات الإخوان – وآخرها مبادرة الإصلاح الصادرة في مارس 2004 – من أي تمثيل لهموم الطبقات الدنيا.
لقد أدت هذه الاستراتيجية إلى انفصال تدريجي للجماعة عن الطبقات الفقيرة والمهمشة، الآخذة في الاتساع والمعاناة،على مستوي الانتشار التنظيمي ثم على مستوي المشروع الذي تطرحه والذي لم يعد يمثل إلا طموحات البورجوازية المصرية المتوسطة المتدينة، وهو انفصال ظهر جليا في غياب هذه الطبقات كأشخاص أو كبرامج أو حتى كشعارات في تظاهرات وتحركات الإخوان الأخيرة.
لم يعد مشروع جماعة الإخوان يمثل الطبقات الفقيرة حتى المتدينة منها والتي تعاني جراء التحولات الاقتصادية، وربما كانت الجماعة الإسلامية الأقرب إلى تمثيل هذه الطبقات لولا صدامها المسلح مع النظام ، ومن هنا يمكننا فهم أهمية المشروع الذي كان يطمح إليه الراحل عادل حسين المفكر والسياسي الإسلامي القادم من صفوف اليسار الواعي بالتناقضات الطبقية بحكم ماركسيته، وهو مشروع تسييس كوادر هذه الجماعة وإسلاميي الضواحي وأحزمة الفقر وضمهم لحزبه – حزب العمل – بديلا عن المواجهة المسلحة مع النظام التي يقدر ضحاياهم فيها بما بين 20 إلى 30 ألف معتقل، ولولا صدام الحزب نفسه مع التنظيم وتجميده إداريا لكان حزب العمل الإطار التمثيلي المناسب لهذه الطبقات التي سقطت من خطاب وحركة الإخوان.
وإذا تجاوزنا الطبقات الفقيرة إلى الطبقة المتوسطة والبرجوازية ، سنفاجأ في ضوء التحولات الكبرى التي عاشتها الظاهرة الدينية في مصر أننا لا نستطيع النظر إلى الإخوان باعتبارهم الممثلين الوحيدين للطبقة المتوسطة وللبورجوازية المتدينة، فالحالة الدينية المصرية تجاوزت الأطر التنظيمية ولم تعد خاضعة لها، بعدما تفتت الأطر التي حكمتها وظهر فاعلون جدد من خارج التنظيمات أكثر قدرة على الفعل والتأثير وجذب الجماهير كما هو الحال في عمرو خالد والدعاة الجدد، كما أن المزاج الديني العام لم يعد يلقي بالا للسياسة وإن دخلها فليس على طريقة الاصطفاف الأيدلوجي والتنظيمي التي يجدها عند الإخوان، فأمام الشاب الملتزم دينيا أطر أخرى بديلة للتعبير السياسي الأكثر حرية وأمنا تبدأ من حزب الوسط الواقف على تخوم الشرعية وصاحب المرجعية الإسلامية المنفتحة وانتهاء بحركات الاحتجاج السياسي بما فيها حركة كفاية التي تتجمع على حاجات مطلبية وليس على اصطفاف أيدلوجي...هذا إذا افترضنا أن هذه البورجوازية لها مصلحة أصيلة ومتفق عليها في تغيير الوضع الحالي.
لم يعد الإخوان وحدهم في الساحة الإسلامية بل استقرت ظاهرة "المفكرين الإسلاميين المستقلين" وتنامي تأثيرهم، ولحق بهم "المثقفون الإسلاميون" الخارجون عن التنظيمات والمؤسسات الإسلامية ، وبرزت ظاهرة "الدعاة الجدد" التي احتلت صدارة المشهد الإسلامي في مصر وصارت أكثر حضورا في صياغة الوعي الإسلامي من جماعة مثل الإخوان، وكان هذا إيذانا بتأكيد الخصوصية الإخوانية التي تختلف عن غيرها من الأفكار والدعوات الإسلامية.
ومثلما تغير المشروع وإطاره التنظيمي تغيرت القواعد الإخوانية. لم يعد "المناضل" الإخواني هو نفس " المناضل" ذي التكوين الأيدلوجي المغلق أو ابن الثقافة الإخوانية " النقية "، لقد انفتحت هذه القواعد علي مراجع ثقافية وفكرية بل وشرعية مختلفة بما يستدعي النظر في أسطورة " النقاء " الإخواني التي ظلت مهيمنة.
في حقبة السبعينيات إلي نهاية الثمانينيات كانت تروج في القواعد الإخوانية مقولة الشهيد سيد قطب (جيل قرآني فريد) التي كانت عنوانا لأحد فصول كتابه (معالم في الطريق)..كان لهذه المقولة فعل السحر في سعي قيادات الجماعة وكوادرها إلي الوصول لنموذج الوحدة الفكرية التي تؤسس للقاعدة " النقية " في منطلقاتها الشرعية وتأسيسها الفكري وفي معاملاتها بل وفي صورتها وهيئتها أو ما كان يعرف ب" الهدي الظاهر".وكلها كانت تتحالف علي بناء "مناضل" إخواني "نقي" و"مختلف" عن أقرانه وزملائه في بيئته. غير أن تحولات كثيرة – خاصة علي علي المستوي الاجتماعي والاقتصادي- جعلت هذه المقولة أقرب إلي أحلام الرومانسية أو- في أفضل الأحوال- إلي ذكري جميلة من مرحلة " البراءة " التي يحن إليها المناضل الإخواني ويجترها في حديث الذكريات دون أن يلتزم بالسعي إلي تحقيقها.
لقد حلت بدلا منها مقولات أخري تعكس الرغبة في الانفتاح وتنوع الأفكار والمراجع دون النظر إلي التمييز أو المفاصلة الفكرية والعقدية الحادة التي كانت تسم هذا المناضل، انفتح " الكادر" الإخواني علي الدنيا بعد أن فتحت أبوابها أمامه، ولم تعد مقولات النقاوة والمفاصلة تناسبه ، وربما حل بديلا عن مقولة قطب في الوعي الإخواني مقولات أخري؛ دينية أيضا لكنها تعكس هذه الرغبة في الخروج من أسر "النقاوة" والكف عن رؤية العالم من ثقب الأيدلوجيا، فتوارت من خطابه ووعيه مقولة قطب لتفسح الطريق لأثار أخري مثل: ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) و(الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها).
الكادر الإخواني يقرأ في التراث الإسلامي أقل مما يقرأ في شئون الحياة، وتزخر مكتبته بمجموعات ستيفن كوفي في علم الإدارة وروايات باولو كويلو ..ولا يشعر بحرج أن يقتبس في إحالاته إلي فلاسفة ومفكرين غربيين وغير مسلمين بل وربما رآها عنوانا للثقافة والتميز علي خلاف ما كان عليه أسلافه في جيل السبعينيات
وهو ينفق جزءا لا باس من تفكيره في الإجابة عن سؤال: أين وكيف يقضي عطلة الصيف؟، يذهب إلي السينما ويتناقش في آخر ما شاهده من أفلامها، ويقتني الأطباق اللاقطة وإن سعي في بعض الأحيان لتشفير القنوات الإباحية، لكنه فيما عدا ما يجرح الأخلاق مقبل علي المتعة والترفيه خاصة مباريات كرة القدم التي لم يعد يختلف "المناضل" الإخواني في حبها ومتابعتها والاهتمام بها عن بقية أفراد الشعب المصري الذي يذوب فيها عشقا. لقد كف " المناضلون" الإخوان عن التهكم علي "الولع" المصري بكرة القدم ولم يعودوا يرونها مظهرا للخفة أو مضيعة للوقت أو وجها من وجوه الانصراف عن قضايا الأمة كما كانت نظرتهم من قبل. لقد أدان نواب الإخوان في البرلمان مثل غيرهم تشفير مباريات كاس الأم الأفريقية الأخيرة وحرمان الشعب المصري من متعة مشاهدتها، وشاركوا غيرهم من السياسيين في نصب شاشات العرض في الساحات الكبرى لتشاهد الجماهير المصرية المباريات مجانا! وحين فاز المنتخب المصري بالبطولة سارع رئيس الكتلة الإخوانية في البرلمان إلي إصدار بيان تهنئة بالفوز ولم تمض عليه ساعات حتى اصدر المرشد العام – في سابقة هى الأولى- بيانا رسميا للتهنئة بالإنجاز القومي الذي حققه اللاعبون المصريون!
انفتاح الكادر الإخواني ودخوله في تفصيلات الحياة ومعاركها جعله أقرب إلي " العادية "، وانتزعه أو انتزع منه روح الاستعلاء والتفرد والإحساس المبالغ فيه بالرسالية التي تجعله مختلفا بل ومميزا في سلوكه وأفكاره وطريقته في الحياة..فهو دخل في فضاء العمل العام وما يستدعيه من علاقات ومشاعر وعواطف وما استلزمه – بالضرورة – من الوقوع في الأخطاء مثل بعض وقائع الفساد المالي والإداري بل والأخلاقي التي نسبت لكوادر إخوانية خاصة في تجربة إدارة العمل النقابي ، وهو ما رفع عنه هالة القداسة وقربه من غيره من كوادر الحركات السياسية والاجتماعية الأخرى.
لقد بدأنا نري ونسمع عن القيادي الإخواني الذي توجه إليه تهم التحرش بموظفات عنده ( رغم عدم التيقن من صحتها واحتمال كونها جزء من خصومات سياسية) وعن القيادي الإخواني البارز الذي يقع ابنه في حب فتاة عصرية في ملبسها ورؤيتها من خريجات الجامعة الأمريكية ويتقدم لزواجها رغم أن والدها الفنان عادل إمام هو أكثر فناني مصر هجوما علي التيار الإسلامي وسخرية منه في أعماله التي تزيد فيها جرعة الإثارة والجنس! ثم لا يمانع والده في ذلك بل يحشد للمناسبة قيادات الجماعة وعلي رأسها المرشد العام!!. وزاد من تحولات الكادر الإخواني المنفتح نحو " العادية " طبيعة الخطاب الإخواني الذي غلب عليه الحرص علي عدم الدخول في التفصيلات بما أدي إلي تعدد الخطابات والاتجاهات إلي حد التناقض تحت مظلة الجماعة الواحدة ،فصرنا بإزاء جماعات الإخوان وليس جماعة واحدة مهما قيل عن الوحدة الفكرية الجامعة، فهناك رؤى إخوانية تتعدد من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار تتفاوت رؤيتها السياسية ما بين الاندراج في حزب سياسي قطري يدعم دولة عصرية وما بين أفكار مازالت تستدعي صورة غائمة لدولة الخلافة الإسلامية العالمية، كما تتجاور فيها مقولات أهل الذمة مع قاعدة المواطنة دون حسم أو تمييز..ويصعب دائما يصعب تحقيق الفرز وتنعدم الرغبة فيه مع استمرار تمسك الجماعة في خطابها بتقديم نفسها كعباءة تتسع لكل العاملين بالإسلام مع تحديد سقف واسع يحكم الجميع وهو مبدأ السمع والطاعة لقيادتها مع نبذ العنف منهجا. لذا نجد بين كوادر التنظيم أزهريون وأنصار سنة وجمعية شرعية وتيار سلفي وجهاديون سابقون وسياسيون بدأوا في أحزاب سياسية أخري و..وقطاعات من العمال والفلاحين تنحصر علاقتها بالجماعة في كونها الإطار أو الصلة التي تربطها بالله!
ثم جاءت التطورات- التي أشرنا إليها- في حقل التدين لتنهي أي حديث عن النقاوة الأيدلوجية في القاعدة الإخوانية، فمع تراجع دور المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، صار تأثير الخارج ثقافيا وفكريا في الداخل الإخواني أكبر بكثير وذلك عبر ظاهرة الدعاة الجدد وقبلها المفكرون الإسلاميون المستقلون التي تعكس حجم تأثر الصف الإخواني– بدلا من تأثيره- بمقولات وأفكار لم تنتجها الجماعة وإنما جاءت من لمفكرين ودعاة من خارجها.
التحولات التي رصدناها تعكس تحولا في الروح الإخوانية التي عرفناها قبل عقدين من الزمان، لقد أدي خروج الإخوان من الرؤية الكلية أو الرواية الكبرى للعالم والدخول في الواقع والآني والاشتباك مع تفاصيله وأجزائه الصغرى واندماج الجماعة اجتماعيا في النسيج الاجتماعي المصري إلي خفوت النفس النضالي الثوري الذي يطمح إلي تغيير العالم، وهو ما كان ملمحا بارزا للجماعة في مدها الثاني (حقبة السبعينيات).
كان " الحلم " أبرز سمات جيل السبعينيات الذي قام بالتأسيس الثاني للجماعة، كان تغيير النظام مجرد خطوة بسيطة في عمل لا تنتهي خطواته إلا بإعلان دولة الخلافة الإسلامية العالمية، وكان الطريق إلي الخلافة أقصر من الانتظار بل هو من القصر بما يغري بالانتقال إلي ما بعده: ما شكل الخلافة؟ وأين سيكون مقرها؟ بل وما الشعار المفترض لها؟!..وكلها أسئلة كانت تطرح للنقاش ليس في اللقاءات الخاصة فقط بل وفي الدروس العامة، وكانت مبشرات تحقق الحلم جزءا من معاش يومي ونقاشات لا تتوقف بين "الأخوة"
كان طموح هؤلاء الشباب من طلاب الجماعة ليس أقل من " التغيير الشامل " لوجه الأرض العالم الذي يجب أن يرحب بهم وبما ينتظره منهم..كان شعارهم الأثير: صُمّت أذن الدنيا إن لم تسمع لنا!
كان لدي إخوان هذا الجيل رغبة عارمة في التغيير الجذري لبناء مستقبل وعالم آخر صاغته رؤية مثالية حالمة لكنها قادرة علي أن تشحذ همهم للفعل.
لقد تراجع "الحلم" بتغيير العالم حتى لدي جيل الشباب فضلا عن الكبار، فطموحات شباب الإخوان في الجامعة لم تعد تتجاوز السماح لها بالترشح في الانتخابات الطلابية، وأقصي مطالبهم صارت إصلاح اللائحة الطلابية والعودة إلي لائحة 1979! ، وإلي قبيل اندلاع مظاهرات الإصلاح في ربيع العام الماضي كان أهم نشاط أقامه شباب الإخوان في الجامعة في العام الماضي ( 2004-2005 ) هو مظاهرة نظموها في جامعة الإسكندرية للتنديد بالعري والابتذال في أغاني الفيديو كليب! أما أقرانهم في جامعة القاهرة فكان قمة فعالياتهم تنظيم يوم طلابي بمناسبة عيد الحب أطلقوا عليه اسم ( يوم محمد ) Mohamed Day! لتقديم رؤية إسلامية في الحب!
لقد أفلت الروح الثورية النضالية بين الإخوان حتى في الأناشيد ( صارت تسمي أغاني ! ) فصارت تحفل بالمتعة وتحتفي بالترفيه والبهجة بعدما كانت تمجد الشهادة والتضحية في سبيل العقيدة والأوطان، وبعدما كانت تستمد كلماتها من أشعار هاشم الرفاعى والشهيد سيد قطب التي تفيض ثورة وتمرد صارت يكتبها مؤلفو الأغاني الجدد الذين تغلب عليهم روح "الشعبية" والفكاهة وبعضها من رومانسيات الراحل سيد درويش في الغرام والغزل! في حقبة الحلم كانت الكوادر تستغرقها روح زهد وتقشف وانصراف عن زينة الدنيا ومتاعها، فكان أقل القليل يكفي للعيش والزواج، وكان التزام القصد في النفقة وفي الملبس أصلا في السلوك، وكانت روح الجد حد الصرامة والتجهّم سمتا به يعرفون، حتى في أوقات الفرح والسرور كانت تستغرقهم حالة الصرامة والجد فيستحضرون وصية الأمام الشهيد حسن البنا ( لا تكثر من الضحك فإن الأمة المجاهدة لا تعرف المزاح )!..أما الآن فعكس ذلك هو ما يسود، النموذج الذي يلهب الشاب الإخواني ليس نموذج رهبان الليل فرسان النهار الذين كانت تتغني لهم الأنشودة الإخوانية " إذا جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا"! بل هو نموذج الجنتل مان الإسلامي الذي يرتدي أبهي الحلل ويقتني أفخم السيارات ويعتلي أهم المناصب ولكنه يسخّر ذلك كله في سبيل الله!
تغيرت حقبة الحلم فلم تعد الدنيا دار الابتلاء والشرور ولم تعد جحيم المؤمن أو مجرد شجرة يستظل بها ثم يغادرها إلي الآخرة بل صارت مرغوبة ومقصودة والنجاح فيها معيار للإيمان الديني ومؤشرا علي النجاح في الآخرة ..أقبل الإخوان علي الدنيا وأعاد الوعي الإخواني توجيه بوصلته فصارت محاضن التربية والتكوين والتثقيف تخرّج نوعا جديدا من الكوادر، إنه كادر راغب في الدنيا بعد أن كان راغبا عنها، همّه أن يبني ذاته ويتعلم إدارتها ليستعد لمواجهة متطلبات الحياة أكثر مما يستعد لسؤال الآخرة، فحظه في الدنيا هو عنوان لحظه من الآخرة! ولديه من التراث ما يدعم رؤيته الجديدة فالمشروع الإسلامي يقوم به أمثال عثمان بن عفان و الزبير بن العوام (رمزا لليسر والغني) وليس أهل الصُّفّة من فقراء المهاجرين!.
الروح الإخوانية الجديدة هي روح التعايش والتكيف مع الواقع كما هو دون السعي إلي تغييره؛ فقط إعطاؤه مسحة أخلاقية تحت لافتة الأسلمة!..إنها روح جديدة لا تري أفقا آخر غير الذي نعيشه..فهي تريد الواقع نفسه ولكن بمزيد من التحسينات...وهذا ما سنجده في أدبياتهم الحديثة؛ ليس هناك دعوة إلي تغيير جذري وإنما تعديلات أو تحسينات علي الواقع...ومن يقرأ البرنامج السياسي للإخوان في الانتخابات الأخيرة لن يجد فيه فروقا كبيرة عن غيره وربما ظنه برنامج الحزب الوطني الحاكم!
تغيرت رؤية الإخوان للعالم وللآخر المختلف سياسيا أو دينيا، فالعالم – في الرؤية الجديدة-ليس غابة بلا قانون وأهله ليس كلهم صليبيين وصهاينة، بل هناك شعوب صديقة وأمم متحدة ومؤسسات دولية يرجع إليها ويطلب منها أن تقيم العدل وأن تكف – فقط- عن الكيل بمكيالين! ولا حديث عن صورية هذه المؤسسات أو كونها مؤسسات بيد الامبريالية العالمية والصهيونية وقوي الكفر المعادية للإسلام كما كان الحديث من قبل.
حين وقعت أزمة الإساءة إلي الرسول الأعظم –صلي الله عليه وسلم- تأخر التعاطي الإخواني مع الحدث عن معظم بل ربما كل القوي الإسلامية بل وغير الإسلامية الأخرى في مصر والعالم الإسلامي ثم صدر في مجرد بيان قصير مختزل فيما لا يزيد عن ثلاثة أسطر يتحدث فيه المرشد كما لو كان رئيسا لواحدة من جمعيات النفع العام؛ فيستنكر الإساءة إلى النبي الذي هو " رمز الأمة العربية والإسلامية " مؤكدا على أن الإساءة إليه "لا يقبلها أصحاب الأديان السماوية" ..!!.. من يقرأ البيان سيختلط عليه الأمر فيما إذا كان بيانا للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين أم لأحد الشيوخ الرسميين خاصة وأنه يتكلم عن النبي كرمز للأمة العربية والإسلامية ثم هو يحمي ظهره في موقفه هذا بأصحاب الأديان السماوية!
لهجة البيان أقرب إلي البيانات الرسمية؛ تلتزم الهدوء والروية وتبتعد تماما عن الإثارة والتحريض، مكتفية بتسجيل موقف أكثر منها متطلبة لعمل يرد الإساءة، ثم هي تخلو تماما من أي إشارة إلي "المؤامرات" أو عداء "القوي الصليبية" أو "الصهيونية" و"الكفار" أعداء الإسلام ورسوله، بل وهي تستدعي أيضا تعاطف نصرة غير المسلمين.