ندوة الحركات الإسلامية المشاركة في المؤسسات المغرب
الوسط التونسية
نشرت صحيفة الشرق الأوسط نهاية شهر أفريل الماضي الخبر التالي: أحداث سيناء: الحكومة المصرية جلاّد للإخوان وضحية لجماعات العنف!!
في نفس المناسبة وفي الشريط الإخباري المكتوب على شاشة إحدى الفضائيات العربية ظهر خبران مصريان حدثا وبُثّا في آن واحد، أحدهما من سيناء عن تفجيرات «دهب» والثاني عن اعتقالات تشنها الحكومة المصرية في نفس تلك الفترة ضد عدد من أتباع حركة الإخوان المسلمين بتهمة الانتماء إلى حركة محظورة.
حين سئل أحد المسؤولين السياسيين عن هذا التزامن ودلالته السياسية أجاب أن المعركة كانت في سيناء مع رأس الأفعى و أن الهجوم على الإخوان في القاهرة محاولة للسيطرة على جسمها.
هذا التفسير ذاته وقع استعماله في بعض الأماكن الأخرى، مثلا في تونس و قبل عقد من الزمن حين كان النظام السياسي يواجه حركة النهضة برز عدد من العلمانيين محرّضا على استئصال كل التوجهات ذات المرجعية الإسلامية محتجا بأن لا فرق بينهم وأن كل ما في الأمر هو توزيع للأدوار بين ظلاميين معلنين وآخرين مستترين. لقد كان شعار الاستئصاليين دائما " لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية" على اعتبار أن غاية الإسلاميين واحدة : الانقضاض على المكاسب الحديثة والاستئثار بالسلطة.
لكن رغم بساطة التفسير وخطورة الشعار فإننا إذا أردنا معالجة موضوعية لفهم هذا التخوّف الشديد متجنبين في ذلك محاكمة نوايا بعض المثقفين العلمانيين خاصة, فكيف يمكن أن نشرح هذا الاندفاع للإدانة الجازمة؟
إذا بدأنا من حركة الإخوان المسلمين في مصر منذ نشأتها ثم ما تولد عنها في كثير من البلدان العربية أدركنا أنها تتميز بجملة من الثوابت التي تجعلها خصما للسلطة القائمة وخصما لخصوم السلطة من أحزاب وحركات ونقابات.
هذا الموقع السياسي المقلق لا يرجع في العام الأغلب إلى مناورات و سلوكات تكتيكية فقط بل هو قائم على محددات فكرية وأخرى تنظيمية هي التي يمكن أن تساعد على تفسير جانب من التوجّس الذي يعبّر عنه بعض المتخوفين من صدقية ما يرفعه الإسلاميون الراغبون في العمل السياسي القانوني و الانخراط في اللعبة الديمقراطية.
يمكننا أن نحدد هذه الثوابت في النقاط الثلاث التالية:
-1- الإطلاقية القائمة على اعتبار امتلاك الحقيقة مما يفضي إلى اكتساب الصبغة الشمولية التي تعني قدرة تلك الحركات بمفردها على تصفية كل العقبات السياسية والاجتماعية والحضارية فهي البديل الحكومي والمجتمعي. هذا التوجه يختزله القول بأن "الإسلام هو الحل" للمعضلات التي تواجه المجتمعات.
-2-النقاوة الإيديولوجية التي تجعل فكر الحركات ومقولاتها منظومةً مغلقة رافضة لتطوير الرؤية أو مراجعتها على ضوء ما يستجد من معطيات و ذلك كاعتبار مشكلة العالم الإسلامي هي في عدم وجود حكومة إسلامية منذ سقوط الخلافة.
-3- التداخل الهيكلي والتنظيمي بين صفتها كحركة تربوية ثقافية دعوية هدفها تنشئة الأفراد والجماعات على سلوك ورؤية وخُلق ترتبط بالقيم الدينية وبين صفتها كحزب سياسي يسعى إلى إيجاد أفضل السبل لإدارة الشأن العام بتحقيق إصلاحات جوهرية أو مرحلية في النظام الاجتماعي والاقتصادي.
هذه الخصوصيات الثلاث وإن لم تكن مما يميّز الحركات الإسلامية وحدَها فإن الذي يجعل هذه المحددات في السياق الإسلامي مصدرَ تخوّفٍ يمكن أن يُفهَم إلى حدّ ما هو تداخلها مع عنصر رابع يتميّز به ذلك السياق عن كل حركة أخرى ذات إيديولوجية شمولية أخرى. إنه عنصر المعطى الثقافي السائد في المجتمعات العربية الإسلامية الذي يمثّله السند التراثي العاطفي والروحي المنتشر في مختلف الأوساط والفئات مما يجعل خطاب الإيديولوجي لعموم الحركات الإسلامية مستساغا ومقبولا بدرجة عالية.
ما اقترحته بعض الحركات الإسلامية في عدد من البلدان العربية للخروج من مأزق التحديث القسري العامل من أجل تنمية بدون ديمقراطية حريّ بالدرس. ضمن هذا التوجه تبرز تجربة حركة مجتمع السلم الجزائرية على أساس مساهمتها في تقديم جواب لهذه الإشكالية.
-2- الجزأرة الحركية
يحدد "عبد الرزاق مُقرِي" في المقال الافتتاحي لمجلة "البصيرة" في عددها الأول ( جانفي 1997) ما يمكن أن يُعَدّ منطلقَ تفكيِرِ حركة مجتمع السلم بالجزائر . يذكر العنصرين الأساسيين المكونين للرؤية المحددة لرسالة الحركة فيقول تحت عنوان واقع الحركة الإسلامية في آخر هذا القرن، ما العمل؟ : "لقد بات واضحا أن المعركة التي تخوضها الحركة الإسلامية لإثبات وجودها والتمكين لمشروعها قد تغيرت آلاتها وتبدلت أدواتها فانهيار المعسكر الاشتراكي الذي أحدث تحوّلا جذريا في موازين القوى مكّن الغرب وعلى رأسه أمريكا من الهيمنة الكلية على لعالم بأسره وتحوّلت بذلك الكرة الأرضية إلى مستعمرة كبيرة في يد الليبرالية المتوحشة".
إزاء هذا العنصر الدولي الخارجي يذَكِّر بالمأزق الداخلي فيقول إن " الحركة الإسلامية التي تعتبر القوة الوحيدة التي بقيت مستعصية على مخططات الاستئصال دخلت فصائل كثيرة منها في متاهات عادت عليها بالوبال وبدأت في مجملها في حرج شديد من أداء رسالتها لا سيما أن شعارها المركزي " الإسلام هو الحل" الذي اقتربت بواسطته من واقع السلطة في بعض الدول لم يفرز حلولا عملية".
من هذين التحديدين تتضح طبيعة المعركة كما تتصورها حركة مجتمع السلم وكما تريد أن تخوض غمارها : إنها مواجهة مزدوجة ، ضد " الليبرالية الجديدة و العولمة الاقتصادية وصندوق النقد الدولي " من جهة ومن جهة أخرى تهدف إلى تركيز خطاب إسلامي عقلاني "أداته الفكر القابل لصناعة الحياة واكتساب أسباب القوة بعيدا عن العواطف والهتافات".
من هذا التشخيص الذي يحيل على السياقين الدولي و المحلّي المختزلين صراعا تاريخيا بين قوى داخلية وخارجية يتضح خيار الحركة في توجّه تنموي وطني يرمي إلى اكتساب أسباب القوة المادية و غير المادية التي "تحسم المواجهة لصالح الحق والعدل صانعة بذلك أملا حقيقيا لبؤساء الكرة الأرضية".
تجسيدا لهذا التشخيص حرصت مجلة "البصيرة" في أعدادها أن تضبط هذا التوجه التحرري في مجالين أساسين:
-1- الوعي التنموي الاجتماعي والمؤسساتي
-2- التحرر الثقافي وتمحيص الفكر الديني.
في المجال الأول نذكر على سبيل المثال عناوين البحوث التي تبرز في أعداد المجلة:
-تطور الأزمة التنموية في ظل البدائل المستوردة.
-تفسير انخفاض الفعالية التنظيمية في المؤسسات الجزائرية.
-أولويات التنمية في المنظور الإسلامي.
-الوقف وآثاره الاقتصادية الاجتماعية في التنمية.
-مفهوم النفقة العامة في الفكر المالي الإسلامي.
-مشكلة العجز المالي الحكومي.
-الفائض الاقتصادي و أهميته في التنمية.
- ثمنية الأوراق النقدية.
أما في السجل الثاني فنجد عناوين الدراسات التالية :
-التيار التغريبي في الجزائر جذوره وامتداداته
-علم الحديث بين الجناية والعناية
-العقيدة الإسلامية بين السلف والسلفية
-نحو الطريق الوسط
-نحو دراسة واعية لتراثنا الحضاري
-قانون الأسرة الجزائري ما له وما عليه
-بين الوطنية والإسلامية في الجزائر.
ما ينتهي إليه المتفحص للبحوث المنشورة في السجلين اللذين ينتظمان بحوث هذه المجلة يمكن تحديدُه في ثلاث نقاط:
-1- رفض أي توجّه صراعيٍّ بين الحركة والحكومة.
-2- عناية واضحة بتكوين كوادر بحثية متخصصة .
- 3- تمثّل انتقائي للثقافة الإخوانية المشرقية.
يتضح هذا الخط الذي يمكن أن نصفه بالجزأرة الحركية في مسيرة حركة مجتمع السلم ضمن أدبياتها و مواقفها واختياراتها التي أعلنت عنها فيما يزيد عن ربع قرن من الزمن.
نجد هذا انطلاقا من الرسالة التي وجهها محمد بوسليماني ومحفوظ نحناح عام 1976 إلى الرئيس الجزائري بعنوان "إلى أين يا بومدين ؟.هي رسالة تذكر بأخرى سابقة أصدرها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في بيان 16 أفريل 1964 نصح فيه المسئول الأول في البلاد أن يرجع إلى الجادة ويعود إلى الصواب.
واجه النظام أصحاب الرسالتين بالسجن. لكن ما يعنينا هنا أن رسالة نحناح و بوسليماني كانت ناطقة باسم "جماعة الموحدين" و كانت في لهجتها الشديدة تعبّر عما بلغته الجزائر في ظل نظام الحزب الأوحد من احتقان نتيجة الاستبداد السياسي والفقر الاقتصادي والجدب العلمي والمعرفي.
من جهة ثانية كانت الرسالتان تعكسان مفارقةَ أكثرَ من نظام عربي تكون نخبُه الحاكمة تحديثيةَ التوجُّه لكنها لا ترى حرجا في تمركز كل الصلاحيات في يدها. هذا في حين يكون الواقع الثقافي الاجتماعي غير موصول البتة بهذا المنزع التحديثي المركزي. كان هذا هو شأن المجتمع الجزائري طوال عقود ثلاثة سبقت انفجار الأوضاع في أكتوبر 1988إذ كان يتوفر على عدد من الفعاليات التقليدية كالمساجد، والزوايا، والمدارس والجوامع والمعاهد الدينية، والجمعيات الخيرية التي تنطلق في عملها من المرجعية الإسلامية هذا فضلا عن علماء دين، ومفكرين إسلاميين، ومؤسسات إسلامية، وإعلام إسلامي.
مقابل هذا كان نظام الحكم ديمقرطيا شعبيا لا يتردد في الاصطفاف مع التوجهات علمانية الاشتراكية السوفياتية.
ما نود التأكيد عليه في هذا المستوى الأول هو أن منطلق الشيخ نحناح و"جماعة المؤمنين" في الخطوات الحركية الأولى كان يحيل من الناحية الشرعية على مبدأ النصيحة لأولي الأمر . إنه اختار أن يظل ضمن دائرة السمع والطاعة والتذكير. من هذه الجهة ليس هناك تكفير للدولة أو دعوة للخروج عليها إنما هي استتباعات مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
يتأكد هذا الخط من الناحية الحركية وما تتطلبه من اختيارات فقد كانت حركة مجتمع السلم رغم تعاونها مع حركة الإخوان المسلمين في مصر غير مناوئة للسلطة الحاكمة وغير قاطعة مع الخط الوطني للثورة الجزائرية.
من هذه الناحية لم نجد في أدبيات الحركة بعد ذلك شيئا مما دعا إليه الإخوان المسلمون في المشرق الأنظمة العربية من ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية وأن سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم هو عدم تطبيقها أو التأكيد على أن الإسلام دين ودولة وأن علاقتهم بالآخر تتحدد من رسالتهم التي هي أستاذية العالم. ما نقرأه بعد ذلك في بيانات حركة مجتمع السلم يؤكد سمة الحركية المنزَّلة في السياق الجزائري:
نجد هذا في تعريفهم لحركتهم التي يعتبرونها" حركة سياسية شعبية إصلاحية شاملة، شعارها: العلم والعدل والعمل، وثوابتها: الإسلام، واللغة العربية، والانتماء للأمة الإسلامية، والنظام الجمهوري، والحريات الخاصة والعامة، والتداول السلمي على السلطة من خلال الواقعية والموضوعية والمرحلية.
أما المرجعية المعتمَدة فهي ذات شقين:
-أ- شقٌّ ديني ثقافي يتمثل في الإسلام بمصادره ومقاصده الكبرى باعتباره قوة جمع وتوحيد وضبط وتقارب بين أطراف الأمة الإسلامية وتوجهاتها وتطلعاتها، وهو كذلك مصدر إلهام وتجديد، وعنصر تفاعل للشعب، ورعاية مصالحه عبر الاجتهاد الجماعي والتعاون على البر والتقوى
-ب- شقٌّ ثان حديث يعبّر عنه تراث الحركة الوطنية وتاريخها الحافل بالبطولات، وميراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفضائل الزوايا التي كانت منبع إشعاع حضاري وإحياء للروح الوطنية والجهادية للشعب غداة الاستعمار.
هذا التوجه المحوري هو الذي سيتبلور بعد ذلك في ما يعبّر عنه عبد الرزاق مُقري بالاختيار الاستراتيجي الذي تعنيه مسألة المشاركة.
-3- المشاركة وقبولها.
انطلقت عشرية 1978- 1988 بوفاة الرئيس بومدين واتنتهت بأحداث 5أكتوبر التي عجّلت بانفتاح البلاد على التعددية السياسية بعد فترة من صراع أجنحة النظام . على الصعيد الدولي تزامنت هذه العشرية مع تفكك المنظومة السوفياتية مؤذنة بنهاية سلطة أنظمة الديمقراطيات الشعبية ذات الحزب الأوحد.
برزت في هذه الفترة عدة توجهات إسلامية مشكّلة بذلك فسيفساء حركية حاولت الاستفادة من دستور 23-2-1989 لتفرض واقعا سياسيا جديدا سيكون مثار مخاوف أكثر من جهة مُُتَنَفذة داخل الجزائر وخارجها.
أفرز هذا التدافع عام 1989 "جمعية الإرشاد والإصلاح" التي قام عليها الشيخ نحناح لتكون واجهة لجماعة "الأخوان المسلمون" كما ظهرت في نفس السنة "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ" تمّ كذلك الإعلان عن تأسيس "رابطة الدعوة الإسلاميّة" بقيادة أحمد سحنون على أن تكون مرجعاً يحسم الخلافات التي يمكن أن تظهر بين الجمعيات والحركات الإسلامية. إلاّ أنّ الواقع بتعقيداته و مشاكله حال دون الالتئام وأدّى إلى الانشقاق في جمعية الإرشاد فولدت حركتان منفصلتان في أواخر سنة 1990: حركة المجتمع الإسلامي بقيادة محفوظ نحناح، وحركة النهضة الإسلامية بقيادة عبد الله جاب الله.
من هذه المرحلة تنكشف إحدى الثغرات الكبرى في تجربة الحركات الإسلامية الجزائرية هي ضعف المرجعية العلمية والفكرية للحراك الإسلامي و تأثير هذا الضعف في نشوء مؤسسات سياسية و اجتماعية حديثة وفاعلة. هذا المأزق ستشترك فيه حركة حماس مع غيرها من الحركات السياسية خاصة جبهة التحرير الوطني. إنها ورطة الدخول في تنافس سياسي سلمي موسوم بالهشاشة الراجعة إلى قصور فادح في الفكر السياسي والاجتماعي للأطراف المتنافسة. معضلة الوضع الجزائري عامة والإسلامي خاصة هو أن أن المشاركة تظل معتمدة على الشرعية الثورية والتاريخية، أي أن الأطراف السياسية تظل في معظم جهودها منصرفة إلى التماس استحقاق السلطة من زاوية البحث في الماضي. بذلك تعسر بلورة برنامج وخطاب يستجيبان لقضايا الواقع الفوري الذي تنتظره الجماهير : المحك الحقيقي لاستحقاق السلطة.
بذلك يؤول الالتزام السياسي إلى مناورات سياسوية ويتحوّل اختيار المشاركة من اختيار الاستراتيجي إلى تحالفات ظرفية غير قادرة على المساهمة في تغييرات نوعية.
هذا ما ستكشف عنه حياة حركة مجتمع السلم في العشرية الدموية التي تلت إلغاء الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية في جانفي 1992.
تحدد ذلك منذ ماي 1991 تاريخ انعقاد أول مؤتمر لحركة حماس حتى أوت 2003 موعد انعقاد المؤتمر الثالث للحركة. عبّر عن اختيار المشاركة الشيخ نحناح في مقولته المثلثة لا للكرسي الشاغر - لا للمواجهة –نعم للمبادرات السياسية.
ما يبرزه نشاط الحركة في هذه المرحلة الثانية لافت للنظر ويمكن أن نضبط أهم محطاته فيما يلي:
■صدام دام مع عناصر مسلحة نجم عنه اغتيال ما يقارب ال500 من عناصر الحركة من بينهم نائب رئيس الحركة الشيخ بوسليماني.
■المشاركة في ندوة الوفاق سنة 1994التي أفضت إلى انبثاق المجلس الوطني الانتقالي حيث مثّل حركة المجتمع الإسلامي عدد من النواب.
■ ترشحُ الشيخ نحناح في انتخابات رئاسة الجمهورية 1995 وحصوله على نسبة 25 % من الأصوات ثم منعُه من الترشح إلى رئاسية 1999 التي شارك فيها سبعة مرشحين فاز فيها ع ع بوتفليقة في المرة الأولى وأعيد انتخابه مرة ثانية في رئاسية تعددية سنة 2004 .
■ المشاركة في الانتخابات التشريعية التعددية في سنة 1997 والحصول على 71 مقعدا في البرلمان المنتخب ثم في دورة 2002 والحصول على 38 مقعدا .
■ في الانتخابات البلدية والولائية في دورتي 97و 2002 ساهمت "حمس" وكان لها أكثر من ألف منتخب في 24 بلدية ثم 38 رغم ما أثارته من حالات التزوير.
■ تعيين عدد من كوادر الحركة في خطط وزارية تقنية كالصناعة وإعادة الهيكلة، العمل والشؤون الاجتماعية، الصيد البحري، البيئة والصناعات التقليدية ( 4 وزراء و 3 كتاب دولة سنة 1997 و 3 وزارات في تركيبات حكومية أخرى هي الصناعة وإعادة الهيكلة، العمل والشؤون الاجتماعية، الصيد البحري و وزارتان هما: وزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وكتابة الدولة للصيد البحري).
■ بعد وفاة مؤسس الحركة الشيخ نحناح في جوان 2003 وانتخاب أبو جرة السلطاني رئيسا للحركة عوضا عنه في المؤتمر الثالث للحركة في أوت 2003 شهدت هذه المرحلة مشاركة تحالفية في رئاسية 2004 ثم دخول السلطاني إلى الحكومة كوزير دولة بدون حقيبة في وقت تمكنت حركة النّهضة المنافسة من مناصب نوعية رغم أن حضورها في البرلمان كان رمزيا (سفير بالسعودية، مندوب الجامعة العربية ببروكسل، مستشار لدى رئيس الجمهورية).
لا شك أن حصيلة الحركة من هذه التجربة من النواحي الإدارية و السياسية و الوطنية كانت هامة، فلقد ساهمت في المقام الأول في التضييق على اختيار العنف الذي تميزت به العشرية الدموية بما ساهم في إمكان تحقيق مسيرة المصالحة الوطنية.
لقد أعان مثل هذا الاختيار جديّا على تهدئة الأوضاع الأمنية فضلا على أنه كان من جهة أخرى عملا تمدينيا للنظام السياسي الجزائري و مسعى لتركيز نظام ديمقراطي جمهوري له مؤسسات تعمل نسبيا ضمن حدود استقلالية السلطات.
كان جوهر هذه المكاسب متمثلا في العقلية الوفاقية التي اعتمدتها حركة "حمس" التي حدّت من غلواء الراديكاليين وأنصار الإسلام الاحتجاجي بما أعاد تدريجيا الوعي بضرورة تجاوز الطبيعة الصدامية بين الإسلاميين و ومخالفيهم.
في هذا الصدد لا بد من التذكير بأن هناك من يرى أن تجربة المشاركة التي تشدد حركة "حمس" في التشبث بها كانت في جانب منها أساسا لتجزئة معسكر الحركات الإسلامية و تهميش جبهة الإنقاذ و السماح لثلاثة أحزاب إسلامية بالمشاركة في الانتخابات هي حزب النهضة وحركة الإصلاح الوطني إضافة إلى حركة "حمس".
لكن هذا الوجه الإقصائي على خطورته قد واكبه اختيار صانعي القرار السياسي في الجزائر القاضي بقبول مبدئي بالمشاركة بما يجعل الوضع الجزائري قريبا من الخيار المغربي. على ذلك فإنه لا ينبغي النظر إلى كامل التمشي السياسي في الجزائر على أنه مجرد مناورة سياسية غايتها تجزئة المعسكر الإسلامي. إن أنظمة عربية أخرى عُرضت عليها المشاركة إسلاميا فكان الجواب رفضا دائما للطلب وما ذكرناه في مطلع هذا البحث يؤكد ذلك. ما نعنيه أن مقولة المشاركة ليست أمرا مفروغا منه بل يتطلب قبولا لها من جهة أصحاب القرار السياسي والنخب المثقفة بما يؤكد رأيهم في أن السياسة هي استجابةٌ لحاجة المجتمعات دون ارتهان لمستقبلها أو تعريضها لاهتزازات وانعكاسات على المدى البعيد.
-4- مراجعات ما بعد المرحلة الانتقالية.
ذكرنا فيما سبق خلو القاموس الفكري والسياسي ل"حمس" من مصطلحات التكفير والجاهلية والحاكمية وتطبيق الشريعة وما شابه ذلك من معاني فكر القطيعة مع المجتمع والعصر . الواضح أن زعماء "حمس" حرصوا على ترسيخ هذا التوجه الذي انتهوا إليه لاعتبارات موضوعية فضلا عن تشجيع بعض زعماء الحركة الإسلامية المسموعين في الجزائر لهذا المسار من أمثال الشيخ محمد الغزالي. فما يؤثر عن هذا الأخير وصيتُه إلى القيادة الإسلامية : لا تفعلوا ما من شأنه أن يجعل الرئيس الشاذلي يندم على فتحه الباب للإسلاميين في العمل السياسي القانوني.
لقد كان موقف "حمس" مع عودة المسار الانتخابي نهاية التسعينات قبولها بكثير من التنازلات كان من أهمها موافقتها على التخلي على الصفة الإسلامية مما جعلها تصبح حمس (حركة مجتمع السلم) بعد أن كانت حماس (حركة المجتمع الإسلامي). يذكر في هذا السياق أيضا التصريح الشهير للشيخ نحناح الذي أعلن فيه سقوط المشروع الإسلامي على غرار سقوط الشيوعية. لقد صرّح في ذلك ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الإسلامية خاصة عندما قال بأن : "المشروع الإسلامي تجاوزه الزمن" ... وأن بعض "حراس المعبد ما زالوا " متمسكين بمنطوق الألفاظ دون الالتفات إلى مفهومها، فقد أثاروا زوابع ذات ضجيج وعجيج لما أسقطنا لفظة "الإسلامي" من تسمية حركتنا واستبدلناها بلفظة "السلم" ....حتى إن البعض اتهمنا بالردة مع أنهم جميعا يقرؤون في السيرة المطهرة أن محمد صلى الله عليه وسلم قد "تنازل" بالمفهوم السياسي في صلح الحديبية عن لفظة (محمد رسول الله) نزولا عند رغبة سهل بن عمرو واستبدلها بلفظة (محمد بن عبد الله) لأن المهم عنده صلى الله عليه وسلم كان المقصد من الصلح وليس تنميق الكلمات. ثم يواصل : "ما هو المشروع الإسلامي؟ ما هو مضمون هذا "المشروع"؟ ثم لماذا نقول إن الإسلام مشروع وكلنا يعلم أن المشروع معناه بداية شيء، وهل الإسلام دين مبتدع حتى يحتاج إلى "مشاريع"؟
مثل هذا الموقف الذي اتخذه الشيخ نحناح بين 1997 و 1998 ظل قائما إلى اليوم رغم تدرج الأوضاع في الجزائر نحو سياق جديد. منذ تلك الفترة تواصل رفع شعار السلم والتنمية وأكّدت الحركة مطالبتها في المرحلة القادمة بالاهتمام بمخطط التنمية وإعطاء رؤية إستراتيجية للمشروع الاقتصادي والبترولي والشراكة مع صندوق النقد الدولي والديون الجزائرية.
ما صرّح به "عبد الرزاق مقري" مؤخرا يغرق أكثر في هذا الاتجاه حين يؤكد أننا لسنا قادرين على تشييد الحضارة الإسلامية. ما نقرأه في مشروع السياسة العامة المقدم سنة 2003 إلى المؤتمر الثالث للحزب لا يسعى إلى بلورة مفهوم الديمقراطية كما لا يقوِّم تجربة الحزب خلال حقبة العَقد الأخير. إضافة إلى ذلك فإنه لا يقدّم أية مساهمة فعّالة لمواقفه في القضايا المتعلقة بالوطن، فضلا عن غياب التفكير في كيفية الخروج من الأزمة الاجتماعية الحالية.
عند هذا يصبح من المشروع التساؤل عن طبيعة المشاركة التي انتهجها قادة "حمس" وعن طبيعة تنظيمهم الذي سيواجهون به الجزائر في العشرية القادمة؟
في خصوص اختيار المشاركة ما تؤكده هو مواصلة القول بقيامها على أسس أربعة :
-أساس شرعية (لقد أجاز فقهاء الحركة الإسلامية المشاركة في الحكومات القائمة استثناء للضرورة ولتحقيق المصلحة و درء المفسدة بضوابط شرعية معروفة خاضعة لقواعد فقه التوازنات، "فالضرورات تبيح المحظورات" ولكن: "الضرورة تقدر بقدرها"، و المفاسد تتفاوت بأحجامها و خطورتها ).
- أساس حضاري (حضارة الإسلام تملك قيما نبيلة ورصيدا إيجابيا، وهي تأبى أن تصاغ حياة الأمم والشعوب بدونها أو تخضع لمدنيات مادية تصطدم حقائق الإنسان و تصارع مسخرات الكون).
- أساس واقعيّ (الواقع الحالي الذي تعيشه شعوبنا العربية وأمتنا الإسلامية يتسم بالضعف والفرقة والتخلف والتبعية و الابتعاد عن الدين و هديه.. ولا يقبل النافذون فيه بالغلبة والمغالبة كما لا يتحمل الماسكون بأزمة الأمور في أوطاننا التداول على السلطة، بل هم يسعون عمدا إلى فرض الإقصاء والاستئصال، والحركة الإسلامية كأبرز قوى المجتمع عليها أن تتكيف مع هذا الواقع.)
- أساس سياسيّ (تستند مشاركة الحركة في الحكومة إلى رصيد سياسي صنعته تجربتها الطويلة من السرية إلى العلنية نضالا من أجل الحرية في مرحلة الأحادية، وتنمية لقوتها الشعبية من خلال رئاسيات 1995، و ما تلاها من استحقاقات سياسية سنوات 97-99-2002 ومساهمة في إنقاذ البلاد (دولة وشعبا) من الانهيار و الدفع باتجاه الاستقرار و إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة بالدخول إلى المجلس الانتقالي، وتقديم صورة عن الحركة: "إسلامية وطنية معتدلة" تنحاز إلى الجزائر و تدافع عن الثوابت و تحمي الهوية و الحريات).
بالتمعن يمكن أن نقول إننا أمام رؤية عملية براقماتية تعتمد على استراتيجية الضرورة من أجل التمكّن من مواقع التأثير في واقع المجتمع.
غاية المشاركة إذن هي في ذاتها لأنها لا تتجاوز تأهيل كوادر الحركة لقيادة المجتمع ومؤسسات الدولة وهي غاية يمكن أن تقبل في ظروف استثنائية انتقالية كالتي عرفتها الجزائر في العشرية الدموية.
من جهة ثانية فإن طبيعة الحركة ما تزال غير محددة بل متأرجحة بين الحزب السياسي الممتلك لرؤية وتحليل وبدائل ظرفية يعيد بها صياغة التوازنات وبين الحركة الشعبوية الاجتماعية التي تعمل من أجل الحشد الجماهيري حول شعارات كبيرة قصد التأثير على صناديق الاقتراع أو على الجهات الفاعلة في السلطة و بين الجمعية الخيرية التربوية التي تعمل من أجل تنشأة الأجيال وإعادة تأسيس قيمها وتهذيب ذوقها وسلوكها.
إذا نظرنا إلى بعض مظاهر نشاط الحركة توصلنا بسهولة إلى هذا الخلط الذي تتداخل فيه جملة من الأعمال والمهام مما يؤدي إلى تراجع بدائلها الاستراتيجية و تدنّي أدائها السياسي و التناقص في شعبيتها. لا أدلّ على هذا التداخل مما يكشفه موقع الحركة على الشبكة في أوائل ماي 2006: لقد احتفلت أمانة المرأة وشؤون الأسرة ل "حمس" بتحجب عدد من الفتيات في قسنطينة في حين كان رئيس الحركة يلقي خطابا في ذكرى مجازر سطيف 8-5- 1945 بينما كان المكتب البلدي يؤسس نادي أطفال طيور الجنة هذا إلى جانب تكريم الصحافيين بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة.
الأخطر من كل هذا هو أن قيادة الحركة لم تر في مرحلة ما بعد المصالحة طورا جديدا يتطلب مراجعات نوعية وتقويما لخطة المشاركة التي أملتها ظروف الحرب الأهلية وما تفرضه طبيعة الحراك السياسي من وعي في مجالي التكوين والتحليل. لذلك فإن رئيس حركة "حمس" أبو جرة سلطاني لم يتردد في القول عندما سئل عن واقع التيار الإسلامي في الجزائر المواجه لمفترق طرق، قال : " المراجعة ليست قضايا نظرية أكاديمية، وإنما هي إجراءات ميدانية، فنحن نتحرك الآن في الميدان ونراقب حركتنا ونسدد ونقارب ونستدرك نقائصنا ونحاول التخلص من سلبيات الماضي.. وهو جهد عملي ميداني أثبتت التجارب جدواه وصدقيته".
عندما نقرأ هذا ونتابع جملة النشاط الحزبي الميداني والسياسي والفكري نتذكر أن العنصر الذي أجهز على الفكر الإصلاحي العربي في القرن 19- ومطلع ال20 في المجال السياسي والاجتماعي هي استبعاده عن مشروع الدولة الحديثة القومية ( تركيا) أو القطرية الوطنية ( البلاد العربية ). هذه الدول لم تكن تبحث عن مشروعيتها في مصادر إسلامية سواء أعلنت تلك الدول مواقف عدائية من الإسلام وتراثه أو استخدمت إسلاما تقليديا مزيحة بذلك الفكر الإصلاحي جانبا. هذا الاستبعاد للتوجه الإصلاحي دفعه إلى الضمور الفكري والتراجع الاجتماعي إلى مواقف دفاعية تمجيدية لا تتمكن أن تبلور طروحات مواكبة للمستجدات الثقافية والسياسية المحلية والدولية.
ما تنساق فيه حركة" حمس" اليوم من حرص على البدئل العملية تجعلها مقبلة على مصاعب سياسية واجتماعية وعاجزة عن تطوير نوعي للحياة الديمقراطية في الجزائر.
إن ما أدركته بعض النخب العربية الحاكمة والمثقفة من أن الديمقراطية هي صيغة تاريخية تجسد فلسفة استقلال السلطة العليا (الدولة) عن أي مذهب اجتماعي أو سياسي لكن هذا يعني يستلزم من الأطراف المشاركة في التوجه الديمقراطي مساهمة ذات بعدين :
بعد إجرائي عملي هدفه تركيز استقلال الدولة تبعا لما تكرسه الانتخابات من نتائج.
بعد فكري يؤكد قيم المجتمع وثقافته ويفعّلُهما عبر خيارات سياسية ورؤية استراتجية .
بدون هذا الجدل المركَّب بين الدولة والأحزاب وقوى المجتمع المدني وبين هؤلاء والنخب المثقفة والمؤسسات البحثية والدراسية فإن خيار المشاركة يختزل في حضور رقمي مؤقت مهدد بالتراجع في مجتمعات "ما قبل السياسة".
إن ما يهدد حركة مثل "حمس" الجزائرية هو انظواؤها في نظام تكون الدولة فيه عاجزة عن تحقيق تسويات للنزاعات الطبيعية القائمة بين الفئات والمصالح المختلفة أي أن مشاركتها لا تستطيع في أفضل الحالات سوى تأجيل الصراع وتأخير الفتن.
===
المراجع
-مجلة البصيرة ، للبحوث والدراسات الإنسانية من العدد 1 رمضان 1417 /جانفي 1997 إلى العدد 6 الثلاثي الثاني 2001.
-موقع الحركة على الشبكة الدولية
- موقع الشهاب
- خالد حسن، الحركة الإسلامية في الجزائر دعوة لمراجعة الرصيد وتقويم المسيرة، إصدار التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة الأمريكية ،ان اربر)، ط 1، 2001).
ملاحظة : لايمكن نشر هذا البحث على موقع اخر أو نشرية أخرى الا بعد استئذان القائمين على صحيفة الوسط التونسية.
الوسط التونسية
نشرت صحيفة الشرق الأوسط نهاية شهر أفريل الماضي الخبر التالي: أحداث سيناء: الحكومة المصرية جلاّد للإخوان وضحية لجماعات العنف!!
في نفس المناسبة وفي الشريط الإخباري المكتوب على شاشة إحدى الفضائيات العربية ظهر خبران مصريان حدثا وبُثّا في آن واحد، أحدهما من سيناء عن تفجيرات «دهب» والثاني عن اعتقالات تشنها الحكومة المصرية في نفس تلك الفترة ضد عدد من أتباع حركة الإخوان المسلمين بتهمة الانتماء إلى حركة محظورة.
حين سئل أحد المسؤولين السياسيين عن هذا التزامن ودلالته السياسية أجاب أن المعركة كانت في سيناء مع رأس الأفعى و أن الهجوم على الإخوان في القاهرة محاولة للسيطرة على جسمها.
هذا التفسير ذاته وقع استعماله في بعض الأماكن الأخرى، مثلا في تونس و قبل عقد من الزمن حين كان النظام السياسي يواجه حركة النهضة برز عدد من العلمانيين محرّضا على استئصال كل التوجهات ذات المرجعية الإسلامية محتجا بأن لا فرق بينهم وأن كل ما في الأمر هو توزيع للأدوار بين ظلاميين معلنين وآخرين مستترين. لقد كان شعار الاستئصاليين دائما " لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية" على اعتبار أن غاية الإسلاميين واحدة : الانقضاض على المكاسب الحديثة والاستئثار بالسلطة.
لكن رغم بساطة التفسير وخطورة الشعار فإننا إذا أردنا معالجة موضوعية لفهم هذا التخوّف الشديد متجنبين في ذلك محاكمة نوايا بعض المثقفين العلمانيين خاصة, فكيف يمكن أن نشرح هذا الاندفاع للإدانة الجازمة؟
إذا بدأنا من حركة الإخوان المسلمين في مصر منذ نشأتها ثم ما تولد عنها في كثير من البلدان العربية أدركنا أنها تتميز بجملة من الثوابت التي تجعلها خصما للسلطة القائمة وخصما لخصوم السلطة من أحزاب وحركات ونقابات.
هذا الموقع السياسي المقلق لا يرجع في العام الأغلب إلى مناورات و سلوكات تكتيكية فقط بل هو قائم على محددات فكرية وأخرى تنظيمية هي التي يمكن أن تساعد على تفسير جانب من التوجّس الذي يعبّر عنه بعض المتخوفين من صدقية ما يرفعه الإسلاميون الراغبون في العمل السياسي القانوني و الانخراط في اللعبة الديمقراطية.
يمكننا أن نحدد هذه الثوابت في النقاط الثلاث التالية:
-1- الإطلاقية القائمة على اعتبار امتلاك الحقيقة مما يفضي إلى اكتساب الصبغة الشمولية التي تعني قدرة تلك الحركات بمفردها على تصفية كل العقبات السياسية والاجتماعية والحضارية فهي البديل الحكومي والمجتمعي. هذا التوجه يختزله القول بأن "الإسلام هو الحل" للمعضلات التي تواجه المجتمعات.
-2-النقاوة الإيديولوجية التي تجعل فكر الحركات ومقولاتها منظومةً مغلقة رافضة لتطوير الرؤية أو مراجعتها على ضوء ما يستجد من معطيات و ذلك كاعتبار مشكلة العالم الإسلامي هي في عدم وجود حكومة إسلامية منذ سقوط الخلافة.
-3- التداخل الهيكلي والتنظيمي بين صفتها كحركة تربوية ثقافية دعوية هدفها تنشئة الأفراد والجماعات على سلوك ورؤية وخُلق ترتبط بالقيم الدينية وبين صفتها كحزب سياسي يسعى إلى إيجاد أفضل السبل لإدارة الشأن العام بتحقيق إصلاحات جوهرية أو مرحلية في النظام الاجتماعي والاقتصادي.
هذه الخصوصيات الثلاث وإن لم تكن مما يميّز الحركات الإسلامية وحدَها فإن الذي يجعل هذه المحددات في السياق الإسلامي مصدرَ تخوّفٍ يمكن أن يُفهَم إلى حدّ ما هو تداخلها مع عنصر رابع يتميّز به ذلك السياق عن كل حركة أخرى ذات إيديولوجية شمولية أخرى. إنه عنصر المعطى الثقافي السائد في المجتمعات العربية الإسلامية الذي يمثّله السند التراثي العاطفي والروحي المنتشر في مختلف الأوساط والفئات مما يجعل خطاب الإيديولوجي لعموم الحركات الإسلامية مستساغا ومقبولا بدرجة عالية.
ما اقترحته بعض الحركات الإسلامية في عدد من البلدان العربية للخروج من مأزق التحديث القسري العامل من أجل تنمية بدون ديمقراطية حريّ بالدرس. ضمن هذا التوجه تبرز تجربة حركة مجتمع السلم الجزائرية على أساس مساهمتها في تقديم جواب لهذه الإشكالية.
-2- الجزأرة الحركية
يحدد "عبد الرزاق مُقرِي" في المقال الافتتاحي لمجلة "البصيرة" في عددها الأول ( جانفي 1997) ما يمكن أن يُعَدّ منطلقَ تفكيِرِ حركة مجتمع السلم بالجزائر . يذكر العنصرين الأساسيين المكونين للرؤية المحددة لرسالة الحركة فيقول تحت عنوان واقع الحركة الإسلامية في آخر هذا القرن، ما العمل؟ : "لقد بات واضحا أن المعركة التي تخوضها الحركة الإسلامية لإثبات وجودها والتمكين لمشروعها قد تغيرت آلاتها وتبدلت أدواتها فانهيار المعسكر الاشتراكي الذي أحدث تحوّلا جذريا في موازين القوى مكّن الغرب وعلى رأسه أمريكا من الهيمنة الكلية على لعالم بأسره وتحوّلت بذلك الكرة الأرضية إلى مستعمرة كبيرة في يد الليبرالية المتوحشة".
إزاء هذا العنصر الدولي الخارجي يذَكِّر بالمأزق الداخلي فيقول إن " الحركة الإسلامية التي تعتبر القوة الوحيدة التي بقيت مستعصية على مخططات الاستئصال دخلت فصائل كثيرة منها في متاهات عادت عليها بالوبال وبدأت في مجملها في حرج شديد من أداء رسالتها لا سيما أن شعارها المركزي " الإسلام هو الحل" الذي اقتربت بواسطته من واقع السلطة في بعض الدول لم يفرز حلولا عملية".
من هذين التحديدين تتضح طبيعة المعركة كما تتصورها حركة مجتمع السلم وكما تريد أن تخوض غمارها : إنها مواجهة مزدوجة ، ضد " الليبرالية الجديدة و العولمة الاقتصادية وصندوق النقد الدولي " من جهة ومن جهة أخرى تهدف إلى تركيز خطاب إسلامي عقلاني "أداته الفكر القابل لصناعة الحياة واكتساب أسباب القوة بعيدا عن العواطف والهتافات".
من هذا التشخيص الذي يحيل على السياقين الدولي و المحلّي المختزلين صراعا تاريخيا بين قوى داخلية وخارجية يتضح خيار الحركة في توجّه تنموي وطني يرمي إلى اكتساب أسباب القوة المادية و غير المادية التي "تحسم المواجهة لصالح الحق والعدل صانعة بذلك أملا حقيقيا لبؤساء الكرة الأرضية".
تجسيدا لهذا التشخيص حرصت مجلة "البصيرة" في أعدادها أن تضبط هذا التوجه التحرري في مجالين أساسين:
-1- الوعي التنموي الاجتماعي والمؤسساتي
-2- التحرر الثقافي وتمحيص الفكر الديني.
في المجال الأول نذكر على سبيل المثال عناوين البحوث التي تبرز في أعداد المجلة:
-تطور الأزمة التنموية في ظل البدائل المستوردة.
-تفسير انخفاض الفعالية التنظيمية في المؤسسات الجزائرية.
-أولويات التنمية في المنظور الإسلامي.
-الوقف وآثاره الاقتصادية الاجتماعية في التنمية.
-مفهوم النفقة العامة في الفكر المالي الإسلامي.
-مشكلة العجز المالي الحكومي.
-الفائض الاقتصادي و أهميته في التنمية.
- ثمنية الأوراق النقدية.
أما في السجل الثاني فنجد عناوين الدراسات التالية :
-التيار التغريبي في الجزائر جذوره وامتداداته
-علم الحديث بين الجناية والعناية
-العقيدة الإسلامية بين السلف والسلفية
-نحو الطريق الوسط
-نحو دراسة واعية لتراثنا الحضاري
-قانون الأسرة الجزائري ما له وما عليه
-بين الوطنية والإسلامية في الجزائر.
ما ينتهي إليه المتفحص للبحوث المنشورة في السجلين اللذين ينتظمان بحوث هذه المجلة يمكن تحديدُه في ثلاث نقاط:
-1- رفض أي توجّه صراعيٍّ بين الحركة والحكومة.
-2- عناية واضحة بتكوين كوادر بحثية متخصصة .
- 3- تمثّل انتقائي للثقافة الإخوانية المشرقية.
يتضح هذا الخط الذي يمكن أن نصفه بالجزأرة الحركية في مسيرة حركة مجتمع السلم ضمن أدبياتها و مواقفها واختياراتها التي أعلنت عنها فيما يزيد عن ربع قرن من الزمن.
نجد هذا انطلاقا من الرسالة التي وجهها محمد بوسليماني ومحفوظ نحناح عام 1976 إلى الرئيس الجزائري بعنوان "إلى أين يا بومدين ؟.هي رسالة تذكر بأخرى سابقة أصدرها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في بيان 16 أفريل 1964 نصح فيه المسئول الأول في البلاد أن يرجع إلى الجادة ويعود إلى الصواب.
واجه النظام أصحاب الرسالتين بالسجن. لكن ما يعنينا هنا أن رسالة نحناح و بوسليماني كانت ناطقة باسم "جماعة الموحدين" و كانت في لهجتها الشديدة تعبّر عما بلغته الجزائر في ظل نظام الحزب الأوحد من احتقان نتيجة الاستبداد السياسي والفقر الاقتصادي والجدب العلمي والمعرفي.
من جهة ثانية كانت الرسالتان تعكسان مفارقةَ أكثرَ من نظام عربي تكون نخبُه الحاكمة تحديثيةَ التوجُّه لكنها لا ترى حرجا في تمركز كل الصلاحيات في يدها. هذا في حين يكون الواقع الثقافي الاجتماعي غير موصول البتة بهذا المنزع التحديثي المركزي. كان هذا هو شأن المجتمع الجزائري طوال عقود ثلاثة سبقت انفجار الأوضاع في أكتوبر 1988إذ كان يتوفر على عدد من الفعاليات التقليدية كالمساجد، والزوايا، والمدارس والجوامع والمعاهد الدينية، والجمعيات الخيرية التي تنطلق في عملها من المرجعية الإسلامية هذا فضلا عن علماء دين، ومفكرين إسلاميين، ومؤسسات إسلامية، وإعلام إسلامي.
مقابل هذا كان نظام الحكم ديمقرطيا شعبيا لا يتردد في الاصطفاف مع التوجهات علمانية الاشتراكية السوفياتية.
ما نود التأكيد عليه في هذا المستوى الأول هو أن منطلق الشيخ نحناح و"جماعة المؤمنين" في الخطوات الحركية الأولى كان يحيل من الناحية الشرعية على مبدأ النصيحة لأولي الأمر . إنه اختار أن يظل ضمن دائرة السمع والطاعة والتذكير. من هذه الجهة ليس هناك تكفير للدولة أو دعوة للخروج عليها إنما هي استتباعات مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
يتأكد هذا الخط من الناحية الحركية وما تتطلبه من اختيارات فقد كانت حركة مجتمع السلم رغم تعاونها مع حركة الإخوان المسلمين في مصر غير مناوئة للسلطة الحاكمة وغير قاطعة مع الخط الوطني للثورة الجزائرية.
من هذه الناحية لم نجد في أدبيات الحركة بعد ذلك شيئا مما دعا إليه الإخوان المسلمون في المشرق الأنظمة العربية من ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية وأن سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم هو عدم تطبيقها أو التأكيد على أن الإسلام دين ودولة وأن علاقتهم بالآخر تتحدد من رسالتهم التي هي أستاذية العالم. ما نقرأه بعد ذلك في بيانات حركة مجتمع السلم يؤكد سمة الحركية المنزَّلة في السياق الجزائري:
نجد هذا في تعريفهم لحركتهم التي يعتبرونها" حركة سياسية شعبية إصلاحية شاملة، شعارها: العلم والعدل والعمل، وثوابتها: الإسلام، واللغة العربية، والانتماء للأمة الإسلامية، والنظام الجمهوري، والحريات الخاصة والعامة، والتداول السلمي على السلطة من خلال الواقعية والموضوعية والمرحلية.
أما المرجعية المعتمَدة فهي ذات شقين:
-أ- شقٌّ ديني ثقافي يتمثل في الإسلام بمصادره ومقاصده الكبرى باعتباره قوة جمع وتوحيد وضبط وتقارب بين أطراف الأمة الإسلامية وتوجهاتها وتطلعاتها، وهو كذلك مصدر إلهام وتجديد، وعنصر تفاعل للشعب، ورعاية مصالحه عبر الاجتهاد الجماعي والتعاون على البر والتقوى
-ب- شقٌّ ثان حديث يعبّر عنه تراث الحركة الوطنية وتاريخها الحافل بالبطولات، وميراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفضائل الزوايا التي كانت منبع إشعاع حضاري وإحياء للروح الوطنية والجهادية للشعب غداة الاستعمار.
هذا التوجه المحوري هو الذي سيتبلور بعد ذلك في ما يعبّر عنه عبد الرزاق مُقري بالاختيار الاستراتيجي الذي تعنيه مسألة المشاركة.
-3- المشاركة وقبولها.
انطلقت عشرية 1978- 1988 بوفاة الرئيس بومدين واتنتهت بأحداث 5أكتوبر التي عجّلت بانفتاح البلاد على التعددية السياسية بعد فترة من صراع أجنحة النظام . على الصعيد الدولي تزامنت هذه العشرية مع تفكك المنظومة السوفياتية مؤذنة بنهاية سلطة أنظمة الديمقراطيات الشعبية ذات الحزب الأوحد.
برزت في هذه الفترة عدة توجهات إسلامية مشكّلة بذلك فسيفساء حركية حاولت الاستفادة من دستور 23-2-1989 لتفرض واقعا سياسيا جديدا سيكون مثار مخاوف أكثر من جهة مُُتَنَفذة داخل الجزائر وخارجها.
أفرز هذا التدافع عام 1989 "جمعية الإرشاد والإصلاح" التي قام عليها الشيخ نحناح لتكون واجهة لجماعة "الأخوان المسلمون" كما ظهرت في نفس السنة "الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ" تمّ كذلك الإعلان عن تأسيس "رابطة الدعوة الإسلاميّة" بقيادة أحمد سحنون على أن تكون مرجعاً يحسم الخلافات التي يمكن أن تظهر بين الجمعيات والحركات الإسلامية. إلاّ أنّ الواقع بتعقيداته و مشاكله حال دون الالتئام وأدّى إلى الانشقاق في جمعية الإرشاد فولدت حركتان منفصلتان في أواخر سنة 1990: حركة المجتمع الإسلامي بقيادة محفوظ نحناح، وحركة النهضة الإسلامية بقيادة عبد الله جاب الله.
من هذه المرحلة تنكشف إحدى الثغرات الكبرى في تجربة الحركات الإسلامية الجزائرية هي ضعف المرجعية العلمية والفكرية للحراك الإسلامي و تأثير هذا الضعف في نشوء مؤسسات سياسية و اجتماعية حديثة وفاعلة. هذا المأزق ستشترك فيه حركة حماس مع غيرها من الحركات السياسية خاصة جبهة التحرير الوطني. إنها ورطة الدخول في تنافس سياسي سلمي موسوم بالهشاشة الراجعة إلى قصور فادح في الفكر السياسي والاجتماعي للأطراف المتنافسة. معضلة الوضع الجزائري عامة والإسلامي خاصة هو أن أن المشاركة تظل معتمدة على الشرعية الثورية والتاريخية، أي أن الأطراف السياسية تظل في معظم جهودها منصرفة إلى التماس استحقاق السلطة من زاوية البحث في الماضي. بذلك تعسر بلورة برنامج وخطاب يستجيبان لقضايا الواقع الفوري الذي تنتظره الجماهير : المحك الحقيقي لاستحقاق السلطة.
بذلك يؤول الالتزام السياسي إلى مناورات سياسوية ويتحوّل اختيار المشاركة من اختيار الاستراتيجي إلى تحالفات ظرفية غير قادرة على المساهمة في تغييرات نوعية.
هذا ما ستكشف عنه حياة حركة مجتمع السلم في العشرية الدموية التي تلت إلغاء الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية في جانفي 1992.
تحدد ذلك منذ ماي 1991 تاريخ انعقاد أول مؤتمر لحركة حماس حتى أوت 2003 موعد انعقاد المؤتمر الثالث للحركة. عبّر عن اختيار المشاركة الشيخ نحناح في مقولته المثلثة لا للكرسي الشاغر - لا للمواجهة –نعم للمبادرات السياسية.
ما يبرزه نشاط الحركة في هذه المرحلة الثانية لافت للنظر ويمكن أن نضبط أهم محطاته فيما يلي:
■صدام دام مع عناصر مسلحة نجم عنه اغتيال ما يقارب ال500 من عناصر الحركة من بينهم نائب رئيس الحركة الشيخ بوسليماني.
■المشاركة في ندوة الوفاق سنة 1994التي أفضت إلى انبثاق المجلس الوطني الانتقالي حيث مثّل حركة المجتمع الإسلامي عدد من النواب.
■ ترشحُ الشيخ نحناح في انتخابات رئاسة الجمهورية 1995 وحصوله على نسبة 25 % من الأصوات ثم منعُه من الترشح إلى رئاسية 1999 التي شارك فيها سبعة مرشحين فاز فيها ع ع بوتفليقة في المرة الأولى وأعيد انتخابه مرة ثانية في رئاسية تعددية سنة 2004 .
■ المشاركة في الانتخابات التشريعية التعددية في سنة 1997 والحصول على 71 مقعدا في البرلمان المنتخب ثم في دورة 2002 والحصول على 38 مقعدا .
■ في الانتخابات البلدية والولائية في دورتي 97و 2002 ساهمت "حمس" وكان لها أكثر من ألف منتخب في 24 بلدية ثم 38 رغم ما أثارته من حالات التزوير.
■ تعيين عدد من كوادر الحركة في خطط وزارية تقنية كالصناعة وإعادة الهيكلة، العمل والشؤون الاجتماعية، الصيد البحري، البيئة والصناعات التقليدية ( 4 وزراء و 3 كتاب دولة سنة 1997 و 3 وزارات في تركيبات حكومية أخرى هي الصناعة وإعادة الهيكلة، العمل والشؤون الاجتماعية، الصيد البحري و وزارتان هما: وزارة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وكتابة الدولة للصيد البحري).
■ بعد وفاة مؤسس الحركة الشيخ نحناح في جوان 2003 وانتخاب أبو جرة السلطاني رئيسا للحركة عوضا عنه في المؤتمر الثالث للحركة في أوت 2003 شهدت هذه المرحلة مشاركة تحالفية في رئاسية 2004 ثم دخول السلطاني إلى الحكومة كوزير دولة بدون حقيبة في وقت تمكنت حركة النّهضة المنافسة من مناصب نوعية رغم أن حضورها في البرلمان كان رمزيا (سفير بالسعودية، مندوب الجامعة العربية ببروكسل، مستشار لدى رئيس الجمهورية).
لا شك أن حصيلة الحركة من هذه التجربة من النواحي الإدارية و السياسية و الوطنية كانت هامة، فلقد ساهمت في المقام الأول في التضييق على اختيار العنف الذي تميزت به العشرية الدموية بما ساهم في إمكان تحقيق مسيرة المصالحة الوطنية.
لقد أعان مثل هذا الاختيار جديّا على تهدئة الأوضاع الأمنية فضلا على أنه كان من جهة أخرى عملا تمدينيا للنظام السياسي الجزائري و مسعى لتركيز نظام ديمقراطي جمهوري له مؤسسات تعمل نسبيا ضمن حدود استقلالية السلطات.
كان جوهر هذه المكاسب متمثلا في العقلية الوفاقية التي اعتمدتها حركة "حمس" التي حدّت من غلواء الراديكاليين وأنصار الإسلام الاحتجاجي بما أعاد تدريجيا الوعي بضرورة تجاوز الطبيعة الصدامية بين الإسلاميين و ومخالفيهم.
في هذا الصدد لا بد من التذكير بأن هناك من يرى أن تجربة المشاركة التي تشدد حركة "حمس" في التشبث بها كانت في جانب منها أساسا لتجزئة معسكر الحركات الإسلامية و تهميش جبهة الإنقاذ و السماح لثلاثة أحزاب إسلامية بالمشاركة في الانتخابات هي حزب النهضة وحركة الإصلاح الوطني إضافة إلى حركة "حمس".
لكن هذا الوجه الإقصائي على خطورته قد واكبه اختيار صانعي القرار السياسي في الجزائر القاضي بقبول مبدئي بالمشاركة بما يجعل الوضع الجزائري قريبا من الخيار المغربي. على ذلك فإنه لا ينبغي النظر إلى كامل التمشي السياسي في الجزائر على أنه مجرد مناورة سياسية غايتها تجزئة المعسكر الإسلامي. إن أنظمة عربية أخرى عُرضت عليها المشاركة إسلاميا فكان الجواب رفضا دائما للطلب وما ذكرناه في مطلع هذا البحث يؤكد ذلك. ما نعنيه أن مقولة المشاركة ليست أمرا مفروغا منه بل يتطلب قبولا لها من جهة أصحاب القرار السياسي والنخب المثقفة بما يؤكد رأيهم في أن السياسة هي استجابةٌ لحاجة المجتمعات دون ارتهان لمستقبلها أو تعريضها لاهتزازات وانعكاسات على المدى البعيد.
-4- مراجعات ما بعد المرحلة الانتقالية.
ذكرنا فيما سبق خلو القاموس الفكري والسياسي ل"حمس" من مصطلحات التكفير والجاهلية والحاكمية وتطبيق الشريعة وما شابه ذلك من معاني فكر القطيعة مع المجتمع والعصر . الواضح أن زعماء "حمس" حرصوا على ترسيخ هذا التوجه الذي انتهوا إليه لاعتبارات موضوعية فضلا عن تشجيع بعض زعماء الحركة الإسلامية المسموعين في الجزائر لهذا المسار من أمثال الشيخ محمد الغزالي. فما يؤثر عن هذا الأخير وصيتُه إلى القيادة الإسلامية : لا تفعلوا ما من شأنه أن يجعل الرئيس الشاذلي يندم على فتحه الباب للإسلاميين في العمل السياسي القانوني.
لقد كان موقف "حمس" مع عودة المسار الانتخابي نهاية التسعينات قبولها بكثير من التنازلات كان من أهمها موافقتها على التخلي على الصفة الإسلامية مما جعلها تصبح حمس (حركة مجتمع السلم) بعد أن كانت حماس (حركة المجتمع الإسلامي). يذكر في هذا السياق أيضا التصريح الشهير للشيخ نحناح الذي أعلن فيه سقوط المشروع الإسلامي على غرار سقوط الشيوعية. لقد صرّح في ذلك ما أثار جدلا واسعا في الأوساط الإسلامية خاصة عندما قال بأن : "المشروع الإسلامي تجاوزه الزمن" ... وأن بعض "حراس المعبد ما زالوا " متمسكين بمنطوق الألفاظ دون الالتفات إلى مفهومها، فقد أثاروا زوابع ذات ضجيج وعجيج لما أسقطنا لفظة "الإسلامي" من تسمية حركتنا واستبدلناها بلفظة "السلم" ....حتى إن البعض اتهمنا بالردة مع أنهم جميعا يقرؤون في السيرة المطهرة أن محمد صلى الله عليه وسلم قد "تنازل" بالمفهوم السياسي في صلح الحديبية عن لفظة (محمد رسول الله) نزولا عند رغبة سهل بن عمرو واستبدلها بلفظة (محمد بن عبد الله) لأن المهم عنده صلى الله عليه وسلم كان المقصد من الصلح وليس تنميق الكلمات. ثم يواصل : "ما هو المشروع الإسلامي؟ ما هو مضمون هذا "المشروع"؟ ثم لماذا نقول إن الإسلام مشروع وكلنا يعلم أن المشروع معناه بداية شيء، وهل الإسلام دين مبتدع حتى يحتاج إلى "مشاريع"؟
مثل هذا الموقف الذي اتخذه الشيخ نحناح بين 1997 و 1998 ظل قائما إلى اليوم رغم تدرج الأوضاع في الجزائر نحو سياق جديد. منذ تلك الفترة تواصل رفع شعار السلم والتنمية وأكّدت الحركة مطالبتها في المرحلة القادمة بالاهتمام بمخطط التنمية وإعطاء رؤية إستراتيجية للمشروع الاقتصادي والبترولي والشراكة مع صندوق النقد الدولي والديون الجزائرية.
ما صرّح به "عبد الرزاق مقري" مؤخرا يغرق أكثر في هذا الاتجاه حين يؤكد أننا لسنا قادرين على تشييد الحضارة الإسلامية. ما نقرأه في مشروع السياسة العامة المقدم سنة 2003 إلى المؤتمر الثالث للحزب لا يسعى إلى بلورة مفهوم الديمقراطية كما لا يقوِّم تجربة الحزب خلال حقبة العَقد الأخير. إضافة إلى ذلك فإنه لا يقدّم أية مساهمة فعّالة لمواقفه في القضايا المتعلقة بالوطن، فضلا عن غياب التفكير في كيفية الخروج من الأزمة الاجتماعية الحالية.
عند هذا يصبح من المشروع التساؤل عن طبيعة المشاركة التي انتهجها قادة "حمس" وعن طبيعة تنظيمهم الذي سيواجهون به الجزائر في العشرية القادمة؟
في خصوص اختيار المشاركة ما تؤكده هو مواصلة القول بقيامها على أسس أربعة :
-أساس شرعية (لقد أجاز فقهاء الحركة الإسلامية المشاركة في الحكومات القائمة استثناء للضرورة ولتحقيق المصلحة و درء المفسدة بضوابط شرعية معروفة خاضعة لقواعد فقه التوازنات، "فالضرورات تبيح المحظورات" ولكن: "الضرورة تقدر بقدرها"، و المفاسد تتفاوت بأحجامها و خطورتها ).
- أساس حضاري (حضارة الإسلام تملك قيما نبيلة ورصيدا إيجابيا، وهي تأبى أن تصاغ حياة الأمم والشعوب بدونها أو تخضع لمدنيات مادية تصطدم حقائق الإنسان و تصارع مسخرات الكون).
- أساس واقعيّ (الواقع الحالي الذي تعيشه شعوبنا العربية وأمتنا الإسلامية يتسم بالضعف والفرقة والتخلف والتبعية و الابتعاد عن الدين و هديه.. ولا يقبل النافذون فيه بالغلبة والمغالبة كما لا يتحمل الماسكون بأزمة الأمور في أوطاننا التداول على السلطة، بل هم يسعون عمدا إلى فرض الإقصاء والاستئصال، والحركة الإسلامية كأبرز قوى المجتمع عليها أن تتكيف مع هذا الواقع.)
- أساس سياسيّ (تستند مشاركة الحركة في الحكومة إلى رصيد سياسي صنعته تجربتها الطويلة من السرية إلى العلنية نضالا من أجل الحرية في مرحلة الأحادية، وتنمية لقوتها الشعبية من خلال رئاسيات 1995، و ما تلاها من استحقاقات سياسية سنوات 97-99-2002 ومساهمة في إنقاذ البلاد (دولة وشعبا) من الانهيار و الدفع باتجاه الاستقرار و إعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة بالدخول إلى المجلس الانتقالي، وتقديم صورة عن الحركة: "إسلامية وطنية معتدلة" تنحاز إلى الجزائر و تدافع عن الثوابت و تحمي الهوية و الحريات).
بالتمعن يمكن أن نقول إننا أمام رؤية عملية براقماتية تعتمد على استراتيجية الضرورة من أجل التمكّن من مواقع التأثير في واقع المجتمع.
غاية المشاركة إذن هي في ذاتها لأنها لا تتجاوز تأهيل كوادر الحركة لقيادة المجتمع ومؤسسات الدولة وهي غاية يمكن أن تقبل في ظروف استثنائية انتقالية كالتي عرفتها الجزائر في العشرية الدموية.
من جهة ثانية فإن طبيعة الحركة ما تزال غير محددة بل متأرجحة بين الحزب السياسي الممتلك لرؤية وتحليل وبدائل ظرفية يعيد بها صياغة التوازنات وبين الحركة الشعبوية الاجتماعية التي تعمل من أجل الحشد الجماهيري حول شعارات كبيرة قصد التأثير على صناديق الاقتراع أو على الجهات الفاعلة في السلطة و بين الجمعية الخيرية التربوية التي تعمل من أجل تنشأة الأجيال وإعادة تأسيس قيمها وتهذيب ذوقها وسلوكها.
إذا نظرنا إلى بعض مظاهر نشاط الحركة توصلنا بسهولة إلى هذا الخلط الذي تتداخل فيه جملة من الأعمال والمهام مما يؤدي إلى تراجع بدائلها الاستراتيجية و تدنّي أدائها السياسي و التناقص في شعبيتها. لا أدلّ على هذا التداخل مما يكشفه موقع الحركة على الشبكة في أوائل ماي 2006: لقد احتفلت أمانة المرأة وشؤون الأسرة ل "حمس" بتحجب عدد من الفتيات في قسنطينة في حين كان رئيس الحركة يلقي خطابا في ذكرى مجازر سطيف 8-5- 1945 بينما كان المكتب البلدي يؤسس نادي أطفال طيور الجنة هذا إلى جانب تكريم الصحافيين بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة.
الأخطر من كل هذا هو أن قيادة الحركة لم تر في مرحلة ما بعد المصالحة طورا جديدا يتطلب مراجعات نوعية وتقويما لخطة المشاركة التي أملتها ظروف الحرب الأهلية وما تفرضه طبيعة الحراك السياسي من وعي في مجالي التكوين والتحليل. لذلك فإن رئيس حركة "حمس" أبو جرة سلطاني لم يتردد في القول عندما سئل عن واقع التيار الإسلامي في الجزائر المواجه لمفترق طرق، قال : " المراجعة ليست قضايا نظرية أكاديمية، وإنما هي إجراءات ميدانية، فنحن نتحرك الآن في الميدان ونراقب حركتنا ونسدد ونقارب ونستدرك نقائصنا ونحاول التخلص من سلبيات الماضي.. وهو جهد عملي ميداني أثبتت التجارب جدواه وصدقيته".
عندما نقرأ هذا ونتابع جملة النشاط الحزبي الميداني والسياسي والفكري نتذكر أن العنصر الذي أجهز على الفكر الإصلاحي العربي في القرن 19- ومطلع ال20 في المجال السياسي والاجتماعي هي استبعاده عن مشروع الدولة الحديثة القومية ( تركيا) أو القطرية الوطنية ( البلاد العربية ). هذه الدول لم تكن تبحث عن مشروعيتها في مصادر إسلامية سواء أعلنت تلك الدول مواقف عدائية من الإسلام وتراثه أو استخدمت إسلاما تقليديا مزيحة بذلك الفكر الإصلاحي جانبا. هذا الاستبعاد للتوجه الإصلاحي دفعه إلى الضمور الفكري والتراجع الاجتماعي إلى مواقف دفاعية تمجيدية لا تتمكن أن تبلور طروحات مواكبة للمستجدات الثقافية والسياسية المحلية والدولية.
ما تنساق فيه حركة" حمس" اليوم من حرص على البدئل العملية تجعلها مقبلة على مصاعب سياسية واجتماعية وعاجزة عن تطوير نوعي للحياة الديمقراطية في الجزائر.
إن ما أدركته بعض النخب العربية الحاكمة والمثقفة من أن الديمقراطية هي صيغة تاريخية تجسد فلسفة استقلال السلطة العليا (الدولة) عن أي مذهب اجتماعي أو سياسي لكن هذا يعني يستلزم من الأطراف المشاركة في التوجه الديمقراطي مساهمة ذات بعدين :
بعد إجرائي عملي هدفه تركيز استقلال الدولة تبعا لما تكرسه الانتخابات من نتائج.
بعد فكري يؤكد قيم المجتمع وثقافته ويفعّلُهما عبر خيارات سياسية ورؤية استراتجية .
بدون هذا الجدل المركَّب بين الدولة والأحزاب وقوى المجتمع المدني وبين هؤلاء والنخب المثقفة والمؤسسات البحثية والدراسية فإن خيار المشاركة يختزل في حضور رقمي مؤقت مهدد بالتراجع في مجتمعات "ما قبل السياسة".
إن ما يهدد حركة مثل "حمس" الجزائرية هو انظواؤها في نظام تكون الدولة فيه عاجزة عن تحقيق تسويات للنزاعات الطبيعية القائمة بين الفئات والمصالح المختلفة أي أن مشاركتها لا تستطيع في أفضل الحالات سوى تأجيل الصراع وتأخير الفتن.
===
المراجع
-مجلة البصيرة ، للبحوث والدراسات الإنسانية من العدد 1 رمضان 1417 /جانفي 1997 إلى العدد 6 الثلاثي الثاني 2001.
-موقع الحركة على الشبكة الدولية
- موقع الشهاب
- خالد حسن، الحركة الإسلامية في الجزائر دعوة لمراجعة الرصيد وتقويم المسيرة، إصدار التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة الأمريكية ،ان اربر)، ط 1، 2001).
ملاحظة : لايمكن نشر هذا البحث على موقع اخر أو نشرية أخرى الا بعد استئذان القائمين على صحيفة الوسط التونسية.