بقلم جمال زواري أحمد
إن النجاحات المتتالية التي حققتها وتحققها الحركة الإسلامية التركية ممثلة في حزب العدالة والتنمية ، وكذا النسب المرتفعة التي يتحصل عليها في المواعيد الانتخابية المتوالية وفي أجواء ديمقراطية حقيقية ، وتصدّره المتكرر للمشهد السياسي والانتخابي التركي بمنحنى بياني تصاعدي ملفت للانتباه ومحيّر لدى البعض ، رغم تفرّده بالسلطة تقريبا لعهدتين متتاليتين وهو في بداية ثالثة
وعادة فإن الرأي العام في أي بلد فيه ديمقراطية وتنافس حقيقيين يصاب بالملل عند توالي وتكرار تصدّر نفس الجهة والوجوه ، ويرغب في تغيير السروج كما يقال فإن في التغيير راحة ، لكن المشهد التركي في حالة العدالة والتنمية يحدث الاستثناء ، بحيث تزداد شعبية الحزب ومشروعه وبرنامجه وكوادره ورجاله وترتفع كتلته الانتخابية ويتوسع وعاؤه الانتخابي ، فيكتسب دعما أكبرا ويكتسح مساحات جديدة جغرافيا وفئويا ، ويتجاوز كل العراقيل التي تواجهه والعقبات التي توضع في طريقه ، ويتعدّى كل الإحراجات التي يحاول خصومه أن يوقعوه فيها بين الحين والآخر ، ويخرج من كل المعارك التي يثيرها هؤلاء أكثر قوة وأعمق تأثيرا وأوسع أثرا وأكبر قبولا لدى الرأي العام التركي الحاضن الفعلي للتجربة والداعم الأكبر لها ، وكذلك الرأي العام الإسلامي وحتى الدولي .
ونرى بالمقابل الحركات الإسلامية منبهرة بالتجربة التركية ونجاحاتها المتوالية وتحتج بها أمام خصومها الإيديولوجيين والسياسيين ، دون أن تكلّف نفسها تحويل هذا الانبهار والإعجاب إلى خطوات عملية فعلية للاستفادة منها وتجسيد عوامل نجاحها على مستوى أقطارها ومساحات عملها وتحركها ، وتكييفها حسب خصوصيتها وبيئتها وظروفها ، لأننا ندرك أن استنساخ التجربة بحذافيرها كما هي أمر مستحيل ، لأن لكل قطر معطياته وظروفه ، لكن ندرك كذلك أنه يمكنها أن تستحضر المعالم الكبرى لنجاح التجربة وتسعى إلى توفيرها ما أمكن على مستواها وتخرج نسخة معدلّة ومنقحة لها تتصدّر بها مشهدها وتفرض بها حضورها ، لأنه في بعض الأحيان يكون مبرر اختلاف البيئة والظروف وخصوصية التجربة ما هو إلا تبرير عجز وتخلّف وصناعة أعذار ونزول سقف ، أكثر منه واقعية تحليل وموضوعية تشخيص.
وحتى لا نكثر التفلسف كثيرا ، فإننا نؤكد أن لنجاح التجربة التركية ثلاث ركائز مهمة وعوامل كبرى ومكونات أساسية ، ساهمت مجتمعة في صناعة هذا النجاح والتميز ، وتكوين الخلطة السحرية التي جعلت هذا النجاح أمرا واقعا لا خيالا ، ومتكررا وتصاعديا لا طفرة مؤقتة ، وحقيقة ملموسة لا إدّعاء رخيصا ، ويتفرّع عن هذه الركائز والعوامل والمكونات كل العوامل الفرعية الأخرى .
ويمكن للحركات الإسلامية في بقية الأقطار أن تفعل الشيء نفسه لو استطاعت أن توفر هذه الركائز وتشكل هذه الخلطة بنفس مكوناتها مع ضرورة النكهة والبهارات المحلية على مستوى أقطارها ، بشكل احترافي ودائم وناضج ، بعيد عن الطفرات المؤقتة وأساليب الهواة وتوظيف الشعارات دون مردود عملي تنفيذي إنجازي وتطبيقي وملموس في واقع الناس.
لأننا رأينا ظاهرة التهافت على تمثل التجربة التركية في العديد من الأقطار قاصرة على تبني الاسم ورفع اللافتة واتخاذ الشعار دون تبني المنهج واستيعاب الجوهر وتشرّب التجربة وتوفير نفس عوامل وركائز ومكونات النجاح .
هذه الركائز والمكونات متمثلة فيما يلي :
1) ــ المال والاقتصاد :
أول هذه الركائز التي قامت عليها التجربة وساهمت في تطويرها ونجاحها ، وأول المكونات الأساسية لخلطتها السحرية هو المال والاقتصاد.
فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية منذ بدايتها أهمية هذه الركيزة في نجاح مشروعها والتمكين له في واقع الناس ، وأنه لا يمكن للحركة أن تنجح سياسيا ومجتمعيا ، ما لم تنجح ماليا واقتصاديا ، لذلك عملت على تجذير تواجدها ونفوذها الفكري والتربوي والتعليمي في صفوف الجالية التركية في الخارج وربطها بالوطن الأم واستثمار قدراتها المالية بالعملة الصعبة في المساهمة في المشروع التنموي الوطني الطموح والصاعد عند انطلاقته .
كما عملت على التواجد القوي والنافذ في الحراك الاقتصادي بما يشكل لوبيا مؤثرا على المستويين الاقتصادي والسياسي ، من خلال تأسيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين المعروفة اختصارا بالموصياد سنة 1990 ، وقد بدؤوها بخمسة رجال أعمال ثم انطلقت في التوسع والانتشار حتى أصبحت أكبر تجمع مالي واقتصادي ليس في تركيا فحسب بل في العالم الإسلامي كله ، وتجاوز عدد أعضائها من رجال الأعمال والاقتصاديين 4500 عضو منهم 1600 عضو من رجال الأعمال الشباب ــ إن لم يكن العدد قد زاد وتضاعف الآن ــ ، يمثلون في مجموعهم حوالي 15 ألف شركة ، للمنظمة 30 فرع في تركيا و32 مكتب ارتباط حول العالم ، يعتبر مؤتمرها ومعرضها السنوي حدثا مهما تحج إليه الوفود الاقتصادية والسياسية من كل ربوع الدنيا ، لما يحمله من فرصة سانحة للجميع للاستفادة وتبادل الخبرات وكذا عقد الصفقات.
وقد استطاعت الموصياد أن تكون الداعم القوي والدرع الواقي والعنصر المؤثر والعامل الصانع لنجاح التجربة والدليل العملي والواقعي على قدرتها على صناعة التنمية المتكاملة والتميز الكبير ، ممّا جعلها تحقق بشكل تصاعدي واضح للجميع معدلات تنموية مرتفعة في كل المجالات ، بداية من دخل الفرد إلى الميزان التجاري إلى الدخل القومي العام إلى سياسات التصنيع إلى معدلات الإنجاز في البنى التحتية بأرقام مذهلة إلى الاهتمام بالفئات الفقيرة ومحدودة الدخل ، وكذلك الانتقال بالاقتصاد التركي من حافة الإفلاس والفساد المالي الكبير إلى الوصول به إلى المرتبة 16 عالميا وهكذا..
والنجاح التنموي الملفت والمتصاعد عند الإمساك بدفة السلطة والدولة ، هو النتيجة المنطقية لتجذر الثقافة المالية والاقتصادية لدى الحركة الإسلامية التركية منذ انطلاقتها وإدراكها المبكر لأهميتها ودورها المحوري في التمكين للمشروع وإحداث التغيير المنشود ، وهو ما ينقص الكثير من الحركات الإسلامية في أقطار شتى ، لأن غياب الأمن الاقتصادي للحركة الإسلامية ، وهو الوضع المالي الكفيل بتجذير أثرها في المجتمع ، وامتداداتها في الزمان والمكان، وتوجيهها للعجلة الاقتصادية والسياسية من خلال الحركة الاقتصادية ، يجعلها عارية الظهر قصيرة اليد منخفضة السقف محدودة الاهتمام.
إن الحركة التي ما تزال تعتمد في نشاطاتها على إسهامات أفرادها وأعضائها فقط ، هي حركة ـ مهما ظنت أنها متسعة ـ محدودة حجما وأثرا.
إن التجذّر الاقتصادي للحركة الإسلامية يعني امتدادها في المجال الاقتصادي الضخم استثمارا واستيعابا ، أمّا في مجال الاستثمار فهو إنشاء المشاريع والإسهام فيها ، أمّا استيعابا فهو العمل الجاد على مدّ ظلال الدعوة والحركة إلى كبار المستثمرين ورجال الأعمال ، وكذا أطر الشركات ومستخدميها والانفتاح عليهم ، الأمر الذي يؤدي إلى ضمان استقرار اقتصادي للحركة وتمكينها من التأثير الاجتماعي والسياسي من البوابة الاقتصادية .
إن الأمن الاقتصادي يحقّق طمأنينة للحركة تضمن لها الامتداد وتشعرها بالتمركز القوي في المجتمع ومؤسساته ، كما أنّه يساعد على النجاح في معركة البدائل على مستوى الإعلام والفن وغيرهما، ويضمن تفرغ الكفاءات للتكفّل بمسؤوليات العمل المختلفة والمتنوعة ، بحيث لا تبقى الحركة تعتمد على التطوع وكفى في جميع مستويات عملها ، ممّا يجعله قلقا ومضطربا ، ويكفي تأخير أجور أعضائها بعض شهور للإجهاز عليها وإصابتها في مقتل ، بنزول سقف هؤلاء الأعضاء من استشراف التغيير الاجتماعي والسياسي ، إلى حمل هم دخول الراتب وتأخره ، خاصة ونحن نعلم أن غالبية أعضاء الحركات الإسلامية رجال تعليم أو موظفون صغار أو متوسطون أو مهنيون أو طلبة ، وقليل من يشذ عن هذه المجالات.
فهذا العامل الأول والأهم والمكون الرئيسي للخلطة السحرية لتراكم نجاح التجربة التركية ، فإذا ما أرادت الحركات الإسلامية السير على خطاها ، فما عليها إلا أن تكون بدايتها من هنا ، وأن تتأكد أنه لا يمكن لها أن تنجح سياسيا بشكل لافت ومتكرر إذا ما كانت فاشلة وراسبة ماليا واقتصاديا على مستوى داخلها وكذلك على مستوى محيطها.
2) ــ الإعلام :
ثاني مكون للخلطة السحرية التركية الذي ساهم في نجاح التجربة ، وأحد الركائز المهمة التي حمت ظهرها ومكّنت لها وجعلتها مأوى أفئدة الشعب التركي ومحل اهتمامه هي الإعلام وما أدراك ما الإعلام .
فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية مبكرا كذلك أهمية هذا المكوّن ودوره وفعاليته في التأثير والتمكين والحماية ، فعملت منذ انطلاقتها الأولى على صناعة إعلام خاص بها يكون له صوت محترم ومسموع في الساحة ، فأسست الجرائد اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية والدورية ، ثم الإذاعات والقنوات التلفزيونية ومراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.
وقد تطور التواجد الإعلامي للإسلاميين الأتراك بمختلف تشكّلاتهم واهتماماتهم مع تطور المسيرة ، وبلغ ذروته واحترافيته من خلال تجربة حركة فتح الله كولن الفكرية والتربوية والتعليمية والثقافية ، والعدالة والتنمية السياسية ، فتذهل بحق عندما تسمع وتقرأ عن العدد الكبير الذي يملكه أصحاب التجربة من وسائل ووسائط إعلامية مختلفة تصنع الرأي العام وتؤثر فيه وتسوّق للتجربة ونجاحاتها وإنجازاتها في المجالات المختلفة ، فجريدة يومية مثلزمان) مثلا التابعة لحركة فتح الله كولن تعتبر من أوسع الجرائد التركية انتشارا وأكثرها توزيعا ، حيث توزع حوالي 800 ألف نسخة يوميا ولها وكالة أنباء مرتبطة بها هي وكالة جيهان .
وهذا المكوّن المهم المساهم بدوره في نجاح التجربة هو نتيجة منطقية للمكوّن الذي سبقه ، فلا يمكن صناعة إعلام قوي ومؤثر واحترافي بقدرات مالية واقتصادية منعدمة أو متواضعة.
والحركات الإسلامية إذا أرادت تمثل التجربة في خطوطها العريضة على الأقل وفي أصولها ، لا بد أن تمرّ من هنا حتما ويكون لها نصيب معتبر من هذا المكوّن كذلك(الإعلام)، وإلا فهي تنفخ في رماد كما يقولون وتهرش في مكان لا يستدعي الهرش أصلا ، فكيف يمكن لحركة أن تنافس على تصدّر المشهد السياسي وهي بلا لسان ولا صوت يعبر عنها وعن مواقفها ومشاريعها وإنجازاتها ورجالها ، ويسوّق كل ذلك للشرائح المجتمعية المختلفة المشكلة للرأي العام ، الأمر الذي يجعل هذه الشرائح تتعرف على الحركة ومشروعها وأفكارها ومواقفها وبرامجها بشكل مباشر ومن خلال إعلامها وليس من إعلام خصومها وحتى أعدائها.
فقد أصبح غير مسموح البتة ولا مقبول ولا مبرر كذلك ، الغياب والعجز والتخلف والحضور الباهت إن لم نقل المعدوم إعلاميا ، في عصر الوسائط الإعلامية المتطورة ، بحيث أصبحنا نعيش زمن الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود وأزالت السدود واختزلت المسافات والزمن واختصرت التاريخ وتكاد تلغي الجغرافيا ، حتى بات الإنسان يرى العالم ويسمعه وهو في مقعده.
فالإعلام كان المكوّن الأساسي الثاني للخلطة السحرية التركية ، والذي ساعد على تجذرها وإيصال صورتها الحقيقية والواقعية للرأي العام ، ممّا أكسبها إعجابه وانبهاره ومن ثم دعمه ومناصرته.
وتستطيع القول ولا حرج عليك كذلك أنه لا يمكن للحركة الإسلامية في أي قطر كانت وفي أي موقع أو مرحلة هي ، أن تحلم بالتصدر وأن تنجح سياسيا إذا كانت فاشلة وعاجزة وغائبة ومتخلفة إعلاميا.
3) ــ المرونة السياسية :
والمكوّن الآخر المهم للخلطة السحرية للتجربة التركية والضلع الثالث المتمم لمثلث المكوّنات الأساسية لها هو المرونة السياسية ، التي ساهمت بدورها بشكل فعال في تجاوز العقبات والمطبّات التي وضعت في طريقها ، وأفشلت من خلالها كل المؤامرات التي حيكت ضدها ، وأبطلت مفعول كل القنابل الموقوتة التي زرعت في مسار صعودها ، بل عن طريق هذه المرونة السياسية استطاع روّاد التجربة والقائمون عليها بذكاء ، أن يحوّلوا الكثير من هذه المطبّات والمؤامرات والقنابل إلى عوامل مساعدة على النجاح ، وتقزيم أصحابها وفضحهم وكشفهم أمام الرأي العام التركي وحتى العالمي.
وعن طريق هذه المرونة كذلك ، استطاعوا أن يتجاوزوا إحراجات الإيديولوجيا وتوريطات الشعارات التي لا ينبني عليها عمل ، وانتقلوا من الإسلام العتيق إلى الإسلام الأنيق كما ذكر الشيخ أبو جرة سلطاني ، أو من إسلام الشعارات إلى إسلام القيم والأبعاد الحضارية ، في صور إنجازات وتجسيد عملي على الأرض وفي الواقع ، دون ضرورة رفع اللافتة والشعار ، ودون التنازل عن الثوابت والأصول والمبادئ.
وتمثل عنصر المرونة هذا لديهم كذلك ، في قدرة هائلة على الانفتاح على كل مكوّنات وأطياف الشعب التركي والتعايش مع الجميع إلا من أبى ، حتى من يخالفونهم الرأي والتوجه والخيارات ، واستطاعوا أن يستوعبوا الكثير من هؤلاء ويدمجونهم في مؤسسات الحزب المختلفة أو يحيّدونهم على الأقل في صراعهم الشرس مع عتاة العلمانية.
كما تظهر مرونتهم كذلك ، في تعاملهم بكثير من الصبر والحكمة والهدوء والأعصاب الباردة مع المؤسسة العسكرية اللاعب الرئيسي في السياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية العلمانية ، ممّا جعلهم يكسبون النقاط بشكل مستمر ، على حساب تشددها ومحاولاتها المستميتة لإقصائهم والانقلاب عليهم وحلّ حزبهم ، فأفشلوا كل ذلك بمرونتهم السياسية ، مع سعيهم الحثيث وحرصهم الشديد على ضمان مؤسسة عسكرية قوية ومحترفة ونزيهة وخالية من كل مظاهر الفساد ، تقوم بدورها الدستوري البعيد عن التدخل السافر في الشؤون السياسية للبلد ، فخطوا بذلك خطوات مهمة وجبارة في تمدين النظام السياسي التركي بشكل كبير ، وغير قابل للرجوع إلى الوراء.
كذلك تظهر هذه المرونة ماثلة للعيان في التعامل مع القضية الكردية وهي قضية بالغة الحساسية لدى غالبية الرأي العام التركي ، ومعها كل الأقليات الموجودة عندهم .
أيضا تظهر الآثار الإيجابية لهذه المرونة في المواقف من القضايا الخارجية والفهم الجيد للخريطة السياسية الدولية والتوازن الفعال في علاقات تركيا الدولية ، الأمر الذي أكسبها حضورا أكبرا وأهمّا وأكثر تأثيرا في السياسة الدولية ، حتى أصبحت تركيا لاعبا أساسيا لا يمكن تغييبه عن المشهد الدولي ، بل يحسب له ألف حساب ، كما استطاعت الدبلوماسية التركية أن تقدم نفسها كوسيط مهم لحل الكثير من الأزمات والنزاعات الإقليمية والدولية ، خاصة بعد تولي الخبير الإستراتيجي أحمد داوود أوغلو دفتها ، والقاريء لكتابه العمق الإستراتيجي يدرك هذه المرونة والحكمة والذكاء وسعة الأفق.
ومكوّن المرونة السياسية هذا ، مرتبط ارتباطا وثيقا كذلك بالمكوّنين الذين سبقاه ، فلا يمكن أن تكون مرنا سياسيا وأنت عاري الظهر اقتصاديا وإعلاميا ، عندها يكون عنصر المرونة هذا عامل ضعف وإنزال سقف واستبساط من طرف المنافسين والخصوم والمتربصين ، أكثر منه قوة وحكمة وواقعية ، كما أن القوة الاقتصادية والمالية والتنموية والإعلامية تفتح مجالا واسعا وآفاقا رحبة للمرونة السياسية التي نتحدث عنها ، كي تبلغ الأهداف بسهولة ويسر وتحقق مبتغى أصحاب التجربة بشكل سلس وتفرض احترامها وقبولها وحتى هزيمتها ، للآخر المحايد أو المنافس أو المتربص.
فالكثير من الحركات الإسلامية السياسية على وجه التحديد ، تدرك أهمية عامل المرونة هذا ، بل ومارسته وتمارسه بشكل جيّد ومقبول في العديد من المحطات والمواقف ، لكن لمّا كان ويكون منبتا عن قوة مالية واقتصادية وإعلامية تعضده وتحميه وترعاه وتبرره وتسوّقه ، فإنها حتما لا يكون لها المردود المرجو والنتائج المتطلّع إليها من خلال تطبيقه.
في خلاصة الموضوع نقول أن معادلة نجاح التجربة التركية أو خلطتها السحرية كما عبّرنا عنها في هذا المقال ، تقوم على هذا الثالوث الرئيس ، الذي تتفرّع عنه كل العوامل الجزئية والتفصيلية الأخرى ، التي ساهمت مجتمعة في تحقيق كل هذا النجاح والتميز ، وما على الحركات الإسلامية المنبهرة والمعجبة بالتجربة ونتائجها وإنجازاتها ، إذا أرادت تمثلها والاستفادة منها ، أن تراهن على هذا الثالوث كذلك مجتمعا ، مهما كانت خصوصيتها وبيئتها وظروفها .
فمال واقتصاد قوي + إعلام محترف وقوي كذلك + مرونة سياسية مدروسة ومخطط لها = تجربة رائدة وناجحة ومتميّزة.
إن النجاحات المتتالية التي حققتها وتحققها الحركة الإسلامية التركية ممثلة في حزب العدالة والتنمية ، وكذا النسب المرتفعة التي يتحصل عليها في المواعيد الانتخابية المتوالية وفي أجواء ديمقراطية حقيقية ، وتصدّره المتكرر للمشهد السياسي والانتخابي التركي بمنحنى بياني تصاعدي ملفت للانتباه ومحيّر لدى البعض ، رغم تفرّده بالسلطة تقريبا لعهدتين متتاليتين وهو في بداية ثالثة
وعادة فإن الرأي العام في أي بلد فيه ديمقراطية وتنافس حقيقيين يصاب بالملل عند توالي وتكرار تصدّر نفس الجهة والوجوه ، ويرغب في تغيير السروج كما يقال فإن في التغيير راحة ، لكن المشهد التركي في حالة العدالة والتنمية يحدث الاستثناء ، بحيث تزداد شعبية الحزب ومشروعه وبرنامجه وكوادره ورجاله وترتفع كتلته الانتخابية ويتوسع وعاؤه الانتخابي ، فيكتسب دعما أكبرا ويكتسح مساحات جديدة جغرافيا وفئويا ، ويتجاوز كل العراقيل التي تواجهه والعقبات التي توضع في طريقه ، ويتعدّى كل الإحراجات التي يحاول خصومه أن يوقعوه فيها بين الحين والآخر ، ويخرج من كل المعارك التي يثيرها هؤلاء أكثر قوة وأعمق تأثيرا وأوسع أثرا وأكبر قبولا لدى الرأي العام التركي الحاضن الفعلي للتجربة والداعم الأكبر لها ، وكذلك الرأي العام الإسلامي وحتى الدولي .
ونرى بالمقابل الحركات الإسلامية منبهرة بالتجربة التركية ونجاحاتها المتوالية وتحتج بها أمام خصومها الإيديولوجيين والسياسيين ، دون أن تكلّف نفسها تحويل هذا الانبهار والإعجاب إلى خطوات عملية فعلية للاستفادة منها وتجسيد عوامل نجاحها على مستوى أقطارها ومساحات عملها وتحركها ، وتكييفها حسب خصوصيتها وبيئتها وظروفها ، لأننا ندرك أن استنساخ التجربة بحذافيرها كما هي أمر مستحيل ، لأن لكل قطر معطياته وظروفه ، لكن ندرك كذلك أنه يمكنها أن تستحضر المعالم الكبرى لنجاح التجربة وتسعى إلى توفيرها ما أمكن على مستواها وتخرج نسخة معدلّة ومنقحة لها تتصدّر بها مشهدها وتفرض بها حضورها ، لأنه في بعض الأحيان يكون مبرر اختلاف البيئة والظروف وخصوصية التجربة ما هو إلا تبرير عجز وتخلّف وصناعة أعذار ونزول سقف ، أكثر منه واقعية تحليل وموضوعية تشخيص.
وحتى لا نكثر التفلسف كثيرا ، فإننا نؤكد أن لنجاح التجربة التركية ثلاث ركائز مهمة وعوامل كبرى ومكونات أساسية ، ساهمت مجتمعة في صناعة هذا النجاح والتميز ، وتكوين الخلطة السحرية التي جعلت هذا النجاح أمرا واقعا لا خيالا ، ومتكررا وتصاعديا لا طفرة مؤقتة ، وحقيقة ملموسة لا إدّعاء رخيصا ، ويتفرّع عن هذه الركائز والعوامل والمكونات كل العوامل الفرعية الأخرى .
ويمكن للحركات الإسلامية في بقية الأقطار أن تفعل الشيء نفسه لو استطاعت أن توفر هذه الركائز وتشكل هذه الخلطة بنفس مكوناتها مع ضرورة النكهة والبهارات المحلية على مستوى أقطارها ، بشكل احترافي ودائم وناضج ، بعيد عن الطفرات المؤقتة وأساليب الهواة وتوظيف الشعارات دون مردود عملي تنفيذي إنجازي وتطبيقي وملموس في واقع الناس.
لأننا رأينا ظاهرة التهافت على تمثل التجربة التركية في العديد من الأقطار قاصرة على تبني الاسم ورفع اللافتة واتخاذ الشعار دون تبني المنهج واستيعاب الجوهر وتشرّب التجربة وتوفير نفس عوامل وركائز ومكونات النجاح .
هذه الركائز والمكونات متمثلة فيما يلي :
1) ــ المال والاقتصاد :
أول هذه الركائز التي قامت عليها التجربة وساهمت في تطويرها ونجاحها ، وأول المكونات الأساسية لخلطتها السحرية هو المال والاقتصاد.
فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية منذ بدايتها أهمية هذه الركيزة في نجاح مشروعها والتمكين له في واقع الناس ، وأنه لا يمكن للحركة أن تنجح سياسيا ومجتمعيا ، ما لم تنجح ماليا واقتصاديا ، لذلك عملت على تجذير تواجدها ونفوذها الفكري والتربوي والتعليمي في صفوف الجالية التركية في الخارج وربطها بالوطن الأم واستثمار قدراتها المالية بالعملة الصعبة في المساهمة في المشروع التنموي الوطني الطموح والصاعد عند انطلاقته .
كما عملت على التواجد القوي والنافذ في الحراك الاقتصادي بما يشكل لوبيا مؤثرا على المستويين الاقتصادي والسياسي ، من خلال تأسيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين المعروفة اختصارا بالموصياد سنة 1990 ، وقد بدؤوها بخمسة رجال أعمال ثم انطلقت في التوسع والانتشار حتى أصبحت أكبر تجمع مالي واقتصادي ليس في تركيا فحسب بل في العالم الإسلامي كله ، وتجاوز عدد أعضائها من رجال الأعمال والاقتصاديين 4500 عضو منهم 1600 عضو من رجال الأعمال الشباب ــ إن لم يكن العدد قد زاد وتضاعف الآن ــ ، يمثلون في مجموعهم حوالي 15 ألف شركة ، للمنظمة 30 فرع في تركيا و32 مكتب ارتباط حول العالم ، يعتبر مؤتمرها ومعرضها السنوي حدثا مهما تحج إليه الوفود الاقتصادية والسياسية من كل ربوع الدنيا ، لما يحمله من فرصة سانحة للجميع للاستفادة وتبادل الخبرات وكذا عقد الصفقات.
وقد استطاعت الموصياد أن تكون الداعم القوي والدرع الواقي والعنصر المؤثر والعامل الصانع لنجاح التجربة والدليل العملي والواقعي على قدرتها على صناعة التنمية المتكاملة والتميز الكبير ، ممّا جعلها تحقق بشكل تصاعدي واضح للجميع معدلات تنموية مرتفعة في كل المجالات ، بداية من دخل الفرد إلى الميزان التجاري إلى الدخل القومي العام إلى سياسات التصنيع إلى معدلات الإنجاز في البنى التحتية بأرقام مذهلة إلى الاهتمام بالفئات الفقيرة ومحدودة الدخل ، وكذلك الانتقال بالاقتصاد التركي من حافة الإفلاس والفساد المالي الكبير إلى الوصول به إلى المرتبة 16 عالميا وهكذا..
والنجاح التنموي الملفت والمتصاعد عند الإمساك بدفة السلطة والدولة ، هو النتيجة المنطقية لتجذر الثقافة المالية والاقتصادية لدى الحركة الإسلامية التركية منذ انطلاقتها وإدراكها المبكر لأهميتها ودورها المحوري في التمكين للمشروع وإحداث التغيير المنشود ، وهو ما ينقص الكثير من الحركات الإسلامية في أقطار شتى ، لأن غياب الأمن الاقتصادي للحركة الإسلامية ، وهو الوضع المالي الكفيل بتجذير أثرها في المجتمع ، وامتداداتها في الزمان والمكان، وتوجيهها للعجلة الاقتصادية والسياسية من خلال الحركة الاقتصادية ، يجعلها عارية الظهر قصيرة اليد منخفضة السقف محدودة الاهتمام.
إن الحركة التي ما تزال تعتمد في نشاطاتها على إسهامات أفرادها وأعضائها فقط ، هي حركة ـ مهما ظنت أنها متسعة ـ محدودة حجما وأثرا.
إن التجذّر الاقتصادي للحركة الإسلامية يعني امتدادها في المجال الاقتصادي الضخم استثمارا واستيعابا ، أمّا في مجال الاستثمار فهو إنشاء المشاريع والإسهام فيها ، أمّا استيعابا فهو العمل الجاد على مدّ ظلال الدعوة والحركة إلى كبار المستثمرين ورجال الأعمال ، وكذا أطر الشركات ومستخدميها والانفتاح عليهم ، الأمر الذي يؤدي إلى ضمان استقرار اقتصادي للحركة وتمكينها من التأثير الاجتماعي والسياسي من البوابة الاقتصادية .
إن الأمن الاقتصادي يحقّق طمأنينة للحركة تضمن لها الامتداد وتشعرها بالتمركز القوي في المجتمع ومؤسساته ، كما أنّه يساعد على النجاح في معركة البدائل على مستوى الإعلام والفن وغيرهما، ويضمن تفرغ الكفاءات للتكفّل بمسؤوليات العمل المختلفة والمتنوعة ، بحيث لا تبقى الحركة تعتمد على التطوع وكفى في جميع مستويات عملها ، ممّا يجعله قلقا ومضطربا ، ويكفي تأخير أجور أعضائها بعض شهور للإجهاز عليها وإصابتها في مقتل ، بنزول سقف هؤلاء الأعضاء من استشراف التغيير الاجتماعي والسياسي ، إلى حمل هم دخول الراتب وتأخره ، خاصة ونحن نعلم أن غالبية أعضاء الحركات الإسلامية رجال تعليم أو موظفون صغار أو متوسطون أو مهنيون أو طلبة ، وقليل من يشذ عن هذه المجالات.
فهذا العامل الأول والأهم والمكون الرئيسي للخلطة السحرية لتراكم نجاح التجربة التركية ، فإذا ما أرادت الحركات الإسلامية السير على خطاها ، فما عليها إلا أن تكون بدايتها من هنا ، وأن تتأكد أنه لا يمكن لها أن تنجح سياسيا بشكل لافت ومتكرر إذا ما كانت فاشلة وراسبة ماليا واقتصاديا على مستوى داخلها وكذلك على مستوى محيطها.
2) ــ الإعلام :
ثاني مكون للخلطة السحرية التركية الذي ساهم في نجاح التجربة ، وأحد الركائز المهمة التي حمت ظهرها ومكّنت لها وجعلتها مأوى أفئدة الشعب التركي ومحل اهتمامه هي الإعلام وما أدراك ما الإعلام .
فقد أدركت الحركة الإسلامية التركية مبكرا كذلك أهمية هذا المكوّن ودوره وفعاليته في التأثير والتمكين والحماية ، فعملت منذ انطلاقتها الأولى على صناعة إعلام خاص بها يكون له صوت محترم ومسموع في الساحة ، فأسست الجرائد اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية والدورية ، ثم الإذاعات والقنوات التلفزيونية ومراكز الدراسات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.
وقد تطور التواجد الإعلامي للإسلاميين الأتراك بمختلف تشكّلاتهم واهتماماتهم مع تطور المسيرة ، وبلغ ذروته واحترافيته من خلال تجربة حركة فتح الله كولن الفكرية والتربوية والتعليمية والثقافية ، والعدالة والتنمية السياسية ، فتذهل بحق عندما تسمع وتقرأ عن العدد الكبير الذي يملكه أصحاب التجربة من وسائل ووسائط إعلامية مختلفة تصنع الرأي العام وتؤثر فيه وتسوّق للتجربة ونجاحاتها وإنجازاتها في المجالات المختلفة ، فجريدة يومية مثلزمان) مثلا التابعة لحركة فتح الله كولن تعتبر من أوسع الجرائد التركية انتشارا وأكثرها توزيعا ، حيث توزع حوالي 800 ألف نسخة يوميا ولها وكالة أنباء مرتبطة بها هي وكالة جيهان .
وهذا المكوّن المهم المساهم بدوره في نجاح التجربة هو نتيجة منطقية للمكوّن الذي سبقه ، فلا يمكن صناعة إعلام قوي ومؤثر واحترافي بقدرات مالية واقتصادية منعدمة أو متواضعة.
والحركات الإسلامية إذا أرادت تمثل التجربة في خطوطها العريضة على الأقل وفي أصولها ، لا بد أن تمرّ من هنا حتما ويكون لها نصيب معتبر من هذا المكوّن كذلك(الإعلام)، وإلا فهي تنفخ في رماد كما يقولون وتهرش في مكان لا يستدعي الهرش أصلا ، فكيف يمكن لحركة أن تنافس على تصدّر المشهد السياسي وهي بلا لسان ولا صوت يعبر عنها وعن مواقفها ومشاريعها وإنجازاتها ورجالها ، ويسوّق كل ذلك للشرائح المجتمعية المختلفة المشكلة للرأي العام ، الأمر الذي يجعل هذه الشرائح تتعرف على الحركة ومشروعها وأفكارها ومواقفها وبرامجها بشكل مباشر ومن خلال إعلامها وليس من إعلام خصومها وحتى أعدائها.
فقد أصبح غير مسموح البتة ولا مقبول ولا مبرر كذلك ، الغياب والعجز والتخلف والحضور الباهت إن لم نقل المعدوم إعلاميا ، في عصر الوسائط الإعلامية المتطورة ، بحيث أصبحنا نعيش زمن الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود وأزالت السدود واختزلت المسافات والزمن واختصرت التاريخ وتكاد تلغي الجغرافيا ، حتى بات الإنسان يرى العالم ويسمعه وهو في مقعده.
فالإعلام كان المكوّن الأساسي الثاني للخلطة السحرية التركية ، والذي ساعد على تجذرها وإيصال صورتها الحقيقية والواقعية للرأي العام ، ممّا أكسبها إعجابه وانبهاره ومن ثم دعمه ومناصرته.
وتستطيع القول ولا حرج عليك كذلك أنه لا يمكن للحركة الإسلامية في أي قطر كانت وفي أي موقع أو مرحلة هي ، أن تحلم بالتصدر وأن تنجح سياسيا إذا كانت فاشلة وعاجزة وغائبة ومتخلفة إعلاميا.
3) ــ المرونة السياسية :
والمكوّن الآخر المهم للخلطة السحرية للتجربة التركية والضلع الثالث المتمم لمثلث المكوّنات الأساسية لها هو المرونة السياسية ، التي ساهمت بدورها بشكل فعال في تجاوز العقبات والمطبّات التي وضعت في طريقها ، وأفشلت من خلالها كل المؤامرات التي حيكت ضدها ، وأبطلت مفعول كل القنابل الموقوتة التي زرعت في مسار صعودها ، بل عن طريق هذه المرونة السياسية استطاع روّاد التجربة والقائمون عليها بذكاء ، أن يحوّلوا الكثير من هذه المطبّات والمؤامرات والقنابل إلى عوامل مساعدة على النجاح ، وتقزيم أصحابها وفضحهم وكشفهم أمام الرأي العام التركي وحتى العالمي.
وعن طريق هذه المرونة كذلك ، استطاعوا أن يتجاوزوا إحراجات الإيديولوجيا وتوريطات الشعارات التي لا ينبني عليها عمل ، وانتقلوا من الإسلام العتيق إلى الإسلام الأنيق كما ذكر الشيخ أبو جرة سلطاني ، أو من إسلام الشعارات إلى إسلام القيم والأبعاد الحضارية ، في صور إنجازات وتجسيد عملي على الأرض وفي الواقع ، دون ضرورة رفع اللافتة والشعار ، ودون التنازل عن الثوابت والأصول والمبادئ.
وتمثل عنصر المرونة هذا لديهم كذلك ، في قدرة هائلة على الانفتاح على كل مكوّنات وأطياف الشعب التركي والتعايش مع الجميع إلا من أبى ، حتى من يخالفونهم الرأي والتوجه والخيارات ، واستطاعوا أن يستوعبوا الكثير من هؤلاء ويدمجونهم في مؤسسات الحزب المختلفة أو يحيّدونهم على الأقل في صراعهم الشرس مع عتاة العلمانية.
كما تظهر مرونتهم كذلك ، في تعاملهم بكثير من الصبر والحكمة والهدوء والأعصاب الباردة مع المؤسسة العسكرية اللاعب الرئيسي في السياسة التركية منذ تأسيس الجمهورية العلمانية ، ممّا جعلهم يكسبون النقاط بشكل مستمر ، على حساب تشددها ومحاولاتها المستميتة لإقصائهم والانقلاب عليهم وحلّ حزبهم ، فأفشلوا كل ذلك بمرونتهم السياسية ، مع سعيهم الحثيث وحرصهم الشديد على ضمان مؤسسة عسكرية قوية ومحترفة ونزيهة وخالية من كل مظاهر الفساد ، تقوم بدورها الدستوري البعيد عن التدخل السافر في الشؤون السياسية للبلد ، فخطوا بذلك خطوات مهمة وجبارة في تمدين النظام السياسي التركي بشكل كبير ، وغير قابل للرجوع إلى الوراء.
كذلك تظهر هذه المرونة ماثلة للعيان في التعامل مع القضية الكردية وهي قضية بالغة الحساسية لدى غالبية الرأي العام التركي ، ومعها كل الأقليات الموجودة عندهم .
أيضا تظهر الآثار الإيجابية لهذه المرونة في المواقف من القضايا الخارجية والفهم الجيد للخريطة السياسية الدولية والتوازن الفعال في علاقات تركيا الدولية ، الأمر الذي أكسبها حضورا أكبرا وأهمّا وأكثر تأثيرا في السياسة الدولية ، حتى أصبحت تركيا لاعبا أساسيا لا يمكن تغييبه عن المشهد الدولي ، بل يحسب له ألف حساب ، كما استطاعت الدبلوماسية التركية أن تقدم نفسها كوسيط مهم لحل الكثير من الأزمات والنزاعات الإقليمية والدولية ، خاصة بعد تولي الخبير الإستراتيجي أحمد داوود أوغلو دفتها ، والقاريء لكتابه العمق الإستراتيجي يدرك هذه المرونة والحكمة والذكاء وسعة الأفق.
ومكوّن المرونة السياسية هذا ، مرتبط ارتباطا وثيقا كذلك بالمكوّنين الذين سبقاه ، فلا يمكن أن تكون مرنا سياسيا وأنت عاري الظهر اقتصاديا وإعلاميا ، عندها يكون عنصر المرونة هذا عامل ضعف وإنزال سقف واستبساط من طرف المنافسين والخصوم والمتربصين ، أكثر منه قوة وحكمة وواقعية ، كما أن القوة الاقتصادية والمالية والتنموية والإعلامية تفتح مجالا واسعا وآفاقا رحبة للمرونة السياسية التي نتحدث عنها ، كي تبلغ الأهداف بسهولة ويسر وتحقق مبتغى أصحاب التجربة بشكل سلس وتفرض احترامها وقبولها وحتى هزيمتها ، للآخر المحايد أو المنافس أو المتربص.
فالكثير من الحركات الإسلامية السياسية على وجه التحديد ، تدرك أهمية عامل المرونة هذا ، بل ومارسته وتمارسه بشكل جيّد ومقبول في العديد من المحطات والمواقف ، لكن لمّا كان ويكون منبتا عن قوة مالية واقتصادية وإعلامية تعضده وتحميه وترعاه وتبرره وتسوّقه ، فإنها حتما لا يكون لها المردود المرجو والنتائج المتطلّع إليها من خلال تطبيقه.
في خلاصة الموضوع نقول أن معادلة نجاح التجربة التركية أو خلطتها السحرية كما عبّرنا عنها في هذا المقال ، تقوم على هذا الثالوث الرئيس ، الذي تتفرّع عنه كل العوامل الجزئية والتفصيلية الأخرى ، التي ساهمت مجتمعة في تحقيق كل هذا النجاح والتميز ، وما على الحركات الإسلامية المنبهرة والمعجبة بالتجربة ونتائجها وإنجازاتها ، إذا أرادت تمثلها والاستفادة منها ، أن تراهن على هذا الثالوث كذلك مجتمعا ، مهما كانت خصوصيتها وبيئتها وظروفها .
فمال واقتصاد قوي + إعلام محترف وقوي كذلك + مرونة سياسية مدروسة ومخطط لها = تجربة رائدة وناجحة ومتميّزة.