د. علي الحمادي
بقلم: د. علي الحمادي
يطالب بعضُ الناس الدعوةَ الإسلامية أن تتتبَّع جميع الشبهات، وأن تردَّ على كل واحدةٍ منها، حتى لا تبقى شبهة عليها.
وهذا الكلام كلامٌ جميل، ولكنه مثالي ونظري؛ ذلك لأن تتبُّعَ الشبهات والردَّ عليها أمرٌ يصعب على الإنسان لأمرين؛ هما:
1- أن أصحاب الحركة ما داموا يتحركون فلا بد أن يصدر عنهم الخطأ، وهذا أمرٌ يدل على الحركة والعيش في الواقع والصراع مع الباطل الذي يحيط بهم، وليس في ذلك منقصة إذا لم يصاحبه تعصُّب وإصرار، بل النقص أن يجلس الدعاة عن الحركة والصراع مع الباطل بحجة الحرص على عدم الانحراف عن دين الله، ولا يعلم المسكين أنه بجلوسه هذا يمثِّل عين الانحراف.
2- أن الذي يبحث عن الشبهات ويُقيم كيانه على أعراض الناس، ويقتات من لحومهم في الليل والنهار.. إنما يمثل دور الذباب في حياة البشر، الذي يحوم باحثًا عن القَيْح الناتج عن الأجزاء المريضة في الجسم التي هي من خواصِّ الجسد، وهذا الصنف من البشـر ما دام هذا همَّه فسيجد ما يقتات به حقيقةً أو افتعالاً (1).
لذلك يحسن بالداعية ألا يضطرب إذا وجد شبهةً أو تهمةً لم يردَّ عليها الدعاة ولم تلتفت إليها الدعوة الإسلامية؛ إذ ليس للدعوة الإسلامية الجادة الوقت لكي ترد على كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ، وليس لديها الجهد الفائض كي تفرِّغ الدعاة ليتتبَّعوا كل نَفَسٍ وكل همسة وُجِّهت إلى الحركة الإسلامية، ولكنه الاعتدال والتوسط.
وبمعنى آخر فإنه يحسن بالدعوة الإسلامية الردّ على ما يستحق أن يُرَدَّ عليه، والسكوت عما سوى ذلك، ثم تُفوِّض أمرها إلى الله الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، وتُوقن أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنه حافظُ دينِه وناصر أوليائه، وأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
وهناك أصول ثلاثة يمكن أن يتم الرد على الشبهات التي تُثَار حول الدعوة الإسلامية والدعاة بالاستناد إليها، وهي:
الأصل الأول: الاحتكام إلى الكتاب والسنة
فالأصل الذي يجب ألا يُحاد عنه هو الاحتكام إلى الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أمرنا بذلك، فقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى: من الآية 10)، ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ( النساء: 59).
فأمرنا الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم طاعة أولي الأمر؛ فإن وقع الاختلاف سواءٌ بيننا وبين ولي الأمر أو فيما بيننا فقط، فلا يكون الرد إلا لله ورسوله (2).
الإمام حسن البنا
ولهذا يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله في الأصل الثاني من الأصول العشرين التي يشرح بها ركن الفهم: "والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجعُ كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام، ويُفهَم القرآن طبقًا لقواعد اللغة العربية من غير تكلُّفٍ ولا تعسُّفٍ، ويُرجَع في فَهْم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات" (3).
الأصل الثاني: الاحتكام إلى فَهْم السلف ما لم يخالف الكتاب والسنة:
فكل إنسان يُؤخَذ من كلامه ويُردّ، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله في الأصل السادس من الأصول العشرين في رسالة التعاليم: "وكلُّ أحدٍ يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقًا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص فيما اختلفوا فيه بطعنٍ أو تجريحٍ، ونكلُهم إلى نياتهم، وقد أفضَوا إلى ما قدَّموا" (4).
وبهذا يقول الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله: "وعلى ذلك كل امرئ فيما عدا المعصوم يُؤخذ من قوله ويُردُّ؛ فيؤخذ من قوله ما قام البرهان على أنه حق، ويُردُّ من قوله ما لم يقُم عليه ذلك البرهان، ونحن حين نستشهد بأقوال السابقين من أئمة الفقه واللغة، لا يدور في خلدنا أن الواجب علينا اتباعهم في أي شيء قالوا، ولكننا نحتجُّ بفَهْمهم وهم أئمة الفقه والعاملون بمختلف أساليب الفقه" (5).
الأصل الثالث: الاجتهاد والنظر إلى الواقع:
حيث إن كثيرًا من الشبهات تحتاج إلى دراية وعلم بالواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم؛ فالظروف والأحوال تتغيَّر وتتبدَّل؛ لذا يحسن بالمسلم أن يعيش واقعه، كما ينبغي لأهل العلم والفقه والدعوة أن يجتهدوا في أمر دينهم ودعوتهم بعد سَبْر أغوار واقعهم؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟"، قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي لا أقصِّر في اجتهادي)، قال: فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم صدرَه وقال: "الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله" (رواه أحمد في مسنده 3/242، والبغوي وغيرهما).
لا تحسبوه شرًّا لكم
وبرغم أن الشبهات التي تُثار حول الدعاة والدعوات فيها إيذاء وضرر وفيها إساءة وعَنَت، إلا أن فيها خيرًا كثيرًا لا يعلمه إلا الله تعالى، كما قال تعالى في حادثة الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: الآية 11).
ورغم خطورة استخدام هذا الأسلوب (ترويج الشبهات) على الظالم المتهِم، ورغم سلبيات ومساوئ إثارة هذه الاتهامات على الدعوة والدعاة، إلا أن لها فوائدَ عدةً وعبرًا كثيرةً للفئة المظلومة المتهَمَة، وهي كما يلي:
1- هي طريق الأنبياء والرسل والصالحين.. لقول الله تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)) (الذاريات).
2- هي السبيل الموصِّلة إلى الجنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت النار بالشهوات، وحُفَّت الجنة بالمكاره" (رواه مسلم)، وإثارة التهم والشبهات من أصعب وأشقِّ المكاره التي يصبر عليها الدعاة ابتغاءَ مرضاة الله تعالى.
3- فيها تمحيص للصف المسلم؛ إذْ يتم بها التعرف على الصادق الثابت من الكاذب المتذبذب.
جزى الله الشدائد كل خيرٍ عرفتُ بها عدوِّي من صديقي
4- بها يتم التعرف على بعض العثرات والثغرات، فيتم سدها أو التخلص منها؛ فهي فرصةٌ ثمينةٌ لمراجعة الذات وإصلاح النفس.
5- تُوجِد نفسية التحدِّي، وترفع من درجة الحماس والحزم والجدية.
6- تُوحِّد صفَّ الفئة المظلومة المستهدفة، وتزيل الضغائن بين أفرادها، وتجعلهم صفًّا واحدًا أمام الظالم المعتدي.
7- هي سببٌ لحصول الدعاة المعتدى عليهم على الحسنات من قِبَل الذي يطعنون فيهم ويغتابونهم ويظلمونهم؛ وذلك مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟.. إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار" (رواه مسلم).
8- هي سببٌ لاكتشاف الطاقات والقدرات والمهارات وصقلها.
9- بها تُعرف الدعوة، ويذيع صيتها، ويعرفها الرأي العام، وتنتشر بين الناس، ويكثر أنصارها، ويبارك الله في دعائها.
إن الفَطِنَ هو الذي لا يكون همُّه الأول والأخير هو تبرئة نفسه والدفاع عن دعوته، ولكن الحكمة والعقل يقتضيان أن يتفحَّص هذه التهم؛ فما كان فيها من حقٍّ أخذ به وأصلح من نفسه وسدد خطاه، وما كان فيها من باطلٍ ردّه وحرص ألا يقع فيه، بل وجعل له خطوطًا دفاعية كثيرة حتى يبتعد عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
إن للمسلم، لا سيما الداعية، شأنًا كبيرًا مع النصيحة؛ فهو يسديها، وكذلك يطلبها ويتقبَّلها، ومن هذا المنطلق يمكن له أن يعتبر الشبهة أو التهمة نوعًا من النصيحة "غير المؤدبة"؛ يحرص على الاستفادة منها، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث قال: "رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي".
وعلى كل حال، فالشاهد من كلامنا هو أن هذه الشبهات رغم أنها شر، كما يبدو للناظر، إلا أنه ينبغي أن نستفيدَ منها لتتحوَّل إلى خيرٍ ثم نترك الأمر لله عز وجل ليستكمل لنا الخير كله؛ إذ إنه يعلم ما لا نعلم، ويقدر على ما لا نقدر.
-------
الحواشي:
1- جاسم مهلهل، للدعاة فقط، دار الدعوة، الكويت، 1988، ص 89- 90.
2- السابق، ص 90- 91.
3- حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، بيروت، 1984، ص 356.
4- السابق، ص 356.
5- جاسم مهلهل، للدعاة فقط، دار الدعوة، الكويت، 1988، ص 91 - 92.
---------
* رئيس مركز التفكير الإبداعي المشرف العام على (إسلام تايم).
بقلم: د. علي الحمادي
يطالب بعضُ الناس الدعوةَ الإسلامية أن تتتبَّع جميع الشبهات، وأن تردَّ على كل واحدةٍ منها، حتى لا تبقى شبهة عليها.
وهذا الكلام كلامٌ جميل، ولكنه مثالي ونظري؛ ذلك لأن تتبُّعَ الشبهات والردَّ عليها أمرٌ يصعب على الإنسان لأمرين؛ هما:
1- أن أصحاب الحركة ما داموا يتحركون فلا بد أن يصدر عنهم الخطأ، وهذا أمرٌ يدل على الحركة والعيش في الواقع والصراع مع الباطل الذي يحيط بهم، وليس في ذلك منقصة إذا لم يصاحبه تعصُّب وإصرار، بل النقص أن يجلس الدعاة عن الحركة والصراع مع الباطل بحجة الحرص على عدم الانحراف عن دين الله، ولا يعلم المسكين أنه بجلوسه هذا يمثِّل عين الانحراف.
2- أن الذي يبحث عن الشبهات ويُقيم كيانه على أعراض الناس، ويقتات من لحومهم في الليل والنهار.. إنما يمثل دور الذباب في حياة البشر، الذي يحوم باحثًا عن القَيْح الناتج عن الأجزاء المريضة في الجسم التي هي من خواصِّ الجسد، وهذا الصنف من البشـر ما دام هذا همَّه فسيجد ما يقتات به حقيقةً أو افتعالاً (1).
لذلك يحسن بالداعية ألا يضطرب إذا وجد شبهةً أو تهمةً لم يردَّ عليها الدعاة ولم تلتفت إليها الدعوة الإسلامية؛ إذ ليس للدعوة الإسلامية الجادة الوقت لكي ترد على كل صغيرةٍ أو كبيرةٍ، وليس لديها الجهد الفائض كي تفرِّغ الدعاة ليتتبَّعوا كل نَفَسٍ وكل همسة وُجِّهت إلى الحركة الإسلامية، ولكنه الاعتدال والتوسط.
وبمعنى آخر فإنه يحسن بالدعوة الإسلامية الردّ على ما يستحق أن يُرَدَّ عليه، والسكوت عما سوى ذلك، ثم تُفوِّض أمرها إلى الله الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، وتُوقن أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنه حافظُ دينِه وناصر أوليائه، وأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
وهناك أصول ثلاثة يمكن أن يتم الرد على الشبهات التي تُثَار حول الدعوة الإسلامية والدعاة بالاستناد إليها، وهي:
الأصل الأول: الاحتكام إلى الكتاب والسنة
فالأصل الذي يجب ألا يُحاد عنه هو الاحتكام إلى الله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أمرنا بذلك، فقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى: من الآية 10)، ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ( النساء: 59).
فأمرنا الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم طاعة أولي الأمر؛ فإن وقع الاختلاف سواءٌ بيننا وبين ولي الأمر أو فيما بيننا فقط، فلا يكون الرد إلا لله ورسوله (2).
الإمام حسن البنا
ولهذا يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله في الأصل الثاني من الأصول العشرين التي يشرح بها ركن الفهم: "والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجعُ كل مسلم في تعرُّف أحكام الإسلام، ويُفهَم القرآن طبقًا لقواعد اللغة العربية من غير تكلُّفٍ ولا تعسُّفٍ، ويُرجَع في فَهْم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات" (3).
الأصل الثاني: الاحتكام إلى فَهْم السلف ما لم يخالف الكتاب والسنة:
فكل إنسان يُؤخَذ من كلامه ويُردّ، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الأستاذ حسن البنا رحمه الله في الأصل السادس من الأصول العشرين في رسالة التعاليم: "وكلُّ أحدٍ يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقًا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص فيما اختلفوا فيه بطعنٍ أو تجريحٍ، ونكلُهم إلى نياتهم، وقد أفضَوا إلى ما قدَّموا" (4).
وبهذا يقول الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله: "وعلى ذلك كل امرئ فيما عدا المعصوم يُؤخذ من قوله ويُردُّ؛ فيؤخذ من قوله ما قام البرهان على أنه حق، ويُردُّ من قوله ما لم يقُم عليه ذلك البرهان، ونحن حين نستشهد بأقوال السابقين من أئمة الفقه واللغة، لا يدور في خلدنا أن الواجب علينا اتباعهم في أي شيء قالوا، ولكننا نحتجُّ بفَهْمهم وهم أئمة الفقه والعاملون بمختلف أساليب الفقه" (5).
الأصل الثالث: الاجتهاد والنظر إلى الواقع:
حيث إن كثيرًا من الشبهات تحتاج إلى دراية وعلم بالواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم؛ فالظروف والأحوال تتغيَّر وتتبدَّل؛ لذا يحسن بالمسلم أن يعيش واقعه، كما ينبغي لأهل العلم والفقه والدعوة أن يجتهدوا في أمر دينهم ودعوتهم بعد سَبْر أغوار واقعهم؛ فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟"، قال: أجتهد رأيي ولا آلو (أي لا أقصِّر في اجتهادي)، قال: فضرب الرسول صلى الله عليه وسلم صدرَه وقال: "الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله" (رواه أحمد في مسنده 3/242، والبغوي وغيرهما).
لا تحسبوه شرًّا لكم
وبرغم أن الشبهات التي تُثار حول الدعاة والدعوات فيها إيذاء وضرر وفيها إساءة وعَنَت، إلا أن فيها خيرًا كثيرًا لا يعلمه إلا الله تعالى، كما قال تعالى في حادثة الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: الآية 11).
ورغم خطورة استخدام هذا الأسلوب (ترويج الشبهات) على الظالم المتهِم، ورغم سلبيات ومساوئ إثارة هذه الاتهامات على الدعوة والدعاة، إلا أن لها فوائدَ عدةً وعبرًا كثيرةً للفئة المظلومة المتهَمَة، وهي كما يلي:
1- هي طريق الأنبياء والرسل والصالحين.. لقول الله تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)) (الذاريات).
2- هي السبيل الموصِّلة إلى الجنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت النار بالشهوات، وحُفَّت الجنة بالمكاره" (رواه مسلم)، وإثارة التهم والشبهات من أصعب وأشقِّ المكاره التي يصبر عليها الدعاة ابتغاءَ مرضاة الله تعالى.
3- فيها تمحيص للصف المسلم؛ إذْ يتم بها التعرف على الصادق الثابت من الكاذب المتذبذب.
جزى الله الشدائد كل خيرٍ عرفتُ بها عدوِّي من صديقي
4- بها يتم التعرف على بعض العثرات والثغرات، فيتم سدها أو التخلص منها؛ فهي فرصةٌ ثمينةٌ لمراجعة الذات وإصلاح النفس.
5- تُوجِد نفسية التحدِّي، وترفع من درجة الحماس والحزم والجدية.
6- تُوحِّد صفَّ الفئة المظلومة المستهدفة، وتزيل الضغائن بين أفرادها، وتجعلهم صفًّا واحدًا أمام الظالم المعتدي.
7- هي سببٌ لحصول الدعاة المعتدى عليهم على الحسنات من قِبَل الذي يطعنون فيهم ويغتابونهم ويظلمونهم؛ وذلك مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟.. إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار" (رواه مسلم).
8- هي سببٌ لاكتشاف الطاقات والقدرات والمهارات وصقلها.
9- بها تُعرف الدعوة، ويذيع صيتها، ويعرفها الرأي العام، وتنتشر بين الناس، ويكثر أنصارها، ويبارك الله في دعائها.
إن الفَطِنَ هو الذي لا يكون همُّه الأول والأخير هو تبرئة نفسه والدفاع عن دعوته، ولكن الحكمة والعقل يقتضيان أن يتفحَّص هذه التهم؛ فما كان فيها من حقٍّ أخذ به وأصلح من نفسه وسدد خطاه، وما كان فيها من باطلٍ ردّه وحرص ألا يقع فيه، بل وجعل له خطوطًا دفاعية كثيرة حتى يبتعد عنه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
إن للمسلم، لا سيما الداعية، شأنًا كبيرًا مع النصيحة؛ فهو يسديها، وكذلك يطلبها ويتقبَّلها، ومن هذا المنطلق يمكن له أن يعتبر الشبهة أو التهمة نوعًا من النصيحة "غير المؤدبة"؛ يحرص على الاستفادة منها، ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث قال: "رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي".
وعلى كل حال، فالشاهد من كلامنا هو أن هذه الشبهات رغم أنها شر، كما يبدو للناظر، إلا أنه ينبغي أن نستفيدَ منها لتتحوَّل إلى خيرٍ ثم نترك الأمر لله عز وجل ليستكمل لنا الخير كله؛ إذ إنه يعلم ما لا نعلم، ويقدر على ما لا نقدر.
-------
الحواشي:
1- جاسم مهلهل، للدعاة فقط، دار الدعوة، الكويت، 1988، ص 89- 90.
2- السابق، ص 90- 91.
3- حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، بيروت، 1984، ص 356.
4- السابق، ص 356.
5- جاسم مهلهل، للدعاة فقط، دار الدعوة، الكويت، 1988، ص 91 - 92.
---------
* رئيس مركز التفكير الإبداعي المشرف العام على (إسلام تايم).