مصطفى أحمد الزرقا
أِخواني الكرام ، أعضاء المؤتمر الميمون.
لا أقدم إليكم بهذه المذكرة معلومات جديدة لا تعرفونها ، وإنما هي مذكرات وخواطر من المعلومات الإسلامية ، والوقائع الزمنية التي نشرت أخبارها وعرفت ، أردت تجميعها وتنسيقها وربطها بغاية هذا المؤتمر الذي نعقد عليه آمالاً جساماً إن شاء الله في موضوع الدعوة الإسلامية وانطلاقاتها وإزاحة العوائق من طريقها ، وإمدادها بما يحتاج إليه.
أ ـ معنى الدعوة الإسلامية ومحتواها:
ما من شك في أن معنى الدعوة الإسلامية هو الطلب إلى الناس أن يؤمنوا بما جاء به الإسلام من عقيدة في الله تعالى تُنَزِّهه ، وفي رسوله r تُصدِّقه ، وأن يقوموا بما جاء به الإسلام من أركان عملية ، وأن يلتزموا بشريعته فيما حلل وحرم ، وفيما أوجب من حقوق وما حمل من التزامات وواجبات للأمة الإسلامية شعوباً وحكاماً ، لتكون كلمة الله تعالى المعلنة في قرآنه العظيم وفي حديث رسوله الكريم هي الكلمة العليا التي يخضع لها المحكوم والحاكم ، وهي التي يبشِّر بها المسلمون غيرهم.
هذا إطار إجمالي لمعنى الدعوة الإسلامية ومضمونها.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الأخيرة في حياة البشر ، فلا نبيَّ بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام في عقيدة المسلم ، كانت هذه الدعوة إلى سبيل الله واجبة على المسلمين لغيرهم تبشيراً وتبصيراً ، قياماً بحق الله وانقاذاً للإنسانية المضللة المعذبة في متاهات الاتجاهات الخاطئة والأهواء والأطماع والمغريات ، التي أشار القرآن إلى رؤوسها بقوله تعالى :[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ....] {آل عمران:14} وقد وصف القرآن العظيم رسول الله r بأنه مبشر ونذير وداع إلى الله ، وقال له :[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125} . وأعلن القرآن للمسلمين واجبهم هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى :[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ] {آل عمران:104} . وحصر فيهم الفلاح بقوله في آخر الآية :[ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104} .فأفاد أنَّ من لم يهتم بهذه الدعوة ولم يقم بها من المسلمين فليس من المفلحين.
وهذا الواجب العظيم متوجه في الإسلام على الأفراد العاديين والحكام والجماعات، أن تتضافر جهودهم في سبيل الدعوة الإسلامية ، كل بحسب ما يملك من طاقة علمية أو مالية أو سلطة وقدرة أخرى من أي نوع كانت .
فمن أعظم الخطأ والجهل اليوم ما يتصوره أو يقوله بعضهم من أن واجب الدعوة والإرشاد هو وظيفة رجال الدين فليس في الإسلام طبقة رجال دين بالمعنى المعروف في الأديان الأخرى ، وهي طبقة كهنوتية ذات سلطة دينية تقيم نفسها وسيطاً بين المؤمن وربه ،ولا يكون المؤمن مقبولاً عند ربه إلا عن طريقها بل كل مسلم مسؤول عن الإسلام كما هو مسؤول عن نفسه وعمن يتبعه من أسرة ، وكل مسلم راع وهو مسؤول عن رعيته في حدود ما ائتمن عليه وتولاه من أمرها ، كما أعلنه الرسول r في صحيح أحاديثه المنقولة الثابتة ، سواء أكان المسلم محكوماً أم حاكماً ، وسواء أكان رجلاً أم امرأة ، وسواء أكان عالماً فقيهاً أم إنساناً عادياً في المجتمع الإسلامي .
فعندما ينتفي احتكار السلطة الدينية يتوزع الواجب على الجميع ، وتعمهم المسؤولية عن الدين، وهذا ما قرره الإسلام.
يتضح من جميع ما تقدَّم أن الله سبحانه الذي جعل الإسلام خاتمة شرائعه المنزلة قد حمل جماعة المسلمين مهمة الأنبياء السابقين في واجب الدعوة إلى دين الله . ذلك أن الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم كان كل منهم يبعث ليتم شريعة من سبقه ، وجاء الإسلام في النهاية بعد أن تأهَّلت البشرية لتلقِّي الشريعة الإسلامية الكاملة التي لا تحتاج إلى تكميل ، وأعلنها الله سبحانه صريحة مدوية حاسمة في محكم قرآنه حين وصف رسوله محمداً r بأنه خاتم النبيين ، وأنه ما أرسله إلا كافة للناس لا لقوم دون سواهم ، أو لبيئة أو لعصر مخصوصين ، وأن رسالته رحمة للعالمين أجمعين ، وأعلن استكمال جميع عناصر الشرع الإلهي بالإسلام في قوله عزَّ من قائل : [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} . فحين كان الأمر كذلك ، ولم يبق من تكميل لشرائع الله السابقة يحتاج إلى نبيٍّ مرسل ، وانحصرت حاجة المستقبل في انحصار الدعوة إلى الدين الأخير والشريعة الكاملة ، وهو دينٌ واضح المعالم، مُعلن النصوص ، ليس فيه سر محتكر لدى فئة من الناس تزعم لنفسها امتيازاً فيه أو وساطة بين الله تعالى وعباده ، بل الناس فيه سواء لا يتميَّزون إلا بالعلم المفتَّح الأبواب للجميع، والمطلوب من الجميع ، وإلا بالتقوى وحُسن السلوك إلى الله.
أقول: حين كان الأمر كذلك أصبح من الطبيعي أن تتوقف النبوات ، لأن مهمة الأنبياء ذات شقين :
الأول : تكميل الشرائع الإلهية السابقة ، وهذا الذي يحتاج إلى وحيٍ إلهيٍّ لا يلقى إلا للأنبياء .
الثاني : الدعوة إلى سبيل الله وتطبيق شريعته ، وهذا من الميسور أن يقوم به الأتباع في دين واضح المعالم والنصوص ليس في علمه احتكار ولا أسرار ، فحين وقف الشقُّ الأول من مهمة الأنبياء وهو التكميل استغنى الشق الثاني عن الرسالات والوحي . وهذا ما أعلنه الإسلام في كتاب الله ، وفي كلام رسوله من ختم النبوات والشرائع الإلهية به وتحميل المسلمين واجب الدعوة ، وما تستلزمه من وسائل وتنظيم وحماية.
من هذا البيان الإجمالي الموجز بخطوطه العريضة ـ مما لا يمكن أن تقوم عقيدة المسلم على خلافه ، ولا أن يفهم من كتاب الله وسنة رسوله الأعظم خلافه ـ يتبين أن الإسلام رسالة أهله جميعاً من العرب خاصَّة ، ومن سواهم عامة ، فهو الرسالة الخالدة الإلهية المصدر ، العربية المنشأ ، العالمية المحمل .
فكل دعوة بين المسلمين إلى قومية عربية أو إلى سواها من القوميات فإن موقف الإسلام منها كما يلي :
1 ـ فإذا أريد بالقومية توزيع العمل التنظيمي بحسب الإطارات القومية والإقليمية بين المسلمين بحيث يبدأ كل قوم بتنظيم أمرهم ومصالحهم المحلية على أساس الإسلام والترابط مع سائر المسلمين من أيِّ قوم كانوا فهذا عمل تنظيمي وترتيب لا ينافي الإسلام.
2 ـ وأما إذا أريد بالدعوة إلى قومية عربية أو سواها من القوميات ليتكتل فيها شعب من الشعوب الإسلامية على أساس تحل فيه رابطة أخرى عرقية أو اقليمية أو عقائدية محل الإسلام، وتعزل فئة من المسلمين عن سائرهم ، وعن الشعور بما يشعر به إخوانهم المسلمون الآخرون، وعن التألم لما يؤلمهم ، وعن الاهتمام بما يهمهم ويصلح شأنهم في أي بقعة كانوا من الأرض فتلك دعوة إلى وثنية جديدة تنافي الإسلام ، وهي من فتنة أبالسة البشر من أعداء الإسلام يُراد بها شق صفوف المسلمين وتفريقهم ، وقطعهم عن رسالتهم العامة الخالدة العليا ، إذ لو جازت مثل هذه الدعوة القومية للعرب ، لجاز لغيرهم من الشعوب الإسلامية في المقابل أن ينكمشوا على قوميتهم ، ويتنكَّروا لباقي الشعوب الإسلامية، ويعتبروا غيرهم من المسلمين كغير المسلمين، وهذا ما يريده أعداء الإسلام ، لتقويض كيان الإسلام ، ، وفصم عراه من الداخل.
ب ـ مستلزمات الدعوة الإسلامية:
إن قيام المسلمين بالدعوة الإسلامية يستلزم أركاناً ثلاثة لا غنى عن أحدهما ، وهي :
ا ـ إعداد الوسائل.
2 ـ أن تكون حياة المسلمين قدوة وتفسيراً عملياً لأوامر الإسلام.
3 ـإعداد الحماية اللازمة للدعوة .
ـ فأما الركن الأول ، أي الوسائل والأجهزة فأمره واضح، وهو يشمل إعداد الدعاة الصالحين لكل قوم بلغتهم أو بلغة يفهمونها ، واستخدام وسائل الفن الإعلامي بمختلف أنواعها ، ووضع المؤلفات التي تشرح الإسلام بدرجات مختلفة في البسط والإسهاب للمبتدئين ومن فوقهم لكلٍّ بحسبه ، وبالأسلوب الذي يناسبه من طرق الفهم والإقناع ، وَفْقاً للمنهج السامي الذي أشار إليه القرآن العظيم بقوله :[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125} .
وفي بحث هذه الوسائل المقطورة مجال كبير للتفصيل والاستقصاء يمكن أن تقوم لجنة في المؤتمر بدراسته وتخطيطه.
ـ وأما الركن الثاني، وهو أن تكون حياة المسلمين قدوة فهذا ضروري، وهو أشد ضرورة للدعوة في الخارج ، إذ لا يعقل أن يستجيب المدعو الأجنبي إلى دعوة يرى أن دعاتها لا يعملون بها في بلادهم، وإنما هي لديهم للتصدير فقط.
فأول واجب على المسلمين شعوباً وحكاماً ، إن أرادوا القيام بواجب الدعوة ، لكي يصدقهم المدعوون هو أن يطبقوا في بلادهم الإسلام في حياتهم العملية أخلاقاً ونظاماً تشريعياً ، وإن نظام الإسلام وتشريعه لا يقصر عن حاجة زمنية لمرونة أصوله وسعة قابلياتها ، يعرف ذلك العلماء المستنيرون فيمكن أن يعطى التطبيق أحسن قدوة ومثل إذا أحسنت تربية الفرد المسلم تثقيفاً وتوجيهاً إسلامياً.
ـ وأما الركن الثالث، وهو الحماية اللازمة للدعوة ، فهذا هو الدعامة للركنين الأولين ، إذ لا وسيلة تنفع ولا موعظة تسمع، إذا لم يكن لها سند من قوة تحميها وتشد أزرها في وجه خصومها وأعدائها ، وإلا داستها الحوافر.
ومن ثَمَّ شرع الله الجهاد في الإسلام لحماية الدعوة وإمكان إيصالها إلى الآذان وشرحها للأفهام في رويَّة وأمان . ولئن أعلن القرآن أن : [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256} . فقد قال أيضاً للمسلمين :[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] {الأنفال:60} .وقال رسول الله r : «الجهاد ماضِ إلى يوم القيامة»، وكانت حياة الرسول وصحابته الكرام كلها جهاداً في سبيل الدعوة إلى الله بالأموال والأنفس وسائر الطاقات والإمكانات.
والحماية المطلوبة للدعوة وأهلها ليس من الضروري أن تكون حرباً بالسلاح ، بل إن من الحماية المناصرة والدعم والتأييد ، بما يمكن من الوسائل في كل ظرف بحسبه .
فهناك الطرق السياسية المباشرة، وهناك وسائل الإعلام في الداخل والخارج ، وهناك المقاطعة الاقتصادية ، أو الضغط الاقتصادي ، وهناك اللجوء إلى المنظمات الدولية ، وهناك استصراخ الأنصار ، وهناك الاستعانة بخصوم الخصوم ، وهناك شراء الأصوات عند الاقتضاء ، وهناك وهناك ، مالا يُعدُّ ولا يُحصى من وسائل الحماية والدعم ، إذا خَلُصت النية ، وتوافرت العقيدة الإسلامية الجامعة الدافعة، وصحت العزيمة على مناصرة الإسلام وأهله ، وحماية المدِّ الإسلامي ودعوته السلمية من العدوان عليها.
ولكن هذه الحماية لا يمكن أن تتحقَّق إلا في ظل شعور إسلامي موحَّد ، يحس به المسلم فرداً وشعباً وحاكماً بما يقع على أيِّ مسلم آخر من عدوان ، وهذا ما يفقده المسلمون اليوم في ظل القوميات الزائفة المنحرفة التي قطَّعت أوصالهم ، والتي أصبحت شعارات مريبة ، وستاراً يتستَّر به كل ذي غَرَض إلحاديٍّ خبيث إلى جانب ذي المقصد البريء.
ففي الهند مثلاً ينظم الهندوكيون الوثنيون المجازر الجماعية للمسلمين يذبحون عشرات الآلاف في المجزرة الواحدة ، ثم يُستقبل حكام الهند الذين لم يحركوا ساكناً استقبال العظماء الحلفاء في البلاد الإسلامية والعربية ، ويشاد بتقدميتهم.
وفي قبرص يُذَبَّح المسلمون، وتُشنُّ عليهم حملات الإبادة أو الطرد فيُستقبل حاكم قبرص الصليبي المتعصب استقبال الأشقاء ، ويعانق عناق الأحباب في البلاد الإسلامية والعربية .
وفي زنجبار البلد العربي في قلب أفريقية يحيك له الاستعمار مؤامرة حملة صليبية مُقدَّمة بالشيوعية، تذبح فيها الرجال وتستصفى النساء والأموال ، ويستحلق البلد بجارته المعتدية ، فلا يسمع للمسلمين من عرب وغيرهم صوت استنكار ، أو سؤال عما جرى بهم ، بل يبارك عمل جزَّاريهم أو يمدح باعتبار أنه حركة وثورة تقدمية وامتداد لمدّ عقائدي شيوعي على الرغم من أن زنجبار بلد عربي يستحق أهله حماية القومية العربية على الأقل من دعاتها.
وفي الحبشة تشنُّ حملة صليبية صهيونية استعمارية لمحو المسلمين فيها وهم الأكثرية ، وتستلحق أريتريا المسلمة استلحاقاً بقوة الحديد والنار ، وتباد القرى بمن فيها من رجال ونساء وأطفال، ويستولى على أموال المسلمين وتُقدَّم أراضيهم إلى الشركات اليهودية لتنشئ فيها مزارع ومشاريع ، ويجعل في أديس أبابا العاصمة تل أبيب ثانية للمنطلق الصهيوني في أفريقيا ، ومع كل هذا يُستقبل هيلاسلاسي جزَّار الاستعمار الصليبي الصهيوني استقبال الإخوة المتلاقين بعد طول الغياب في البلاد العربية!!!
بل إذا اختصم بلدان عربيان في أفريقيا يجعل هم الحكم بينهما باختيارهما لأنه صديق الطرفين!!
ولو أن المسلمين في أقطار الأرض ، بل لو أنَّ العرب منهم فقط صرخوا كل منهم صوتاً واحداً استنكاراً لهذه الاعتداءات الصارخة على حقوق الإنسان التي يقال إنها يحميها ميثاق الأمم المتحدة ، بهروا المعتدي بصوتهم وشدهوه واضطروه للتوقف.
ومثل ذلك يقال في تشاد التي قامت فيها ثورة لحماية الأكثرية الإسلامية الساحقة من الحكام الصليبيين.
فواقعنا المؤسف هو أنَّ الدول الإسلامية ذات الوزن ومنها الدول العربية نفسها ، تستحيي من أن تستنكر باسم الدين عدواناً على المسلمين ، وإن كان هذا العدوان يمارس بدافع العصبية الدينية الواضحة ، بينما أن الفريق الآخر لا يستحيي من أن يتدخَّل باسم الدين لحماية فئة قليلة من المتنصِّرة تريد أن تنشقَّ في جنوب السودان ، وفي إقليم ديافرا في نيجيريا .
إخواني : هذه أحداث أشرت إليها إشارة دون تفصيل لأنها أصبحت مشهورة لا يجهلها أحد.
ولكن المهم هو أن نعرف أن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى عنصر الحماية ، وإلى عدم استحياء المسلمين من التناصر بسبب الإسلام إذا اعتُدي على أهله أو دعاته ، ولو كان هذا التناصر بالقول والاستنكار المتآزر الجماعي إن لم يكن هناك وسيلة للمناصرة سواه ، وهذا أضعف الإيمان .
إخواني الكرام : إنَّ لكل مذهب من المذاهب الدينية أو العقائدية الحديثة قوة من السلطات الدولية تمده وتحميه اليوم ، سوى الإسلام الذي أصبح يتيماً فاقد الحماية بين أهله :فالكاثولكية من ورائها قوى هائلة دولية تتبنَّاها وتعيش لها ، وتؤيدها وتمدها وتبشِّر بها.
والبروتستانتية من ورائها العالم الأنكلو سكسوني والألماني والأمريكاني تتبنَّاها دساتير تلك الدول والقوى العالمية الكبرى،وتمد منظَّماتها في العالم ، بالإمدادات الهائلة ، وتُمهِّد لها بالضغط السياسي سُبل الامتداد.
والأرثوذكسية كانت روسيا القديمة تعلن نفسها أنها حاميتها في العالم ولا تزال لها اليوم طرق دعم أخرى.
والشيوعية وراءها العالم الشيوعي الهائل بكلِّ ثِقَلِهِ وأساليبه الصريحة والخفيَّة.
أما الإسلام فهو اليتيم بين أهله ، ولا يوجد دولة منهم تعلن أنها مسئولة عن حياته وحمايته وكل تلك القوى الاستعمارية تجنِّد كل إمكاناتها لغزو الإسلام في عُقْر داره سياسياً وفكرياً وتتوزَّع الحملة.
فهذه اليوم تلك الحملة الصليبية الكبرى تجنِّدها الدول العظمى لتنصير أندونيسيا ، أكبر دولة إسلامية في العالم وتستغل فقرها وتخلُّفها ، وحاجتها للقروض ، وتعرض عليها شروطاً لإطلاق حرية التبشير ، وتنطلق فيها جميع كنائس العالم بشتّى أوجه نشاطاتها وإغراءاتها ، وتصرِّح الصحف الأمريكية منذ نحو عام بأنهم يقدرون للفراغ من تنصيرها كلها خمسين عاماً ، ثم يتوقَّعون بحسب ما رأوا من مقاييس السير أن لا يحتاجوا إلى هذه المدة.
هذا يكون تحت سمع المسلمين وبصرهم من دول عربية وغير عربية ، دون أن يتحرك منهم ساكن بفضل دعوة القومية.
ج ـ مجالات الدعوة المقصودة اليوم:
إنَّ المجالات المقصودة للدعوة الإسلامية هي مجالاته : مجال خارجي، ومجال داخلي.
وقد كان الأصل في صدر الإسلام هوالمجال الخارجي ، إذ لم يكن من حاجة للتبشير بالإسلام في عقر داره ومنبعه الذي عنه يصدر ، وإنما كان في المجال الداخلي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
أما اليوم ، فنتيجة للغزو الفكري الذي ابتلى به العالم الإسلامي الضعيف المتخاذل ، الذي أصبح كثير من أبنائه عدواً لدينه ، قبل أعدائه الخارجين التقليديين ، وأصبح المتدينين فيه من الدَّهْماء لا يعرف من جوهر الإسلام شيئاً ، ولا يظن الإسلام إلا مجرَّد صلاة وصيام يكلفانه تضحية ما ، ويخلط بذلك من الخرافات الدخيلة ما يُشَوِّه جمال الإسلام بمظاهر جوفاء وبدع طارئة. أقول: أما اليوم فقد أصبح النطاق الداخلي أحوج إلى الدعوة الإسلامية النيِّرة من النطاق الخارجي .
وعلى هذا ينبغي أن تنشطر مهمة الدعوة الإسلامية إلى خطين:
الأول خط الدعوة بين المسلمين في البلاد الإسلامية ، وهذه تأخذ اسم (التوعية الإسلامية والتبصير) تصحيحاً للانحراف ، وتوضيحاً للمعالم ، وتعليماً للأسس الصحيحة ، ودفعاً للشبهات التي تأتي من الملاحدة والمشككين من الداخل أو من الأعداء في الخارج.
والثاني خط الدعوة في النطاق الخارجي ، وهذه تأخذ اسم (التبشير الإسلامي) ، الذي يعرض فيه الإسلام لغير المسلمين بشتّى اللغات ، وتُعرض فيه ترجمة معاني القرآن وأحاديث الرسول التأسيسية بدرجات شتّى من الإيجاز والتبسيط أو من الاستيعاب والتعُّمق ، مع دفع الشبهات وتصحيح المُفْتريات التي دسَّها المبشِّرون والمستشرقون من طلائع الاستعمار وجنوده.
هذا ما أرى إجمالاً من مهمة هذا المؤتمر الذي يعقد لأول مرة للدعوة الإسلامية.
طرابلس الغرب
15شوال 1390هـ
13/12/1970م مصطفى أحمد الزرقا
ــــــ
مقترحات
وفي ضوء جميع ما تقدم من الملاحظات أعرض على إخوني أعضاء المؤتمر الكرام المقترحات التالية ، للنظر فيها ، وإقرار ما يرونه مناسباً.
1 ـ إنشاء مدرسة للدعوة لتخريج دعاة مؤهَّلين لهذه المهمة ، على أن تكون هذه المدرسة بعيدة عن التيارات المتصارعة في العالم الإسلامي ، وذلك لمواجهة أعداء الإسلامي الذين لا شبهة في عداوتهم، ويفضل أن تكون هذه المدرسة فرعاً من الجامعة الإسلامية في ليبيا.
وتتقبَّل هذه المدرسة في جملة طلابها نُخبة الطلاب المتفوِّقين من أبناء البلاد التي تواجه خَطَر الزحف المعادي للإسلام.
2 ـ التوصية بإنشاء معاهد شرعية إسلامية في الدول العربية والإسلامية ، وإعداد لمدرسة الدعاة.
3 ـافتتاح مراكز للبحوث الإسلامية، أو تقديم دعم ماليّ للموجود منها لدراسة القضايا والمشكلات والشبُّهات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية ، والقضايا العصرية المستحدثة ومحاولة حل المشكلات في ضوء الأسس الإسلامية ، والأجوبة على الشبهات وما إلى ذلك وعرض الحلول بحسب أوسع المذاهب الفقهية والأكثر يسراً.
أما إنشاء مراكز إسلامية على صعيد رسميّ تمثيلي في العالم فقد ثبت عدم جدواه.
4 ـ إنشاء برنامج تدريس عالٍ إسلامي للمختصين في العلوم الحديثه من مختلف الاختصاصات (ولاسيما الأطباء) ليتفقَّهوا في الدين ، ويتمكَّنوا من كتابة بحوث إسلامية حديثه ومفيدة، والتوجيه بأن تكون طريقة الكتابة عرضاً إيجابياً بنّاءً للمفاهيم والأحكام الإسلامية لا عرضاً دفاعياً.
5 ـ فتح منح دراسية للمسلمين من غير العرب للدراسة في البلاد الإسلامية أو العربية.
6 ـ تشجيع طبع المؤلفات الإسلامية المفيدة في التنوير والتوعية وتوزيع هذه المطبوعات على المجتمعات الإسلامية.
7 ـ تقديم مساعدات مالية للجمعيات الإسلامية المحتاجة إلى الدعم والتنشيط في العالم غير الإسلامي ولاسيما في أفريقية والهند.
8 ـ تخصيص أندونيسيا ببرنامج دعم خاص مخطط مدروس ضد نشاط حركة التبشير المسيحي فيها، والاهتمام على الخصوص بفتح مستشفيات فيها يشتمل كلٌّ منها على مدرسة ابتدائية وجامع.
9 ـ التوصية بدعم الجامعة الإسلامية الليبية ، واستكمال نواقصها ، فتكون مركزاً علمياً يعول عليه في تحقيق غاية هذا المؤتمر .
10 ـ إنشاء مجلة نصف سنوية أو ربع سنوية ، تُعنى بكل ما يتَّصل بالدعوة وتنشر بالعربية وأهم اللغات الأجنبية الأخرى.
([1] ) مذكرة ومقترحات مقدمة إلى المؤتمر الأول للدعوة الإسلامية المنعقد بطرابلس الغرب في ليبيا (1390هـ =1970م).
أِخواني الكرام ، أعضاء المؤتمر الميمون.
لا أقدم إليكم بهذه المذكرة معلومات جديدة لا تعرفونها ، وإنما هي مذكرات وخواطر من المعلومات الإسلامية ، والوقائع الزمنية التي نشرت أخبارها وعرفت ، أردت تجميعها وتنسيقها وربطها بغاية هذا المؤتمر الذي نعقد عليه آمالاً جساماً إن شاء الله في موضوع الدعوة الإسلامية وانطلاقاتها وإزاحة العوائق من طريقها ، وإمدادها بما يحتاج إليه.
أ ـ معنى الدعوة الإسلامية ومحتواها:
ما من شك في أن معنى الدعوة الإسلامية هو الطلب إلى الناس أن يؤمنوا بما جاء به الإسلام من عقيدة في الله تعالى تُنَزِّهه ، وفي رسوله r تُصدِّقه ، وأن يقوموا بما جاء به الإسلام من أركان عملية ، وأن يلتزموا بشريعته فيما حلل وحرم ، وفيما أوجب من حقوق وما حمل من التزامات وواجبات للأمة الإسلامية شعوباً وحكاماً ، لتكون كلمة الله تعالى المعلنة في قرآنه العظيم وفي حديث رسوله الكريم هي الكلمة العليا التي يخضع لها المحكوم والحاكم ، وهي التي يبشِّر بها المسلمون غيرهم.
هذا إطار إجمالي لمعنى الدعوة الإسلامية ومضمونها.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية هي الشريعة الأخيرة في حياة البشر ، فلا نبيَّ بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام في عقيدة المسلم ، كانت هذه الدعوة إلى سبيل الله واجبة على المسلمين لغيرهم تبشيراً وتبصيراً ، قياماً بحق الله وانقاذاً للإنسانية المضللة المعذبة في متاهات الاتجاهات الخاطئة والأهواء والأطماع والمغريات ، التي أشار القرآن إلى رؤوسها بقوله تعالى :[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ....] {آل عمران:14} وقد وصف القرآن العظيم رسول الله r بأنه مبشر ونذير وداع إلى الله ، وقال له :[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125} . وأعلن القرآن للمسلمين واجبهم هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى :[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ] {آل عمران:104} . وحصر فيهم الفلاح بقوله في آخر الآية :[ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {آل عمران:104} .فأفاد أنَّ من لم يهتم بهذه الدعوة ولم يقم بها من المسلمين فليس من المفلحين.
وهذا الواجب العظيم متوجه في الإسلام على الأفراد العاديين والحكام والجماعات، أن تتضافر جهودهم في سبيل الدعوة الإسلامية ، كل بحسب ما يملك من طاقة علمية أو مالية أو سلطة وقدرة أخرى من أي نوع كانت .
فمن أعظم الخطأ والجهل اليوم ما يتصوره أو يقوله بعضهم من أن واجب الدعوة والإرشاد هو وظيفة رجال الدين فليس في الإسلام طبقة رجال دين بالمعنى المعروف في الأديان الأخرى ، وهي طبقة كهنوتية ذات سلطة دينية تقيم نفسها وسيطاً بين المؤمن وربه ،ولا يكون المؤمن مقبولاً عند ربه إلا عن طريقها بل كل مسلم مسؤول عن الإسلام كما هو مسؤول عن نفسه وعمن يتبعه من أسرة ، وكل مسلم راع وهو مسؤول عن رعيته في حدود ما ائتمن عليه وتولاه من أمرها ، كما أعلنه الرسول r في صحيح أحاديثه المنقولة الثابتة ، سواء أكان المسلم محكوماً أم حاكماً ، وسواء أكان رجلاً أم امرأة ، وسواء أكان عالماً فقيهاً أم إنساناً عادياً في المجتمع الإسلامي .
فعندما ينتفي احتكار السلطة الدينية يتوزع الواجب على الجميع ، وتعمهم المسؤولية عن الدين، وهذا ما قرره الإسلام.
يتضح من جميع ما تقدَّم أن الله سبحانه الذي جعل الإسلام خاتمة شرائعه المنزلة قد حمل جماعة المسلمين مهمة الأنبياء السابقين في واجب الدعوة إلى دين الله . ذلك أن الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليهم كان كل منهم يبعث ليتم شريعة من سبقه ، وجاء الإسلام في النهاية بعد أن تأهَّلت البشرية لتلقِّي الشريعة الإسلامية الكاملة التي لا تحتاج إلى تكميل ، وأعلنها الله سبحانه صريحة مدوية حاسمة في محكم قرآنه حين وصف رسوله محمداً r بأنه خاتم النبيين ، وأنه ما أرسله إلا كافة للناس لا لقوم دون سواهم ، أو لبيئة أو لعصر مخصوصين ، وأن رسالته رحمة للعالمين أجمعين ، وأعلن استكمال جميع عناصر الشرع الإلهي بالإسلام في قوله عزَّ من قائل : [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3} . فحين كان الأمر كذلك ، ولم يبق من تكميل لشرائع الله السابقة يحتاج إلى نبيٍّ مرسل ، وانحصرت حاجة المستقبل في انحصار الدعوة إلى الدين الأخير والشريعة الكاملة ، وهو دينٌ واضح المعالم، مُعلن النصوص ، ليس فيه سر محتكر لدى فئة من الناس تزعم لنفسها امتيازاً فيه أو وساطة بين الله تعالى وعباده ، بل الناس فيه سواء لا يتميَّزون إلا بالعلم المفتَّح الأبواب للجميع، والمطلوب من الجميع ، وإلا بالتقوى وحُسن السلوك إلى الله.
أقول: حين كان الأمر كذلك أصبح من الطبيعي أن تتوقف النبوات ، لأن مهمة الأنبياء ذات شقين :
الأول : تكميل الشرائع الإلهية السابقة ، وهذا الذي يحتاج إلى وحيٍ إلهيٍّ لا يلقى إلا للأنبياء .
الثاني : الدعوة إلى سبيل الله وتطبيق شريعته ، وهذا من الميسور أن يقوم به الأتباع في دين واضح المعالم والنصوص ليس في علمه احتكار ولا أسرار ، فحين وقف الشقُّ الأول من مهمة الأنبياء وهو التكميل استغنى الشق الثاني عن الرسالات والوحي . وهذا ما أعلنه الإسلام في كتاب الله ، وفي كلام رسوله من ختم النبوات والشرائع الإلهية به وتحميل المسلمين واجب الدعوة ، وما تستلزمه من وسائل وتنظيم وحماية.
من هذا البيان الإجمالي الموجز بخطوطه العريضة ـ مما لا يمكن أن تقوم عقيدة المسلم على خلافه ، ولا أن يفهم من كتاب الله وسنة رسوله الأعظم خلافه ـ يتبين أن الإسلام رسالة أهله جميعاً من العرب خاصَّة ، ومن سواهم عامة ، فهو الرسالة الخالدة الإلهية المصدر ، العربية المنشأ ، العالمية المحمل .
فكل دعوة بين المسلمين إلى قومية عربية أو إلى سواها من القوميات فإن موقف الإسلام منها كما يلي :
1 ـ فإذا أريد بالقومية توزيع العمل التنظيمي بحسب الإطارات القومية والإقليمية بين المسلمين بحيث يبدأ كل قوم بتنظيم أمرهم ومصالحهم المحلية على أساس الإسلام والترابط مع سائر المسلمين من أيِّ قوم كانوا فهذا عمل تنظيمي وترتيب لا ينافي الإسلام.
2 ـ وأما إذا أريد بالدعوة إلى قومية عربية أو سواها من القوميات ليتكتل فيها شعب من الشعوب الإسلامية على أساس تحل فيه رابطة أخرى عرقية أو اقليمية أو عقائدية محل الإسلام، وتعزل فئة من المسلمين عن سائرهم ، وعن الشعور بما يشعر به إخوانهم المسلمون الآخرون، وعن التألم لما يؤلمهم ، وعن الاهتمام بما يهمهم ويصلح شأنهم في أي بقعة كانوا من الأرض فتلك دعوة إلى وثنية جديدة تنافي الإسلام ، وهي من فتنة أبالسة البشر من أعداء الإسلام يُراد بها شق صفوف المسلمين وتفريقهم ، وقطعهم عن رسالتهم العامة الخالدة العليا ، إذ لو جازت مثل هذه الدعوة القومية للعرب ، لجاز لغيرهم من الشعوب الإسلامية في المقابل أن ينكمشوا على قوميتهم ، ويتنكَّروا لباقي الشعوب الإسلامية، ويعتبروا غيرهم من المسلمين كغير المسلمين، وهذا ما يريده أعداء الإسلام ، لتقويض كيان الإسلام ، ، وفصم عراه من الداخل.
ب ـ مستلزمات الدعوة الإسلامية:
إن قيام المسلمين بالدعوة الإسلامية يستلزم أركاناً ثلاثة لا غنى عن أحدهما ، وهي :
ا ـ إعداد الوسائل.
2 ـ أن تكون حياة المسلمين قدوة وتفسيراً عملياً لأوامر الإسلام.
3 ـإعداد الحماية اللازمة للدعوة .
ـ فأما الركن الأول ، أي الوسائل والأجهزة فأمره واضح، وهو يشمل إعداد الدعاة الصالحين لكل قوم بلغتهم أو بلغة يفهمونها ، واستخدام وسائل الفن الإعلامي بمختلف أنواعها ، ووضع المؤلفات التي تشرح الإسلام بدرجات مختلفة في البسط والإسهاب للمبتدئين ومن فوقهم لكلٍّ بحسبه ، وبالأسلوب الذي يناسبه من طرق الفهم والإقناع ، وَفْقاً للمنهج السامي الذي أشار إليه القرآن العظيم بقوله :[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ] {النحل:125} .
وفي بحث هذه الوسائل المقطورة مجال كبير للتفصيل والاستقصاء يمكن أن تقوم لجنة في المؤتمر بدراسته وتخطيطه.
ـ وأما الركن الثاني، وهو أن تكون حياة المسلمين قدوة فهذا ضروري، وهو أشد ضرورة للدعوة في الخارج ، إذ لا يعقل أن يستجيب المدعو الأجنبي إلى دعوة يرى أن دعاتها لا يعملون بها في بلادهم، وإنما هي لديهم للتصدير فقط.
فأول واجب على المسلمين شعوباً وحكاماً ، إن أرادوا القيام بواجب الدعوة ، لكي يصدقهم المدعوون هو أن يطبقوا في بلادهم الإسلام في حياتهم العملية أخلاقاً ونظاماً تشريعياً ، وإن نظام الإسلام وتشريعه لا يقصر عن حاجة زمنية لمرونة أصوله وسعة قابلياتها ، يعرف ذلك العلماء المستنيرون فيمكن أن يعطى التطبيق أحسن قدوة ومثل إذا أحسنت تربية الفرد المسلم تثقيفاً وتوجيهاً إسلامياً.
ـ وأما الركن الثالث، وهو الحماية اللازمة للدعوة ، فهذا هو الدعامة للركنين الأولين ، إذ لا وسيلة تنفع ولا موعظة تسمع، إذا لم يكن لها سند من قوة تحميها وتشد أزرها في وجه خصومها وأعدائها ، وإلا داستها الحوافر.
ومن ثَمَّ شرع الله الجهاد في الإسلام لحماية الدعوة وإمكان إيصالها إلى الآذان وشرحها للأفهام في رويَّة وأمان . ولئن أعلن القرآن أن : [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256} . فقد قال أيضاً للمسلمين :[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] {الأنفال:60} .وقال رسول الله r : «الجهاد ماضِ إلى يوم القيامة»، وكانت حياة الرسول وصحابته الكرام كلها جهاداً في سبيل الدعوة إلى الله بالأموال والأنفس وسائر الطاقات والإمكانات.
والحماية المطلوبة للدعوة وأهلها ليس من الضروري أن تكون حرباً بالسلاح ، بل إن من الحماية المناصرة والدعم والتأييد ، بما يمكن من الوسائل في كل ظرف بحسبه .
فهناك الطرق السياسية المباشرة، وهناك وسائل الإعلام في الداخل والخارج ، وهناك المقاطعة الاقتصادية ، أو الضغط الاقتصادي ، وهناك اللجوء إلى المنظمات الدولية ، وهناك استصراخ الأنصار ، وهناك الاستعانة بخصوم الخصوم ، وهناك شراء الأصوات عند الاقتضاء ، وهناك وهناك ، مالا يُعدُّ ولا يُحصى من وسائل الحماية والدعم ، إذا خَلُصت النية ، وتوافرت العقيدة الإسلامية الجامعة الدافعة، وصحت العزيمة على مناصرة الإسلام وأهله ، وحماية المدِّ الإسلامي ودعوته السلمية من العدوان عليها.
ولكن هذه الحماية لا يمكن أن تتحقَّق إلا في ظل شعور إسلامي موحَّد ، يحس به المسلم فرداً وشعباً وحاكماً بما يقع على أيِّ مسلم آخر من عدوان ، وهذا ما يفقده المسلمون اليوم في ظل القوميات الزائفة المنحرفة التي قطَّعت أوصالهم ، والتي أصبحت شعارات مريبة ، وستاراً يتستَّر به كل ذي غَرَض إلحاديٍّ خبيث إلى جانب ذي المقصد البريء.
ففي الهند مثلاً ينظم الهندوكيون الوثنيون المجازر الجماعية للمسلمين يذبحون عشرات الآلاف في المجزرة الواحدة ، ثم يُستقبل حكام الهند الذين لم يحركوا ساكناً استقبال العظماء الحلفاء في البلاد الإسلامية والعربية ، ويشاد بتقدميتهم.
وفي قبرص يُذَبَّح المسلمون، وتُشنُّ عليهم حملات الإبادة أو الطرد فيُستقبل حاكم قبرص الصليبي المتعصب استقبال الأشقاء ، ويعانق عناق الأحباب في البلاد الإسلامية والعربية .
وفي زنجبار البلد العربي في قلب أفريقية يحيك له الاستعمار مؤامرة حملة صليبية مُقدَّمة بالشيوعية، تذبح فيها الرجال وتستصفى النساء والأموال ، ويستحلق البلد بجارته المعتدية ، فلا يسمع للمسلمين من عرب وغيرهم صوت استنكار ، أو سؤال عما جرى بهم ، بل يبارك عمل جزَّاريهم أو يمدح باعتبار أنه حركة وثورة تقدمية وامتداد لمدّ عقائدي شيوعي على الرغم من أن زنجبار بلد عربي يستحق أهله حماية القومية العربية على الأقل من دعاتها.
وفي الحبشة تشنُّ حملة صليبية صهيونية استعمارية لمحو المسلمين فيها وهم الأكثرية ، وتستلحق أريتريا المسلمة استلحاقاً بقوة الحديد والنار ، وتباد القرى بمن فيها من رجال ونساء وأطفال، ويستولى على أموال المسلمين وتُقدَّم أراضيهم إلى الشركات اليهودية لتنشئ فيها مزارع ومشاريع ، ويجعل في أديس أبابا العاصمة تل أبيب ثانية للمنطلق الصهيوني في أفريقيا ، ومع كل هذا يُستقبل هيلاسلاسي جزَّار الاستعمار الصليبي الصهيوني استقبال الإخوة المتلاقين بعد طول الغياب في البلاد العربية!!!
بل إذا اختصم بلدان عربيان في أفريقيا يجعل هم الحكم بينهما باختيارهما لأنه صديق الطرفين!!
ولو أن المسلمين في أقطار الأرض ، بل لو أنَّ العرب منهم فقط صرخوا كل منهم صوتاً واحداً استنكاراً لهذه الاعتداءات الصارخة على حقوق الإنسان التي يقال إنها يحميها ميثاق الأمم المتحدة ، بهروا المعتدي بصوتهم وشدهوه واضطروه للتوقف.
ومثل ذلك يقال في تشاد التي قامت فيها ثورة لحماية الأكثرية الإسلامية الساحقة من الحكام الصليبيين.
فواقعنا المؤسف هو أنَّ الدول الإسلامية ذات الوزن ومنها الدول العربية نفسها ، تستحيي من أن تستنكر باسم الدين عدواناً على المسلمين ، وإن كان هذا العدوان يمارس بدافع العصبية الدينية الواضحة ، بينما أن الفريق الآخر لا يستحيي من أن يتدخَّل باسم الدين لحماية فئة قليلة من المتنصِّرة تريد أن تنشقَّ في جنوب السودان ، وفي إقليم ديافرا في نيجيريا .
إخواني : هذه أحداث أشرت إليها إشارة دون تفصيل لأنها أصبحت مشهورة لا يجهلها أحد.
ولكن المهم هو أن نعرف أن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى عنصر الحماية ، وإلى عدم استحياء المسلمين من التناصر بسبب الإسلام إذا اعتُدي على أهله أو دعاته ، ولو كان هذا التناصر بالقول والاستنكار المتآزر الجماعي إن لم يكن هناك وسيلة للمناصرة سواه ، وهذا أضعف الإيمان .
إخواني الكرام : إنَّ لكل مذهب من المذاهب الدينية أو العقائدية الحديثة قوة من السلطات الدولية تمده وتحميه اليوم ، سوى الإسلام الذي أصبح يتيماً فاقد الحماية بين أهله :فالكاثولكية من ورائها قوى هائلة دولية تتبنَّاها وتعيش لها ، وتؤيدها وتمدها وتبشِّر بها.
والبروتستانتية من ورائها العالم الأنكلو سكسوني والألماني والأمريكاني تتبنَّاها دساتير تلك الدول والقوى العالمية الكبرى،وتمد منظَّماتها في العالم ، بالإمدادات الهائلة ، وتُمهِّد لها بالضغط السياسي سُبل الامتداد.
والأرثوذكسية كانت روسيا القديمة تعلن نفسها أنها حاميتها في العالم ولا تزال لها اليوم طرق دعم أخرى.
والشيوعية وراءها العالم الشيوعي الهائل بكلِّ ثِقَلِهِ وأساليبه الصريحة والخفيَّة.
أما الإسلام فهو اليتيم بين أهله ، ولا يوجد دولة منهم تعلن أنها مسئولة عن حياته وحمايته وكل تلك القوى الاستعمارية تجنِّد كل إمكاناتها لغزو الإسلام في عُقْر داره سياسياً وفكرياً وتتوزَّع الحملة.
فهذه اليوم تلك الحملة الصليبية الكبرى تجنِّدها الدول العظمى لتنصير أندونيسيا ، أكبر دولة إسلامية في العالم وتستغل فقرها وتخلُّفها ، وحاجتها للقروض ، وتعرض عليها شروطاً لإطلاق حرية التبشير ، وتنطلق فيها جميع كنائس العالم بشتّى أوجه نشاطاتها وإغراءاتها ، وتصرِّح الصحف الأمريكية منذ نحو عام بأنهم يقدرون للفراغ من تنصيرها كلها خمسين عاماً ، ثم يتوقَّعون بحسب ما رأوا من مقاييس السير أن لا يحتاجوا إلى هذه المدة.
هذا يكون تحت سمع المسلمين وبصرهم من دول عربية وغير عربية ، دون أن يتحرك منهم ساكن بفضل دعوة القومية.
ج ـ مجالات الدعوة المقصودة اليوم:
إنَّ المجالات المقصودة للدعوة الإسلامية هي مجالاته : مجال خارجي، ومجال داخلي.
وقد كان الأصل في صدر الإسلام هوالمجال الخارجي ، إذ لم يكن من حاجة للتبشير بالإسلام في عقر داره ومنبعه الذي عنه يصدر ، وإنما كان في المجال الداخلي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
أما اليوم ، فنتيجة للغزو الفكري الذي ابتلى به العالم الإسلامي الضعيف المتخاذل ، الذي أصبح كثير من أبنائه عدواً لدينه ، قبل أعدائه الخارجين التقليديين ، وأصبح المتدينين فيه من الدَّهْماء لا يعرف من جوهر الإسلام شيئاً ، ولا يظن الإسلام إلا مجرَّد صلاة وصيام يكلفانه تضحية ما ، ويخلط بذلك من الخرافات الدخيلة ما يُشَوِّه جمال الإسلام بمظاهر جوفاء وبدع طارئة. أقول: أما اليوم فقد أصبح النطاق الداخلي أحوج إلى الدعوة الإسلامية النيِّرة من النطاق الخارجي .
وعلى هذا ينبغي أن تنشطر مهمة الدعوة الإسلامية إلى خطين:
الأول خط الدعوة بين المسلمين في البلاد الإسلامية ، وهذه تأخذ اسم (التوعية الإسلامية والتبصير) تصحيحاً للانحراف ، وتوضيحاً للمعالم ، وتعليماً للأسس الصحيحة ، ودفعاً للشبهات التي تأتي من الملاحدة والمشككين من الداخل أو من الأعداء في الخارج.
والثاني خط الدعوة في النطاق الخارجي ، وهذه تأخذ اسم (التبشير الإسلامي) ، الذي يعرض فيه الإسلام لغير المسلمين بشتّى اللغات ، وتُعرض فيه ترجمة معاني القرآن وأحاديث الرسول التأسيسية بدرجات شتّى من الإيجاز والتبسيط أو من الاستيعاب والتعُّمق ، مع دفع الشبهات وتصحيح المُفْتريات التي دسَّها المبشِّرون والمستشرقون من طلائع الاستعمار وجنوده.
هذا ما أرى إجمالاً من مهمة هذا المؤتمر الذي يعقد لأول مرة للدعوة الإسلامية.
طرابلس الغرب
15شوال 1390هـ
13/12/1970م مصطفى أحمد الزرقا
ــــــ
مقترحات
وفي ضوء جميع ما تقدم من الملاحظات أعرض على إخوني أعضاء المؤتمر الكرام المقترحات التالية ، للنظر فيها ، وإقرار ما يرونه مناسباً.
1 ـ إنشاء مدرسة للدعوة لتخريج دعاة مؤهَّلين لهذه المهمة ، على أن تكون هذه المدرسة بعيدة عن التيارات المتصارعة في العالم الإسلامي ، وذلك لمواجهة أعداء الإسلامي الذين لا شبهة في عداوتهم، ويفضل أن تكون هذه المدرسة فرعاً من الجامعة الإسلامية في ليبيا.
وتتقبَّل هذه المدرسة في جملة طلابها نُخبة الطلاب المتفوِّقين من أبناء البلاد التي تواجه خَطَر الزحف المعادي للإسلام.
2 ـ التوصية بإنشاء معاهد شرعية إسلامية في الدول العربية والإسلامية ، وإعداد لمدرسة الدعاة.
3 ـافتتاح مراكز للبحوث الإسلامية، أو تقديم دعم ماليّ للموجود منها لدراسة القضايا والمشكلات والشبُّهات التي تعترض طريق الدعوة الإسلامية ، والقضايا العصرية المستحدثة ومحاولة حل المشكلات في ضوء الأسس الإسلامية ، والأجوبة على الشبهات وما إلى ذلك وعرض الحلول بحسب أوسع المذاهب الفقهية والأكثر يسراً.
أما إنشاء مراكز إسلامية على صعيد رسميّ تمثيلي في العالم فقد ثبت عدم جدواه.
4 ـ إنشاء برنامج تدريس عالٍ إسلامي للمختصين في العلوم الحديثه من مختلف الاختصاصات (ولاسيما الأطباء) ليتفقَّهوا في الدين ، ويتمكَّنوا من كتابة بحوث إسلامية حديثه ومفيدة، والتوجيه بأن تكون طريقة الكتابة عرضاً إيجابياً بنّاءً للمفاهيم والأحكام الإسلامية لا عرضاً دفاعياً.
5 ـ فتح منح دراسية للمسلمين من غير العرب للدراسة في البلاد الإسلامية أو العربية.
6 ـ تشجيع طبع المؤلفات الإسلامية المفيدة في التنوير والتوعية وتوزيع هذه المطبوعات على المجتمعات الإسلامية.
7 ـ تقديم مساعدات مالية للجمعيات الإسلامية المحتاجة إلى الدعم والتنشيط في العالم غير الإسلامي ولاسيما في أفريقية والهند.
8 ـ تخصيص أندونيسيا ببرنامج دعم خاص مخطط مدروس ضد نشاط حركة التبشير المسيحي فيها، والاهتمام على الخصوص بفتح مستشفيات فيها يشتمل كلٌّ منها على مدرسة ابتدائية وجامع.
9 ـ التوصية بدعم الجامعة الإسلامية الليبية ، واستكمال نواقصها ، فتكون مركزاً علمياً يعول عليه في تحقيق غاية هذا المؤتمر .
10 ـ إنشاء مجلة نصف سنوية أو ربع سنوية ، تُعنى بكل ما يتَّصل بالدعوة وتنشر بالعربية وأهم اللغات الأجنبية الأخرى.
([1] ) مذكرة ومقترحات مقدمة إلى المؤتمر الأول للدعوة الإسلامية المنعقد بطرابلس الغرب في ليبيا (1390هـ =1970م).