الرسالة (1) من استراتيجيات الحركة الحيوية:
همس النبضات
هذه سلسلة من رسائل "استراتيجيات الحركة الحيوية": كان مقدرا لها أن تكون كتابًا واحدًا ضخمًا يقترب عدد صفحاته من الألفي صفحة، تظهر من خلاله الوحدة الموضوعية جلية، ويستطرد القارئ مع معانيه تباعًا، فيكون الفهم لها أوفر، ولكني رأيت هبوط مستوى صبر القراء عما كانوا عليه من قبل ونوع كسل يستشري يصد عن مطالعة المدونات الضخمة، ويولد زهدًا فيها، وهي ظاهرة سلبية اقترت بولعٍ شديد تجاه الانترنت والفضائيات الكثيرة الملهية، وأجبرتني على مجاراة الأحوال والواقع، وتقسيم كتلة البحث إلى أجزاء صغيرة، وعرضها من خلال رسائل متناسقة ذات منهجية واحدة، يسهل على شبابا الصحوة الإسلامية المعاصرة إدراك مراميها، وتكون الإحالة إلى مراجعها في نهاية كل رسالة، حتى إذا أتمت عرض جميع الكتلة البحثية: رجعت واستأنفت جمعها معًا في موسوعة مترابطة، مع إعمال يد التغيير فيها، والتقديم والتأخير، والمناقلة، والحذف والإضافة، لتكون متنًا واحدًا يشرح نظرية "حركة الحياة" في سياق منسجم يراعي دقائق المنهجية العلمية
الباب الاول: الحياة كلها منظومة جينية متكاملة
وحين اطلعت على المنظومة الجينية للإنسان، ولكل حيوان، وقصة الخلق العجيب، وتوالي الصفات التفصيلية محمولة على جينات خاصة عددها في حدود الثلاثين ألفًا، وخبر الهوية الخاصة بكل إنسان من خلال حمل حامض DNA لها: أدركت وجه التشابه بين المخلوقات، أو الإنسان الذي هو أرقاها، وبين الحياة كلها، والعوامل التي تحركها وتؤثر فيها وتجعلها تتجه إلى وجهاتها كل حقبة أو بضعة أجيال.
* ولتصوير وجه المقاربة والتشابه يلزمنا أن نتذكر أن اكتشاف المنظومة الجينية للإنسان كان عملاً ضخمًا جدًا، يوازي في حجمه وأهميته اكتشاف الدقائق الذرية وتطويعها للاستخدام الحيوي، ويوازي عملية النزول على سطح القمر وما تطلبه من عمليات جزئية كثيرة وحسابات علمية دقيقة تبدأ من اختراع الخوارزمي للصفر الرياضي قبل ألف سنة مرورًا بكل قوانين نيوتن وماكس بلانك وآينشتاين وحقائق فيزياء الكم، فالمنظومة الجينية إنما تيسر اكتشافها عبر منهجية أخرى ضخمة تطلبت جهود آلاف الباحثين، وأكفأ الكومبيوترات، ومليارات الدولارات، وتعاونًا دوليًا، وخلال ذلك تم التعامل مع مليارات المعلومات والرموز التحليلية وتنقيتها ورؤية وجوه التشابه والاختلاف بينها وطريقة تكرار بعض الصفات، وبعد جهد إحصائي واسع اتضحت الخارطة الجينية، ووضعت في الإنترنت، ليفهم منها أهل الاختصاص كيفية التعامل مع الصفات والأمراض، وكيفية التلاعب بها، وتوليد منظومات جزئية مستنبطة من المنظومة العامة، من أجل التحكم والسيطرة على الأجيال الجديدة.
وبعيدًا عن الوجوه الأخلاقية لهذه العمليات، واحتمالات الإساءة، التي لا تعني مبحثنا: نستطيع أن نزعم أن "منهجية اكتشاف قوانين الحركة الحيوية" هي صورة تكاد أن تكون طبق الأصل من منهجية اكتشاف المنظومة الجينية هذه.
* فالحياة العامة فيها أيضًا ما يصل ربما إلى ثلاثين ألف نوع من أنواع المؤثرات والحقائق والقوانين الجزئية والظواهر والمدلولات والصفات والعوامل والأرقام والأسس والمفاصل والمنطلقات ومساقات التوالي والتتابع، ونسقات الترتيب، أو مفارق التضاد والتنافر، وهذه المفردات موزعة على كل أنواع العلوم وأشكال التصرف البشري والعلاقات الكونية الخلقية، فبعضها مستنبط من حقائق الجدول الذري للعناصر ورياضيات الدقائق الذرية والتكوين الجزيئي العضوي، ومن طبيعة الأداء العضوي لجسم الإنسان والمخلوقات كلها، نزولاً إلى الجرثوم والفايروس والخلية، وعمل الأعصاب والدماغ أخفاها، لكنه أوضحها دلالة، ثم مرورًا بكل حياة المخلوقات والأكوان، وبقية مفاد علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب، ثم تتوسع دائرة المؤثرات من خلال مراقبة نوع التصرف الإنساني وطبائع وروده وتأثيره، في الحرب والسلم، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأرحب ما فيه: تسجيل ألوف الأحوال الجزئية لتصرفات النفس الإنسانية أثناء ترددها بين الخير والشر، ودرجاتها في ذلك، وظواهر سلوكها، وأخلاقها، وخوفها وجبنها، وقلقها ويقينها، وانفتاحها وانغلاقها، وطموحها ويأسها، ثم ما تترجم به أحوالها من رمزيات، ومعان، وحب، وعشق، واستعلاء، وعزة، ولأن الإنسان سجل تاريخه، فإنه صار من الممكن مراقبة هذه الأحوال كلها أثناء تكررها في الأجيال عبر ملايين القصص الواقعية.
ثم لأن الإنسان سجل آدابه وخلجات قلبه ومشاعره: صار من المتاح إحصاء تفصيلات كثيرة أخرى من مفردات الصورة الحيوية عبر هذه الآداب والكتب والأشعار. ولأن الفكر والافتراض الفلسفي كان له دور مماثل وأسلوب شبيه: تراكمت معرفتنا بتفاصيل أخرى، ولأن ظاهرة الخيال عامرة في الحياة: استطاع الإنسان تحوير مفاهيمه وانطباعاته وتأثراته إلى شكل مرئي مرسوم ومنحوت، فصار الفن ميدانًا رحبًا لاكتشاف تفاصيل أخرى، ومن خلال تجميع هذه المؤثرات الحيوية المفردة من ميادين العلم والآفاق المعرفية وتراكماتها التاريخية: أصبح الباحث يتوقع بلوغها الثلاثين ألف مفردة، ولأنها متكررة في التاريخ والمجتمعات المنوعة: صارت الكتلة المعلوماتية مليارية أيضًا، ويلزمها نخل وفرز وتمييز واصطفاء وإلغاء المكرر، لتكون النخبة الدلالية مجرد عشرات ألوف، مثل الثلاثين ألفًا التي نرجحها قياسًا على العوامل الإنسانية الجينية، وكأن الفراسة التي نملكها في معاني القدر الرباني تحملنا على اعتقاد رجحان ذلك، أو أن تكون أكثر أو أقل.
* ومنهجيتي التي فرضتها لنفسي: أن أمسح كل هذه العلوم والآداب والفنون والأفكار والتاريخ والتصرفات النفسية وملحقات هذه الآفاق المعرفية، لاكتشف مقداراً كبيرًا من هذه المفردات التأثيرية في الحياة، ومحاولة ترتيبها في أنساق ومعادلات، تقترب بي وبمن يطالع رصدي من معرفة قوانين الحركة الحيوية، ومن ثم كيفية السيطرة عليها وتوجيهها لإحداث تأثير يوافق مراد الله تعالى وعقيدة التوحيد وغاية عمران الأرض.
* وواضح أن مثل هذا الجهد لا يستطيعه فرد واحد، لا أنا ولا غيري، بسبب الأرقام المليارية للظواهر والفردات التي قلناها، ولأن عملية الفرز والاستخلاص معنوية لا يقدمها الكمبيوتر وإنما يجب أن تمر بالمنخل العقلي الإنساني، وهذا عمل مرهق لا تكفيه أعمال الباحثين المنفردين، ولكن نسدد ونقارب، ونجعل المهمة جماعية كما كانت قصة كشف المنظومة الجينية جماعية، فأنا من خلال رسائلي المتتالية في محاولة اكتشاف ظواهر الحركة الحيوية سأصل إلى اكتشاف جزء منها، واقتراح سياق انسيابي لحركتها من خلال معادلات وأنساق، وأكون قد قدحت الزناد، وأتيت بالأمثال، وضبطت وجهة البحث، ثم يتصدى عشرات الباحثين من مثقفي دعاة الإسلام ليُضيف كلٌ منهم كتلة أخرى من المفردات والتفاصيل والتقاسيم، حتى تستوي الكتلة الحاوية على عشرات ألوف المعلومات أقرب إلى التمام، فيأتي مبدع في الزمن اللاحق ليجمعها ويؤلف بينها ويوضحها في منظومة واحدة.
ذلك هو العمل في بناء شبكة أو هيكل المحركات الحيوية، وتلك هي منهجيتها.
الباب الثاني
واجب المبدع في تركيب المفردات
* والآن، بمثل هذا التصور: يمكنك جمع هذه الألوف من القواعد الصغيرة في تحريك الحياة، تستخرجها من الفصول المتكاملة لأطراف المعادلة الحيوية، وستجدها متفاوتة في أهميتها، متنوعة في آثارها.
فتصور نفسك جنرالاً في غرفة عمليات يحيط به عشرة من الضباط الأركان، وأمامك منضدة طويلة واسعة، وبيدك العصا تؤشر بها، فتأمر بترتيب القواعد وتقول: ضع هذه هنا، وتلك هناك، وما تزال تبدل وتقدم وتؤخر، وتفرد وتزاوج، وتصنع المنظومات، وتستدرك عليها بشروط، وتضع قِيمًا، حتى تستبين المسالك والمسارات وسلاسل الأداء، وتتضح خارطة لتحريك الحياة في قطرك تكون هي الخلفية الاستراتيجية لكل التعبويات المحتملة، وتبقى مرنة تستجيب للمفاجأة وضغوط الضرورة.
* فهذا النشر، والتوزيع، والتحكم، والترتيب، ومنح القيم النسبية، وتركيب الأجزاء، وبيان التوالي: هو السبيل الأمثل للاستفادة من حشد الموازين والقواعد المطلقة، السائبة، وهي صنعة تعود بالتالي إلى الذكاء والخبرة الفردية والقابلية الإبداعية، وتلك هي طبيعة الحياة، فإنها لا يمكنها مهما أفصحت عن قوانين حركتها أن تلغي الدور الذاتي للرائد الذي ينوي احتلالها، ولا يمكن لدوره الخاص أن يلغي ضرورة التشاور مع الأركان، فإنما الرأي قدحة، يبعث شررها احتكاك العقول والحوار، فتستفز التحديات الكوامن والأعماق، فتنطلق سيول الفوتونات والإلكترونات، ليجري التيار والشعاع، وتتجدد الحياة.
فافهم، وخذ عدستك المكبرة، وفتش عن الموازين والنسقات والتجريب، في عرصات الإيمان والقدر، وهضاب الفن والجمال، وآفاق العلم، ليومض لك التمكين.
شئت أم أبيت: أنت المكلف.
فكن المخير المطواع... قبل أن يقودك القدر إلى الجنة بالسلاسل...!!
"سلاسل" المحن والفتن والمعاناة، ذوات التعليم والتلقين والدروس... حتى تتوب من التبسيط والارتجال
الأنساق ترسم السياق
وطريقة أخرى: أن المعاني الجزئية إذا اكتملت لك، وأنت تريد تحريك الحياة لصالحك: تجعل نفسك مثل المفتي، حين اقترحت عليه في كتابي "أصول الإفتاء والاجتهاد" أن يكتب كل قاعدة فقهية في بطاقة، فإذا أراد حل معضلة: فرش أوراقها بين يديه، وظل يختار ويناقل ويقدم ويؤخر، تذكيرًا لنفسه، وترتيبًا لمنطق الإفتاء بها حتى يستقر على اختيارٍ وسياقٍ يدلي به. فكذلك الذي يبغي "تحريك الحياة": يدون عناوين أفكار الصور الجزئية والنبضات الحركية والأحال النفسية والأبعاد الجمالية ومنظومات المنطق والفلسفة والحرب والسلام وآثار المال وزوايا الهندسة ونغمات اللغة وأشواق الحرية ونسمات الحب وهزات الإبداع، وينثرها كلها أمامه، ثم يشرع يتأمل ويقايس يونتقي، ويقدم ويؤخر، كأنه لاعب قمار عنده خمسات وستات، وملكٌ وهازل، وللمؤمن المثل الأعلى، ويبقى يكرر ويبني الأنساق حتى يستقيم له سياق المعادلة التي تخدم نهضته وعزمته ويرسم خارطة تأثيره..
ولمتحمسٍ أن يستطرد ويذهب إلى أبعد، فيأمل أن تلبي هذه الرؤى في كيفية انسياب الحركة الحيوية إلى تسهيل صياغة "مشروع حضاري إسلامي شامل" و"خطة استراتيجية بعيدة المدى"، وليس مجرد خطة قطرية أو خطة مرحلية أو استراتيجية قصيرة المدى، لأن المحركات المرصودة هي نفسها التي تتطلبها الرؤية البعيدة، والمرجع التحليلي واحد، ومنطق التعليل متماثل، بل كأن السكينة الإيمانية تمنح الداعية تفوقًا وترجيحًا على غيره من المتأملين في الميدان التخطيطي.
التميز و"السوبرية" والتفوق على المستوى العادي
وأول ما نوصي به المؤمن في هذا المجال: أن يسعى إلى تجميل وتكميل علومه الشرعية والأصداءالإيمانية في قلبه: بالثقافة المعرفية العامة، والإطلاع العلمي، فمن الملاحظات المهمة في رصد المؤثرات الحيوية: أن جوانب الاعتدال والوسطية، والذوقيات، وإرهاف الحِس، ورِقة الشعور، وهدوء النفس: كلها تتأثر إيجابيًا وتتصاعد طرديًا مع إتقان الشخص للعلوم والرياضيات، ومع تطور نظرته الفنية، وكثافة سماعه للكلام الأدبي والشعر واللغة البليغة، وهذا التأثير هو الذي حمل فيثاغورس منذ القديم على المبالغة وجعلته يزعم (إن تطهير النفس ممكن من طريق معرفة الحساب والهندسة والموسيقى).
* وذلك وهم منه، فإن النفس لا يطهرها غير إيمان بالله وطاعة له، ومضاء عزم على ملازمة الأخلاق، ولكنه أحس بشيء من آثار الرياضيات في النفس فتوسع، وهذا مقدار تكميلي لا أصلي، وزينة وتحسين لا أساس، وكذلك الفن التشكيلي الآداب وكل المعارف والعلوم، وإذا أرجعنا ملاحظته إلى مقدارها الصحيح فإنها تكون ملاحظة تربوية، وشاهدًا لإبداع، وآلية يوصى بها لإتقان صنعة التفوق والقيادة، وطريقًا مؤكدًا لحيازة مستوى الرجحان والامتياز الذي هو عامل الحسم عند التنافس الحيوي في كل أشكاله، وذلك قريب من معنى "السوبر" Super في الثقافة الغربية، وأغرب ما هنالك أن فيثاغورس مات في حدود سنة خمسمائة قبل الميلاد، وعرف ذلك وإن بالغ، ولكن أناسًا بعد ألفي سنة من الميلاد يحتاجون إلى واعظ يذكرهم به.
* وكان تاريخ روما تاريخ جبروت، وهو مأسور إلى أعمال قياصرة يستبدون، حتى أحرق نيرون بلدته، فذهب خبرها الفكري مع الريح، ولكن بقيت حية حتى الآن لمعات فكر "سقراط" التي انطلقت في أثينا وأهداها إلى جملة الحياة، ولئن كان أرسطو تلميذه قد جنح إلى إلحاد، وتنهانا متاهته أن نعتد بها، أو أن نري من أنفسنا فخرًا بها، فإن أستاذه سقراط كان على عقيدة التوحيد، أو مقاربًا لها في قول من يحتاط، مما يجعل الفخر بلمعات فكره حلالاً يسوغ لنا في آخر الزمان الانتساب إليه وإلى بطولته في تجرع السم تثبيتًا لمعنى الحرية واستعلاء الفكر كمثل فخرنا بأي حنيفي من العرب كان يتحدى الأوثان ويمد سند التوحيد بالاتصال والحياة، والجميع في خبر تشكيل معنى حركة الحياة مساهم ومشارك
وللفن دور تكميلي مؤكد... وللجمال.
ووظيفة "نظرية حركة الحياة": أن توقف المسلم العصري على جذور مكونات الصور الجزئية للحياة، وعلى أصول النبضات المتعاضدة التي تتكون من اجتماعها الحركات الحيوية، فمن يملك هذه وهذه: يؤذن له أن يكتشف المعادلات التي يتم التغيير بموجبها، بحيث يكون الغوص إلى العلل ومصادر الحرارة، لا الاكتفاء برؤية الغليان الظاهر فقط.
ويسهل على المسلم الواعي تصور هذه الجذور والأصول حيث تكون شرعية ومعرفية وفكرية وسياسية، بل وحتى أن تكون نفسية وعلمية، ولكنه يزهد بالأصول الفنية، ويستشكل أمرها، ولذلك يلزمه أن يستوعب تكامل التأثير في الحركة الحيوية عبر الفن والذوقيات والتشكيل والهندسيات.
* ومحور هذه القناعة أننا نعيش ضمن الحياة العامة، لا خوارج عنها، وأن هذه الحياة إنما نشارك في صناعة جزء منها، لا كلها، وإنما يصنع أكثرها غيرنا، وبعضها تراكم قديم أجيال مضت وأمم سلفت، وهؤلاء تناوشوا الفن والجماليات وجعلوهما مادة في بناء الحياة، ومن غير الممكن أن نخالف ونكون صلابا في موطن رفق، ويبوسا في أرض ندية، ونشازًا في سياق انسجام، وفوضى في حافة كتلة انتظام، بل نتجمل إذ نحن نتأمل، وننسق إذ ننطلق، ونستخدم درجات الألوان وأصداء اللمعان، فإنها فكر مكمل، وعمل عقلي منطقي، وسبب سواء نفسي معنوي، ومن خلال انسياب حركة النقطة في الفراغ نستطيع تكوين المفهوم الواعظ، ورواية التجربة، والجدل بالحسنى، والحوار المتكافئ مع إنسان لا يفهم لغتي وحروفي، فإن "التجريد" جسر بين القلوب، يعبر البحار، ليؤسس بشرى، أو يصدع بنذار.
* ومن طرائق اكتشاف "المحرك" من محركات الحياة، والذي هو "جزء من الخطة": أن نجمع بين مدلولات صغيرة ونوفق بينها، بعضها شرعي، وبعضها إيماني قدري، وبعضها نفسي، ونخلطها بشيء من المنطق والرؤية الفلسفية لتأكيدها، فتتولد "طريقة" و"معادلة" أو "جزء خطة". لكن هذه القاعدة المتولدة يمكن أن تتحسن كثيرًا بروافد من نوافل التحريك، مثل مقياس جمالي تزيده إليها، وإخراج إبداعي، وصنعة لغوية بلاغية، وتضيف إلى الجميع لمسة من عواطف الحب: فتتجود "المعادلة" جدًا، وتصير أنفذ وأسرع تأثيراً، وذلك هو سر وحكمة احتواء مدونة حركة الحياة لفصول الفن والجمال.
أثر الصنعة القيادية في تسيير الموجود
والمساير لي في تأمل حركة الحياة عبر مسردي الذي سأدلي فيه بخبرها، والذي ينصت لي بإتقان: تجبهه خاطرة تميل به إلى أن هذا الاستعراض للصور والنبضات الحركية مغرق في "التبسيط" وأن حزمة الحياة بالغة التعقيد ويلزم لفهمها أو للتأثير فيها استحضار واستعمال مختبرات كل العلوم قاطبة، مع حشود من الأموال والذكاء وكميات كبرى من الفكر والأدب والفنون، وبخاصة إذا راقبنا انتفاضتها الكبرى، مثل الحروب العالمية، وخطط العولمة، واستعمالات الطاقة، وتداول المال.
* وذلك صحيح، وما يكون لأحد أن يخرق تراكمات التاريخ الطويل وثقلها في صياغة الحاضر والمستقبل، ولكن ما نقترفه من شهادة على منظر الحركة الحيوية نريد به تلقين من يريد التأثير فيها المسارب والقنوات التي يحتمل أن يجري فيها سعيه، والأسس التي أحدثها غيره سابقًا وتصلح أن يقيم عليها بناءه، ثم وصف البيئة الحاضنة، ومقادير العلاقات المتاحة له في ذلك وموازينها ومعايير تصنيفها، والأنماط الممكنة من السيطرة الفوقية على خصائص النفس المودعة لدى من يتعامل معهم، من جندي مساعد، ومنافس مزاحم، وعدو ناحت، وأن ننبهه إلى القابلية القيادية في استثمار طاقات جاهزة عبر فذلكات السيطرة، وطرائق الإبداع، وروح الطموح والتحرش، والإصرار على السبق، ومعنى كل هذا أن الذي يريد تحريك الحياة ليس يقع عليه عبء بناء القوى العسكرية والاقتصادية والعلمية، ولا آلالتها وتراكماتها، بل هي موجودة، وإنما له فرصة أن يمسك بتلابيبها ويعلوها عبر عملية قيادية تبدأ بفكر، وتمر بتخطيط، إذا عرف النفس، وقدح العقل.
والأمر أشبه أن يسيرعلى سنن الوسطية، فإن "محرك الحياة" تلزمه حيازة علوم، وأموال، وأدوات مادية، ولكن بمقدار، والباقي يرثه عن غريمه، أو يشتريه، أو يحتال لحيازته، أو يهديه الحليف له.
* والمحاولة كلها مبنية على التفكر ودقة الملاحظة والتفرس فيما حولنا من صور الحياة وحركات النفوس ومغامرات العقول، على طريقة الشاعر الذي يقول:
فانظر وفكّر فيما تمرّ بهِ****إنّ الأريبَ المفكّرُ الفطِنُ
فهي رصدٌ ذكي للساحة الحاضرة، وللتاريخ، والأحداث، والعلوم، واقتحام لدواخل الذوات والأرواح ومكامن القناعات، وتفنن في السعي لحيازة ما يملكه الغير وينقصنا.
وانظر مصداقًا لذلك: الانتفاضة الفلسطينية، وآلتها الصغيرة لما حملتها القلوب الكبيرة، كيف فرضت نفسها.
وانظر الجهاد العراقي وسلاحه المتواضع مقابل سلاح الجبروت، ثم التفت إلى مصالح الصين كيف تحدوها إلى محالفة المسلم؟؟
التلازم بين قيمة الروح وقيمة المادة
وهذه الأحاديث تؤكد أهمية الجانب غير المادي في تحريك الحياة، فالفكر، وتطلعات الروح، وتصرفات النفس: هي الأمضى الأشد تأثيرًا، وتكاد النزعة الفلسفية التأملية إذا اقترنت بالإيمان والتوحيد أن تكون هي التي تقود الحياة، و"المسلم الحضاري المدى" من شأنه أن يذهب هذا المذهب، وأن يزداد معرفة بآفاق "الروح" لتذل له "المادة".
* وكان كاتب اسمه "موسى عجمي" كأنه من لبنان قد سبقني إلى فكرة ضرورة دراسة "حركة الحياة"، فألف كتابًا موجزًا صرخ فيه صرخة تبشر بالمعنى، دون أن يدخل في تفصيل، فكان الرائد، وأشار إلى أصول أحاسيسه، من منطلق علماني، دون أن يورد الشواهد والقصص والمناظير الحيوية الجزئية، فالتقيت مع أفكاره وإبداعه في النظرة الشمولية، وافترقت عنه فيما رواء ذلك، وتجاوزت بعض غموض اعتراه.
ومما لاحظه موسى عجمي أن (الروح هي الحياة بالتسمية الثانية، وهي النفس التي تلتزم الفاعلية والقوة والتحريك.) وأنها (تلك الطاقة المتحركة من تلقاء ذاتها، واحدة في الكون، مجزأة في الأشكال والمظاهر التي تختلف وتتنوع باختلاف بذرتها الذرية).
* وهذا كلام جيد في ظاهره، لولا إنه يقترب من شبهة، فإن الروح عند المؤمن إنما هي هبة من الله، وهو خالقها وموجدها، وكونها مجزأة في الأشكال أمر صحيح إذا اعتبرناها جنسًا، فجنس الروح متماثل في أنه تحريك، لكن أرواح الموجودات تختلف، فليست الحركة القدرية للذرة كمثل الحركة العقلية للإنسان، وإنما في العمل العقلي الإنساني تكريم من الله زائد على حركة الجماد، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم.
* ويستطرد موسى عجمي فيستنتج أنه (كأن غاية المادة صيانة فقط والمحافظة عليها، وتسهيل حركتها لمزاولة عملها الخاص) و(أن الروح والمادة قيمتان متلازمتان لا تستطيع الواحدة أن تحيا من دون الأخرى، ولا أن تتخلى عنها ولا أن تكون منفصلة أو منعزلة عن سبيلها.
فالأولى طاقة فاعلة، وحركة عاملة، وقوة دافعة، ومسؤولة عن كل تحويل وتغيير وتطوير وتبديل، وتتمتع بأولوية الوجود، وأسبقية التكوين، وعلو الهمة والأهمية.
والثانية غلاف لا محيد عن وجوده، ومظهر تأكيدي للروح، وطريق معدّة لنظام الحركة، وحصيلة تكاثرية وازديادية تتجلى لتجعل الكون صورة حقيقية وواقعية، والحياة عالمًا قابلاً للعيش والسكنى).
* وهذا كلام جميل، وتخريج جيد يمنحنا توازنًا في فهم العلاقة، إلا أن العقيدة الإسلامية صريحة في أن الإنسان يخلق أولاً مادة، ثم تنفخ فيه الروح في الشهر الرابع، وبذلك يكون من الخطأ القول بأنها (تتمتع بأولوية الوجود)، إلا أن يكون المعنى مجازيًا، وأنها إشارة إلى الطاقة التي في الذرة والجزيئة، وهذه الطاقة لا تسمى روحًا إلا على طريقةٍ فلسفيةٍ فقط، والعقيدة تأبى ذلك، وهذا مثال لما أسلفت من أن موسى عجمي تحيطه سلبية الغموض، وكأنه يعتمد الثقافة ولم يشتغل بفقه الشرع ولا هو مأسور لنصوص العقيدة.
مواكبة النبض الحيوي تقود نحو الحرية
ولسنا نحتاج عند تداول هذه المعاني غير نقلة بسيطة لنكون وجهًا لوجه مع دروس مستنبطة من مقارنة اختلاف البيئات في التأثير على نوع التصرف، واكتشاف وجود عامل مشترك بين المخلوقات يحدوها إلى تصرفات متماثلة رغم اختلاف رتبها، وهذه الملاحظات هي جانب من استثمار منهجية رصد الصور الحيوية واستلال الموعظة والدروس التجريبية منها.
* فهذا "السمك" في البحر مثلاً: صارت له خصوصية يخالف بها حيوان البر، فوقف "أبو نخيلة" في القديم متعجبًا، يرقبه، ويعيب عليه رضاه بالدون، واستئساره لقدره السيئ، وقله تفتيشه عن مهرب من المخاطر، وضعف أشواقه إلى الحرية، فطفق يصفه...
[align=center]تَغُمّهُ النُشرة والنسيمُ
ولا يزال مُغرَقًا يعومُ
في البحر، والبحرُ له تخميمُ
وأُمه الواحدة الرؤومُ
تَلهَمُه جهلاً، ولا يرومُ[/align]
والنشرة: الريح الطيبة، وهي مذكورة في قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته}.
يقول (النشرة والنسيم الذي يُحيي الحيوان إذا طال عليه الخموم والعفن والرطوبات: تغم السمك وتكربه، وأمه التي ولدته: تأكله، لأن السمك يأكل بعضه بعضًا، وهو في ذلك لا يريم موضعه).أي لا يسعى لتغيير موضعه.
والمستضعفون الذين لم يفهموا علم "حركة الحياة" ما يزالون في ضيق حصار تراكم الظلم الاجتماعي، وحيتان الإدارة الرزق تأكلهم، وصعاليك الإعلام تخونهم، وقادة العساكر تلهمهم، وهو ما زالوا يرتضون البقاء في العفونة والرطوبة، ونسيم الحرية منهم قريب لو أرادوا فتحه بقوانين حركة الحياة، لكنهم القعدة الكسالى.
والمدرب الإبداعي، "ومعلم حركة الحياة" هو "أبو نخيلة" معاصر، يسأل:
أأنتم سَمَك... يسجنكم البحر!!..؟
* ثم لا جواب..!!
لأنها تكون المتاهة أحيانًا، وتشمل معظم القوم.
كالتي أدركها الأعشى فقال:
ألا مَن مُبلِغُ الفتيان أنّا في هَواهيِّ
وإمساءٍ وإصباحٍ وأمرٍ غَيرِ مَقضيِّ
والهواهي: الباطيل.
فمن الذي يبلغ رجال مراكز الدراسات الإبداعية والتطويرية أن الجيل المعاصر في "هواهي" كأنهم لا زالوا جيل الأعشى، وأن أمورهم ليس لها حل، وهي غير مقضية، لنقص التخطيط، وغياب المنهجية، وضعف الرنو إلى الحرية، وقلة فهم منزلة "الروح"، والذهول عن المعادلات الاستراتيجية الموجهة لمسيرة الحركة الحيوية؟؟
وهذا هو الذي جعل نظرية حركة الحياة عزيزة عندي، أحرص أن اعرضها على كل مسلم عصري إبداعي: "أعدِلُها بالكف أن تميلا، أحذر أن تسقط أو تزولا"، أبتغي بها إحداث نقلةٍ في فهمهم لتداول مراكز التأثير في الحيا
الواجب الصعب... الممكن
وما هو بأمر سهل... لكنه ليس يرهبنا..
وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ملحظ النقلة الكبيرة في حجم المؤثرات الحيوية في العصر الحديث، والتي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر، ثم أكبر منها في القرن العشرين، أي أن عامل (السعة) صار متغيرًا كبيرًا في المعادلة.
* انظر مثلاً: المؤثرات الفكرية والنفسية التي يضخها الأدب في الحياة، ففي القرن التاسع عشر (لمعت في سماء الأدب كوكبة لم يجتمع مثلها قط في قرن واحد من قبل، ومن نجوم هذه الكوكبة: غوته وشيلي، ويايرون، وتولستوي، وإبسن، وبودلير، وديكنز، واوسكاروايلد، وبلزاك، وفلوبير، وتشيكوف، وهوغو، وغيرهم). وهذا في الغرب فقط، وواضح أن حيازة الغرب لعوامل التفوق على الأمم الأخرى، كالقوة العسكرية، والنهضة الصناعية والعلمية، والمنهجية الإدارية: جعلت هذا الأدب يؤثر في العالم كله، ووجد له سبيل تأثير في أمم أخرى كثيرة، فتبدلت معادلات الحياة، وحدثت تلك التأثيرات مستفيدة من عامل "السبق" الذي سبق الغرب به الأمم إلى العالم وكانت الصناعة والأسلحة، فالاستعمار، فالثراء وتجميل ثروات الأمم، كسلسلة مطردة، وبقيت تتنامى حتى صارت العولمة في آخر القرن العشرين كنتيجة للتفوق الغربي بعامة، والأمريكي بخاصة.
* والمسلم الذي يريد "تحريك الحياة" لا أزعم أنه يستطيع القفز مباشرة إلى التحدي المباشر، ولكنه يستطيع بدء المسيرة في درب طويل ينتهي إلى التفوق مستفيدًا من ظاهرة في الحياة مفادها "التداول" وعدم استمرار قوة القوي، وعندئذ يكون إنتاج فكر إيماني وأدب إسلامي بكثافة هو خطوة في الطريق الصحيح كما كان إنتاج تلك الكوكبة الغربية في القرن التاسع عشر خطوة، وكذا العلم، وحيازة المال، وترسيخ المنهجية.
إن المحركات الحيوية اليوم انتقلت من كونها صغائر إلى كبائر، فهي ضخمة الحجم، شديدة الوطأة، ثقيلة الجثمة.
فانتبه كيف أن السلاح صار ذريًا.
والحظ كيف أن الفجوة العلمية بين الطرفين صارت واسعة.
وافغر فمك لأرقام عظيمة تبّين فارق حجم المال وحقائق البنوك.
وحروب المياه المستقبلية، ومقايضة الماء بالنفط.
وآخرها "عولمة حرق الإبداع" كما سماها نبيل سليمان.
وفي نصيحة أديب إنكليزي له دعاه إلى أن يفكر في: كيف يتملص الأدب من حرب ثقافية تحركها ديانة بوش؟
وأين يسيح الفن إذ تضايقه رؤى اليمين المتطرف؟
وأين هي مساحة اشتغال أبقاها لنا فساد وطغيان يعمل تحت غطاء الديمقراطية وتأييد الغرب؟
وحقيقة أن لا تناسب بين ثقافة الغرب وممارسته والهدم الكامن في تنازل اليونسكو عن حقولها لمنظمة التجارة العالمية.
وهذه مصائب كبيرة، لكنها عند الفرد النائي النكر الخائف الوجل.
أما العنصر "الدعوي" فإنه لا يجزع، بل يأمل ويرجو أن يصد الهجمة ولو بدفع ثمن غال.
* أولاً: بالعمل المماثل، والحرص على الجهاد والنفوذ السياسي، ليصلح، ويدافع، فيظل يدأب ويفتش عن "محركات الحياة" ليستعملها، ويتخذ خطط تجميع وتنظيم وتطوير ومنافسة، وتلزمها أعمال مؤسسية كثيرة، ومؤتمرات، وندوات، ومطبوعات، وإعلام، وما كل ذلك سهل، لكنه ليس بمستحيل، ويمر بلبث وراء قضبان، ودماء، ويقوده أديب ومؤرخ وفقيه وسياسي وفنان.
* وثانيًا: بانتظار القدر بعد تقديم لتك الأسباب انتظاراً إيجابيًا، فإنه حق، والله يعاقب الدول والظلم الجماعي كمثل معاقبته الأفراد، وليس من شرط ذلك أن تنزل حجارة من السماء عليها، ولكن يضلهم فينتخبون المصلحي السارق، والأحمق والطائش، فيردي قومه، وتتخبط سياسته، فتكون الثغرات التي يلج منها الضعيف.
والمراقب لقصة احتلال العراق يجد شيئًا من ذلك، ويعثر على مصداق الكلام، وكيف أن جهاد المستضعفين آذى أعتى قوة يقودها مغامر مأسور إلى أوهام معركة "الهرمجدون".
ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يختلط ظلم العولمة بظلم عميل محلي يتستر على نزيف يسببه الفساد الإداري ويلجأ إلى ضرائب مرهقة للمواطن، إذ المفسِد يرتع.
وردود الفعل عند المحكوم تجاه الظلم المالي من الحاكم: هي دومًا من أعنف محركات الحياة، وربما تقود لتمرّد وثورة، أو برود العلاقة بين الطرفين، فيكون التأخر المدني.
ويحسبها الطارئ على علم تحليل حركة الحياة ظاهرة حديثة، لكنها قديمة، وفي مثلها قال حني بين جابر التغلبي:
أفي كُل أسواقِ العِراقِ إتاوَةُ
وفي كلّ ما باع امرؤُ: مَكْسُ دِرْهَمِ؟
ألا يَنتهي عنا ملوكُ، وتتقي
مَحارمَنا، لا يَبُؤ الدمُ بالدمِ؟
نُعاطي الملوكَ السِلْمَ، ما قصدوا بنا
وليس علينا قَتْلُهُم بمُحَرَّمِ!!
فهو هنا يصرح بأمر كبير، وهو الدم، أي الثورة التي تجلب الدماء، ثم هو هنا يقوم بتذكير الملوك أن الرعية تكون على طرائق سليمة إذا كانت سياسة الملوك: القصد: أي الرفق وعدم التطرف.
فهذا أدب سياسي صريح قديم يكشف عن صفحة من قوانين حركة الحياة.
و(الإتاوة: الخراج. والمكس: ما يأخذه العشار. يقول: كل من باع شيئًا أخذ منه الخراج أو العشر، وهذا مما آنف منه).
فالأنفة: حالة نفسية مغروسة في الأعماق تقود إلى العصيان، والعصيان في بعض الأحيان ينجح في تبديل الحاكم، فتتحرك الحياة، وأصل ذلك: ظلم مالي، ولو كانت الضريبة لبناء ومصالح عامة فإن أحدًا لا ينكرها، ويعطيها المواطن عن طيب نفس ورضا، لكنه الفساد الإداري واستمتاع الحاشية بأموال المستضعفين تجعل الأمر مكروهًا، فتكون التبدلات، أو الحيصات الفاشلة، لمكانة قوة الحاكم، فيزداد البون الفارق، فتكون الهزة النافضة الخافضة الرافعة.
* وفي القصص الرمزية، أن بومة خطبت، فاشترطت على خاطبها مائة قرية خبة تنتقي من أطلالها ما تشاء مسكنًا لها، فقال لها الخاطب: انتظري سنة، فإني أرى ملكنا مولعًا بكثرة الضرائب وإرهاق الناس.
همس النبضات
هذه سلسلة من رسائل "استراتيجيات الحركة الحيوية": كان مقدرا لها أن تكون كتابًا واحدًا ضخمًا يقترب عدد صفحاته من الألفي صفحة، تظهر من خلاله الوحدة الموضوعية جلية، ويستطرد القارئ مع معانيه تباعًا، فيكون الفهم لها أوفر، ولكني رأيت هبوط مستوى صبر القراء عما كانوا عليه من قبل ونوع كسل يستشري يصد عن مطالعة المدونات الضخمة، ويولد زهدًا فيها، وهي ظاهرة سلبية اقترت بولعٍ شديد تجاه الانترنت والفضائيات الكثيرة الملهية، وأجبرتني على مجاراة الأحوال والواقع، وتقسيم كتلة البحث إلى أجزاء صغيرة، وعرضها من خلال رسائل متناسقة ذات منهجية واحدة، يسهل على شبابا الصحوة الإسلامية المعاصرة إدراك مراميها، وتكون الإحالة إلى مراجعها في نهاية كل رسالة، حتى إذا أتمت عرض جميع الكتلة البحثية: رجعت واستأنفت جمعها معًا في موسوعة مترابطة، مع إعمال يد التغيير فيها، والتقديم والتأخير، والمناقلة، والحذف والإضافة، لتكون متنًا واحدًا يشرح نظرية "حركة الحياة" في سياق منسجم يراعي دقائق المنهجية العلمية
الباب الاول: الحياة كلها منظومة جينية متكاملة
وحين اطلعت على المنظومة الجينية للإنسان، ولكل حيوان، وقصة الخلق العجيب، وتوالي الصفات التفصيلية محمولة على جينات خاصة عددها في حدود الثلاثين ألفًا، وخبر الهوية الخاصة بكل إنسان من خلال حمل حامض DNA لها: أدركت وجه التشابه بين المخلوقات، أو الإنسان الذي هو أرقاها، وبين الحياة كلها، والعوامل التي تحركها وتؤثر فيها وتجعلها تتجه إلى وجهاتها كل حقبة أو بضعة أجيال.
* ولتصوير وجه المقاربة والتشابه يلزمنا أن نتذكر أن اكتشاف المنظومة الجينية للإنسان كان عملاً ضخمًا جدًا، يوازي في حجمه وأهميته اكتشاف الدقائق الذرية وتطويعها للاستخدام الحيوي، ويوازي عملية النزول على سطح القمر وما تطلبه من عمليات جزئية كثيرة وحسابات علمية دقيقة تبدأ من اختراع الخوارزمي للصفر الرياضي قبل ألف سنة مرورًا بكل قوانين نيوتن وماكس بلانك وآينشتاين وحقائق فيزياء الكم، فالمنظومة الجينية إنما تيسر اكتشافها عبر منهجية أخرى ضخمة تطلبت جهود آلاف الباحثين، وأكفأ الكومبيوترات، ومليارات الدولارات، وتعاونًا دوليًا، وخلال ذلك تم التعامل مع مليارات المعلومات والرموز التحليلية وتنقيتها ورؤية وجوه التشابه والاختلاف بينها وطريقة تكرار بعض الصفات، وبعد جهد إحصائي واسع اتضحت الخارطة الجينية، ووضعت في الإنترنت، ليفهم منها أهل الاختصاص كيفية التعامل مع الصفات والأمراض، وكيفية التلاعب بها، وتوليد منظومات جزئية مستنبطة من المنظومة العامة، من أجل التحكم والسيطرة على الأجيال الجديدة.
وبعيدًا عن الوجوه الأخلاقية لهذه العمليات، واحتمالات الإساءة، التي لا تعني مبحثنا: نستطيع أن نزعم أن "منهجية اكتشاف قوانين الحركة الحيوية" هي صورة تكاد أن تكون طبق الأصل من منهجية اكتشاف المنظومة الجينية هذه.
* فالحياة العامة فيها أيضًا ما يصل ربما إلى ثلاثين ألف نوع من أنواع المؤثرات والحقائق والقوانين الجزئية والظواهر والمدلولات والصفات والعوامل والأرقام والأسس والمفاصل والمنطلقات ومساقات التوالي والتتابع، ونسقات الترتيب، أو مفارق التضاد والتنافر، وهذه المفردات موزعة على كل أنواع العلوم وأشكال التصرف البشري والعلاقات الكونية الخلقية، فبعضها مستنبط من حقائق الجدول الذري للعناصر ورياضيات الدقائق الذرية والتكوين الجزيئي العضوي، ومن طبيعة الأداء العضوي لجسم الإنسان والمخلوقات كلها، نزولاً إلى الجرثوم والفايروس والخلية، وعمل الأعصاب والدماغ أخفاها، لكنه أوضحها دلالة، ثم مرورًا بكل حياة المخلوقات والأكوان، وبقية مفاد علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب، ثم تتوسع دائرة المؤثرات من خلال مراقبة نوع التصرف الإنساني وطبائع وروده وتأثيره، في الحرب والسلم، والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأرحب ما فيه: تسجيل ألوف الأحوال الجزئية لتصرفات النفس الإنسانية أثناء ترددها بين الخير والشر، ودرجاتها في ذلك، وظواهر سلوكها، وأخلاقها، وخوفها وجبنها، وقلقها ويقينها، وانفتاحها وانغلاقها، وطموحها ويأسها، ثم ما تترجم به أحوالها من رمزيات، ومعان، وحب، وعشق، واستعلاء، وعزة، ولأن الإنسان سجل تاريخه، فإنه صار من الممكن مراقبة هذه الأحوال كلها أثناء تكررها في الأجيال عبر ملايين القصص الواقعية.
ثم لأن الإنسان سجل آدابه وخلجات قلبه ومشاعره: صار من المتاح إحصاء تفصيلات كثيرة أخرى من مفردات الصورة الحيوية عبر هذه الآداب والكتب والأشعار. ولأن الفكر والافتراض الفلسفي كان له دور مماثل وأسلوب شبيه: تراكمت معرفتنا بتفاصيل أخرى، ولأن ظاهرة الخيال عامرة في الحياة: استطاع الإنسان تحوير مفاهيمه وانطباعاته وتأثراته إلى شكل مرئي مرسوم ومنحوت، فصار الفن ميدانًا رحبًا لاكتشاف تفاصيل أخرى، ومن خلال تجميع هذه المؤثرات الحيوية المفردة من ميادين العلم والآفاق المعرفية وتراكماتها التاريخية: أصبح الباحث يتوقع بلوغها الثلاثين ألف مفردة، ولأنها متكررة في التاريخ والمجتمعات المنوعة: صارت الكتلة المعلوماتية مليارية أيضًا، ويلزمها نخل وفرز وتمييز واصطفاء وإلغاء المكرر، لتكون النخبة الدلالية مجرد عشرات ألوف، مثل الثلاثين ألفًا التي نرجحها قياسًا على العوامل الإنسانية الجينية، وكأن الفراسة التي نملكها في معاني القدر الرباني تحملنا على اعتقاد رجحان ذلك، أو أن تكون أكثر أو أقل.
* ومنهجيتي التي فرضتها لنفسي: أن أمسح كل هذه العلوم والآداب والفنون والأفكار والتاريخ والتصرفات النفسية وملحقات هذه الآفاق المعرفية، لاكتشف مقداراً كبيرًا من هذه المفردات التأثيرية في الحياة، ومحاولة ترتيبها في أنساق ومعادلات، تقترب بي وبمن يطالع رصدي من معرفة قوانين الحركة الحيوية، ومن ثم كيفية السيطرة عليها وتوجيهها لإحداث تأثير يوافق مراد الله تعالى وعقيدة التوحيد وغاية عمران الأرض.
* وواضح أن مثل هذا الجهد لا يستطيعه فرد واحد، لا أنا ولا غيري، بسبب الأرقام المليارية للظواهر والفردات التي قلناها، ولأن عملية الفرز والاستخلاص معنوية لا يقدمها الكمبيوتر وإنما يجب أن تمر بالمنخل العقلي الإنساني، وهذا عمل مرهق لا تكفيه أعمال الباحثين المنفردين، ولكن نسدد ونقارب، ونجعل المهمة جماعية كما كانت قصة كشف المنظومة الجينية جماعية، فأنا من خلال رسائلي المتتالية في محاولة اكتشاف ظواهر الحركة الحيوية سأصل إلى اكتشاف جزء منها، واقتراح سياق انسيابي لحركتها من خلال معادلات وأنساق، وأكون قد قدحت الزناد، وأتيت بالأمثال، وضبطت وجهة البحث، ثم يتصدى عشرات الباحثين من مثقفي دعاة الإسلام ليُضيف كلٌ منهم كتلة أخرى من المفردات والتفاصيل والتقاسيم، حتى تستوي الكتلة الحاوية على عشرات ألوف المعلومات أقرب إلى التمام، فيأتي مبدع في الزمن اللاحق ليجمعها ويؤلف بينها ويوضحها في منظومة واحدة.
ذلك هو العمل في بناء شبكة أو هيكل المحركات الحيوية، وتلك هي منهجيتها.
الباب الثاني
واجب المبدع في تركيب المفردات
* والآن، بمثل هذا التصور: يمكنك جمع هذه الألوف من القواعد الصغيرة في تحريك الحياة، تستخرجها من الفصول المتكاملة لأطراف المعادلة الحيوية، وستجدها متفاوتة في أهميتها، متنوعة في آثارها.
فتصور نفسك جنرالاً في غرفة عمليات يحيط به عشرة من الضباط الأركان، وأمامك منضدة طويلة واسعة، وبيدك العصا تؤشر بها، فتأمر بترتيب القواعد وتقول: ضع هذه هنا، وتلك هناك، وما تزال تبدل وتقدم وتؤخر، وتفرد وتزاوج، وتصنع المنظومات، وتستدرك عليها بشروط، وتضع قِيمًا، حتى تستبين المسالك والمسارات وسلاسل الأداء، وتتضح خارطة لتحريك الحياة في قطرك تكون هي الخلفية الاستراتيجية لكل التعبويات المحتملة، وتبقى مرنة تستجيب للمفاجأة وضغوط الضرورة.
* فهذا النشر، والتوزيع، والتحكم، والترتيب، ومنح القيم النسبية، وتركيب الأجزاء، وبيان التوالي: هو السبيل الأمثل للاستفادة من حشد الموازين والقواعد المطلقة، السائبة، وهي صنعة تعود بالتالي إلى الذكاء والخبرة الفردية والقابلية الإبداعية، وتلك هي طبيعة الحياة، فإنها لا يمكنها مهما أفصحت عن قوانين حركتها أن تلغي الدور الذاتي للرائد الذي ينوي احتلالها، ولا يمكن لدوره الخاص أن يلغي ضرورة التشاور مع الأركان، فإنما الرأي قدحة، يبعث شررها احتكاك العقول والحوار، فتستفز التحديات الكوامن والأعماق، فتنطلق سيول الفوتونات والإلكترونات، ليجري التيار والشعاع، وتتجدد الحياة.
فافهم، وخذ عدستك المكبرة، وفتش عن الموازين والنسقات والتجريب، في عرصات الإيمان والقدر، وهضاب الفن والجمال، وآفاق العلم، ليومض لك التمكين.
شئت أم أبيت: أنت المكلف.
فكن المخير المطواع... قبل أن يقودك القدر إلى الجنة بالسلاسل...!!
"سلاسل" المحن والفتن والمعاناة، ذوات التعليم والتلقين والدروس... حتى تتوب من التبسيط والارتجال
الأنساق ترسم السياق
وطريقة أخرى: أن المعاني الجزئية إذا اكتملت لك، وأنت تريد تحريك الحياة لصالحك: تجعل نفسك مثل المفتي، حين اقترحت عليه في كتابي "أصول الإفتاء والاجتهاد" أن يكتب كل قاعدة فقهية في بطاقة، فإذا أراد حل معضلة: فرش أوراقها بين يديه، وظل يختار ويناقل ويقدم ويؤخر، تذكيرًا لنفسه، وترتيبًا لمنطق الإفتاء بها حتى يستقر على اختيارٍ وسياقٍ يدلي به. فكذلك الذي يبغي "تحريك الحياة": يدون عناوين أفكار الصور الجزئية والنبضات الحركية والأحال النفسية والأبعاد الجمالية ومنظومات المنطق والفلسفة والحرب والسلام وآثار المال وزوايا الهندسة ونغمات اللغة وأشواق الحرية ونسمات الحب وهزات الإبداع، وينثرها كلها أمامه، ثم يشرع يتأمل ويقايس يونتقي، ويقدم ويؤخر، كأنه لاعب قمار عنده خمسات وستات، وملكٌ وهازل، وللمؤمن المثل الأعلى، ويبقى يكرر ويبني الأنساق حتى يستقيم له سياق المعادلة التي تخدم نهضته وعزمته ويرسم خارطة تأثيره..
ولمتحمسٍ أن يستطرد ويذهب إلى أبعد، فيأمل أن تلبي هذه الرؤى في كيفية انسياب الحركة الحيوية إلى تسهيل صياغة "مشروع حضاري إسلامي شامل" و"خطة استراتيجية بعيدة المدى"، وليس مجرد خطة قطرية أو خطة مرحلية أو استراتيجية قصيرة المدى، لأن المحركات المرصودة هي نفسها التي تتطلبها الرؤية البعيدة، والمرجع التحليلي واحد، ومنطق التعليل متماثل، بل كأن السكينة الإيمانية تمنح الداعية تفوقًا وترجيحًا على غيره من المتأملين في الميدان التخطيطي.
التميز و"السوبرية" والتفوق على المستوى العادي
وأول ما نوصي به المؤمن في هذا المجال: أن يسعى إلى تجميل وتكميل علومه الشرعية والأصداءالإيمانية في قلبه: بالثقافة المعرفية العامة، والإطلاع العلمي، فمن الملاحظات المهمة في رصد المؤثرات الحيوية: أن جوانب الاعتدال والوسطية، والذوقيات، وإرهاف الحِس، ورِقة الشعور، وهدوء النفس: كلها تتأثر إيجابيًا وتتصاعد طرديًا مع إتقان الشخص للعلوم والرياضيات، ومع تطور نظرته الفنية، وكثافة سماعه للكلام الأدبي والشعر واللغة البليغة، وهذا التأثير هو الذي حمل فيثاغورس منذ القديم على المبالغة وجعلته يزعم (إن تطهير النفس ممكن من طريق معرفة الحساب والهندسة والموسيقى).
* وذلك وهم منه، فإن النفس لا يطهرها غير إيمان بالله وطاعة له، ومضاء عزم على ملازمة الأخلاق، ولكنه أحس بشيء من آثار الرياضيات في النفس فتوسع، وهذا مقدار تكميلي لا أصلي، وزينة وتحسين لا أساس، وكذلك الفن التشكيلي الآداب وكل المعارف والعلوم، وإذا أرجعنا ملاحظته إلى مقدارها الصحيح فإنها تكون ملاحظة تربوية، وشاهدًا لإبداع، وآلية يوصى بها لإتقان صنعة التفوق والقيادة، وطريقًا مؤكدًا لحيازة مستوى الرجحان والامتياز الذي هو عامل الحسم عند التنافس الحيوي في كل أشكاله، وذلك قريب من معنى "السوبر" Super في الثقافة الغربية، وأغرب ما هنالك أن فيثاغورس مات في حدود سنة خمسمائة قبل الميلاد، وعرف ذلك وإن بالغ، ولكن أناسًا بعد ألفي سنة من الميلاد يحتاجون إلى واعظ يذكرهم به.
* وكان تاريخ روما تاريخ جبروت، وهو مأسور إلى أعمال قياصرة يستبدون، حتى أحرق نيرون بلدته، فذهب خبرها الفكري مع الريح، ولكن بقيت حية حتى الآن لمعات فكر "سقراط" التي انطلقت في أثينا وأهداها إلى جملة الحياة، ولئن كان أرسطو تلميذه قد جنح إلى إلحاد، وتنهانا متاهته أن نعتد بها، أو أن نري من أنفسنا فخرًا بها، فإن أستاذه سقراط كان على عقيدة التوحيد، أو مقاربًا لها في قول من يحتاط، مما يجعل الفخر بلمعات فكره حلالاً يسوغ لنا في آخر الزمان الانتساب إليه وإلى بطولته في تجرع السم تثبيتًا لمعنى الحرية واستعلاء الفكر كمثل فخرنا بأي حنيفي من العرب كان يتحدى الأوثان ويمد سند التوحيد بالاتصال والحياة، والجميع في خبر تشكيل معنى حركة الحياة مساهم ومشارك
وللفن دور تكميلي مؤكد... وللجمال.
ووظيفة "نظرية حركة الحياة": أن توقف المسلم العصري على جذور مكونات الصور الجزئية للحياة، وعلى أصول النبضات المتعاضدة التي تتكون من اجتماعها الحركات الحيوية، فمن يملك هذه وهذه: يؤذن له أن يكتشف المعادلات التي يتم التغيير بموجبها، بحيث يكون الغوص إلى العلل ومصادر الحرارة، لا الاكتفاء برؤية الغليان الظاهر فقط.
ويسهل على المسلم الواعي تصور هذه الجذور والأصول حيث تكون شرعية ومعرفية وفكرية وسياسية، بل وحتى أن تكون نفسية وعلمية، ولكنه يزهد بالأصول الفنية، ويستشكل أمرها، ولذلك يلزمه أن يستوعب تكامل التأثير في الحركة الحيوية عبر الفن والذوقيات والتشكيل والهندسيات.
* ومحور هذه القناعة أننا نعيش ضمن الحياة العامة، لا خوارج عنها، وأن هذه الحياة إنما نشارك في صناعة جزء منها، لا كلها، وإنما يصنع أكثرها غيرنا، وبعضها تراكم قديم أجيال مضت وأمم سلفت، وهؤلاء تناوشوا الفن والجماليات وجعلوهما مادة في بناء الحياة، ومن غير الممكن أن نخالف ونكون صلابا في موطن رفق، ويبوسا في أرض ندية، ونشازًا في سياق انسجام، وفوضى في حافة كتلة انتظام، بل نتجمل إذ نحن نتأمل، وننسق إذ ننطلق، ونستخدم درجات الألوان وأصداء اللمعان، فإنها فكر مكمل، وعمل عقلي منطقي، وسبب سواء نفسي معنوي، ومن خلال انسياب حركة النقطة في الفراغ نستطيع تكوين المفهوم الواعظ، ورواية التجربة، والجدل بالحسنى، والحوار المتكافئ مع إنسان لا يفهم لغتي وحروفي، فإن "التجريد" جسر بين القلوب، يعبر البحار، ليؤسس بشرى، أو يصدع بنذار.
* ومن طرائق اكتشاف "المحرك" من محركات الحياة، والذي هو "جزء من الخطة": أن نجمع بين مدلولات صغيرة ونوفق بينها، بعضها شرعي، وبعضها إيماني قدري، وبعضها نفسي، ونخلطها بشيء من المنطق والرؤية الفلسفية لتأكيدها، فتتولد "طريقة" و"معادلة" أو "جزء خطة". لكن هذه القاعدة المتولدة يمكن أن تتحسن كثيرًا بروافد من نوافل التحريك، مثل مقياس جمالي تزيده إليها، وإخراج إبداعي، وصنعة لغوية بلاغية، وتضيف إلى الجميع لمسة من عواطف الحب: فتتجود "المعادلة" جدًا، وتصير أنفذ وأسرع تأثيراً، وذلك هو سر وحكمة احتواء مدونة حركة الحياة لفصول الفن والجمال.
أثر الصنعة القيادية في تسيير الموجود
والمساير لي في تأمل حركة الحياة عبر مسردي الذي سأدلي فيه بخبرها، والذي ينصت لي بإتقان: تجبهه خاطرة تميل به إلى أن هذا الاستعراض للصور والنبضات الحركية مغرق في "التبسيط" وأن حزمة الحياة بالغة التعقيد ويلزم لفهمها أو للتأثير فيها استحضار واستعمال مختبرات كل العلوم قاطبة، مع حشود من الأموال والذكاء وكميات كبرى من الفكر والأدب والفنون، وبخاصة إذا راقبنا انتفاضتها الكبرى، مثل الحروب العالمية، وخطط العولمة، واستعمالات الطاقة، وتداول المال.
* وذلك صحيح، وما يكون لأحد أن يخرق تراكمات التاريخ الطويل وثقلها في صياغة الحاضر والمستقبل، ولكن ما نقترفه من شهادة على منظر الحركة الحيوية نريد به تلقين من يريد التأثير فيها المسارب والقنوات التي يحتمل أن يجري فيها سعيه، والأسس التي أحدثها غيره سابقًا وتصلح أن يقيم عليها بناءه، ثم وصف البيئة الحاضنة، ومقادير العلاقات المتاحة له في ذلك وموازينها ومعايير تصنيفها، والأنماط الممكنة من السيطرة الفوقية على خصائص النفس المودعة لدى من يتعامل معهم، من جندي مساعد، ومنافس مزاحم، وعدو ناحت، وأن ننبهه إلى القابلية القيادية في استثمار طاقات جاهزة عبر فذلكات السيطرة، وطرائق الإبداع، وروح الطموح والتحرش، والإصرار على السبق، ومعنى كل هذا أن الذي يريد تحريك الحياة ليس يقع عليه عبء بناء القوى العسكرية والاقتصادية والعلمية، ولا آلالتها وتراكماتها، بل هي موجودة، وإنما له فرصة أن يمسك بتلابيبها ويعلوها عبر عملية قيادية تبدأ بفكر، وتمر بتخطيط، إذا عرف النفس، وقدح العقل.
والأمر أشبه أن يسيرعلى سنن الوسطية، فإن "محرك الحياة" تلزمه حيازة علوم، وأموال، وأدوات مادية، ولكن بمقدار، والباقي يرثه عن غريمه، أو يشتريه، أو يحتال لحيازته، أو يهديه الحليف له.
* والمحاولة كلها مبنية على التفكر ودقة الملاحظة والتفرس فيما حولنا من صور الحياة وحركات النفوس ومغامرات العقول، على طريقة الشاعر الذي يقول:
فانظر وفكّر فيما تمرّ بهِ****إنّ الأريبَ المفكّرُ الفطِنُ
فهي رصدٌ ذكي للساحة الحاضرة، وللتاريخ، والأحداث، والعلوم، واقتحام لدواخل الذوات والأرواح ومكامن القناعات، وتفنن في السعي لحيازة ما يملكه الغير وينقصنا.
وانظر مصداقًا لذلك: الانتفاضة الفلسطينية، وآلتها الصغيرة لما حملتها القلوب الكبيرة، كيف فرضت نفسها.
وانظر الجهاد العراقي وسلاحه المتواضع مقابل سلاح الجبروت، ثم التفت إلى مصالح الصين كيف تحدوها إلى محالفة المسلم؟؟
التلازم بين قيمة الروح وقيمة المادة
وهذه الأحاديث تؤكد أهمية الجانب غير المادي في تحريك الحياة، فالفكر، وتطلعات الروح، وتصرفات النفس: هي الأمضى الأشد تأثيرًا، وتكاد النزعة الفلسفية التأملية إذا اقترنت بالإيمان والتوحيد أن تكون هي التي تقود الحياة، و"المسلم الحضاري المدى" من شأنه أن يذهب هذا المذهب، وأن يزداد معرفة بآفاق "الروح" لتذل له "المادة".
* وكان كاتب اسمه "موسى عجمي" كأنه من لبنان قد سبقني إلى فكرة ضرورة دراسة "حركة الحياة"، فألف كتابًا موجزًا صرخ فيه صرخة تبشر بالمعنى، دون أن يدخل في تفصيل، فكان الرائد، وأشار إلى أصول أحاسيسه، من منطلق علماني، دون أن يورد الشواهد والقصص والمناظير الحيوية الجزئية، فالتقيت مع أفكاره وإبداعه في النظرة الشمولية، وافترقت عنه فيما رواء ذلك، وتجاوزت بعض غموض اعتراه.
ومما لاحظه موسى عجمي أن (الروح هي الحياة بالتسمية الثانية، وهي النفس التي تلتزم الفاعلية والقوة والتحريك.) وأنها (تلك الطاقة المتحركة من تلقاء ذاتها، واحدة في الكون، مجزأة في الأشكال والمظاهر التي تختلف وتتنوع باختلاف بذرتها الذرية).
* وهذا كلام جيد في ظاهره، لولا إنه يقترب من شبهة، فإن الروح عند المؤمن إنما هي هبة من الله، وهو خالقها وموجدها، وكونها مجزأة في الأشكال أمر صحيح إذا اعتبرناها جنسًا، فجنس الروح متماثل في أنه تحريك، لكن أرواح الموجودات تختلف، فليست الحركة القدرية للذرة كمثل الحركة العقلية للإنسان، وإنما في العمل العقلي الإنساني تكريم من الله زائد على حركة الجماد، وقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم.
* ويستطرد موسى عجمي فيستنتج أنه (كأن غاية المادة صيانة فقط والمحافظة عليها، وتسهيل حركتها لمزاولة عملها الخاص) و(أن الروح والمادة قيمتان متلازمتان لا تستطيع الواحدة أن تحيا من دون الأخرى، ولا أن تتخلى عنها ولا أن تكون منفصلة أو منعزلة عن سبيلها.
فالأولى طاقة فاعلة، وحركة عاملة، وقوة دافعة، ومسؤولة عن كل تحويل وتغيير وتطوير وتبديل، وتتمتع بأولوية الوجود، وأسبقية التكوين، وعلو الهمة والأهمية.
والثانية غلاف لا محيد عن وجوده، ومظهر تأكيدي للروح، وطريق معدّة لنظام الحركة، وحصيلة تكاثرية وازديادية تتجلى لتجعل الكون صورة حقيقية وواقعية، والحياة عالمًا قابلاً للعيش والسكنى).
* وهذا كلام جميل، وتخريج جيد يمنحنا توازنًا في فهم العلاقة، إلا أن العقيدة الإسلامية صريحة في أن الإنسان يخلق أولاً مادة، ثم تنفخ فيه الروح في الشهر الرابع، وبذلك يكون من الخطأ القول بأنها (تتمتع بأولوية الوجود)، إلا أن يكون المعنى مجازيًا، وأنها إشارة إلى الطاقة التي في الذرة والجزيئة، وهذه الطاقة لا تسمى روحًا إلا على طريقةٍ فلسفيةٍ فقط، والعقيدة تأبى ذلك، وهذا مثال لما أسلفت من أن موسى عجمي تحيطه سلبية الغموض، وكأنه يعتمد الثقافة ولم يشتغل بفقه الشرع ولا هو مأسور لنصوص العقيدة.
مواكبة النبض الحيوي تقود نحو الحرية
ولسنا نحتاج عند تداول هذه المعاني غير نقلة بسيطة لنكون وجهًا لوجه مع دروس مستنبطة من مقارنة اختلاف البيئات في التأثير على نوع التصرف، واكتشاف وجود عامل مشترك بين المخلوقات يحدوها إلى تصرفات متماثلة رغم اختلاف رتبها، وهذه الملاحظات هي جانب من استثمار منهجية رصد الصور الحيوية واستلال الموعظة والدروس التجريبية منها.
* فهذا "السمك" في البحر مثلاً: صارت له خصوصية يخالف بها حيوان البر، فوقف "أبو نخيلة" في القديم متعجبًا، يرقبه، ويعيب عليه رضاه بالدون، واستئساره لقدره السيئ، وقله تفتيشه عن مهرب من المخاطر، وضعف أشواقه إلى الحرية، فطفق يصفه...
[align=center]تَغُمّهُ النُشرة والنسيمُ
ولا يزال مُغرَقًا يعومُ
في البحر، والبحرُ له تخميمُ
وأُمه الواحدة الرؤومُ
تَلهَمُه جهلاً، ولا يرومُ[/align]
والنشرة: الريح الطيبة، وهي مذكورة في قوله تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته}.
يقول (النشرة والنسيم الذي يُحيي الحيوان إذا طال عليه الخموم والعفن والرطوبات: تغم السمك وتكربه، وأمه التي ولدته: تأكله، لأن السمك يأكل بعضه بعضًا، وهو في ذلك لا يريم موضعه).أي لا يسعى لتغيير موضعه.
والمستضعفون الذين لم يفهموا علم "حركة الحياة" ما يزالون في ضيق حصار تراكم الظلم الاجتماعي، وحيتان الإدارة الرزق تأكلهم، وصعاليك الإعلام تخونهم، وقادة العساكر تلهمهم، وهو ما زالوا يرتضون البقاء في العفونة والرطوبة، ونسيم الحرية منهم قريب لو أرادوا فتحه بقوانين حركة الحياة، لكنهم القعدة الكسالى.
والمدرب الإبداعي، "ومعلم حركة الحياة" هو "أبو نخيلة" معاصر، يسأل:
أأنتم سَمَك... يسجنكم البحر!!..؟
* ثم لا جواب..!!
لأنها تكون المتاهة أحيانًا، وتشمل معظم القوم.
كالتي أدركها الأعشى فقال:
ألا مَن مُبلِغُ الفتيان أنّا في هَواهيِّ
وإمساءٍ وإصباحٍ وأمرٍ غَيرِ مَقضيِّ
والهواهي: الباطيل.
فمن الذي يبلغ رجال مراكز الدراسات الإبداعية والتطويرية أن الجيل المعاصر في "هواهي" كأنهم لا زالوا جيل الأعشى، وأن أمورهم ليس لها حل، وهي غير مقضية، لنقص التخطيط، وغياب المنهجية، وضعف الرنو إلى الحرية، وقلة فهم منزلة "الروح"، والذهول عن المعادلات الاستراتيجية الموجهة لمسيرة الحركة الحيوية؟؟
وهذا هو الذي جعل نظرية حركة الحياة عزيزة عندي، أحرص أن اعرضها على كل مسلم عصري إبداعي: "أعدِلُها بالكف أن تميلا، أحذر أن تسقط أو تزولا"، أبتغي بها إحداث نقلةٍ في فهمهم لتداول مراكز التأثير في الحيا
الواجب الصعب... الممكن
وما هو بأمر سهل... لكنه ليس يرهبنا..
وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ملحظ النقلة الكبيرة في حجم المؤثرات الحيوية في العصر الحديث، والتي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر، ثم أكبر منها في القرن العشرين، أي أن عامل (السعة) صار متغيرًا كبيرًا في المعادلة.
* انظر مثلاً: المؤثرات الفكرية والنفسية التي يضخها الأدب في الحياة، ففي القرن التاسع عشر (لمعت في سماء الأدب كوكبة لم يجتمع مثلها قط في قرن واحد من قبل، ومن نجوم هذه الكوكبة: غوته وشيلي، ويايرون، وتولستوي، وإبسن، وبودلير، وديكنز، واوسكاروايلد، وبلزاك، وفلوبير، وتشيكوف، وهوغو، وغيرهم). وهذا في الغرب فقط، وواضح أن حيازة الغرب لعوامل التفوق على الأمم الأخرى، كالقوة العسكرية، والنهضة الصناعية والعلمية، والمنهجية الإدارية: جعلت هذا الأدب يؤثر في العالم كله، ووجد له سبيل تأثير في أمم أخرى كثيرة، فتبدلت معادلات الحياة، وحدثت تلك التأثيرات مستفيدة من عامل "السبق" الذي سبق الغرب به الأمم إلى العالم وكانت الصناعة والأسلحة، فالاستعمار، فالثراء وتجميل ثروات الأمم، كسلسلة مطردة، وبقيت تتنامى حتى صارت العولمة في آخر القرن العشرين كنتيجة للتفوق الغربي بعامة، والأمريكي بخاصة.
* والمسلم الذي يريد "تحريك الحياة" لا أزعم أنه يستطيع القفز مباشرة إلى التحدي المباشر، ولكنه يستطيع بدء المسيرة في درب طويل ينتهي إلى التفوق مستفيدًا من ظاهرة في الحياة مفادها "التداول" وعدم استمرار قوة القوي، وعندئذ يكون إنتاج فكر إيماني وأدب إسلامي بكثافة هو خطوة في الطريق الصحيح كما كان إنتاج تلك الكوكبة الغربية في القرن التاسع عشر خطوة، وكذا العلم، وحيازة المال، وترسيخ المنهجية.
إن المحركات الحيوية اليوم انتقلت من كونها صغائر إلى كبائر، فهي ضخمة الحجم، شديدة الوطأة، ثقيلة الجثمة.
فانتبه كيف أن السلاح صار ذريًا.
والحظ كيف أن الفجوة العلمية بين الطرفين صارت واسعة.
وافغر فمك لأرقام عظيمة تبّين فارق حجم المال وحقائق البنوك.
وحروب المياه المستقبلية، ومقايضة الماء بالنفط.
وآخرها "عولمة حرق الإبداع" كما سماها نبيل سليمان.
وفي نصيحة أديب إنكليزي له دعاه إلى أن يفكر في: كيف يتملص الأدب من حرب ثقافية تحركها ديانة بوش؟
وأين يسيح الفن إذ تضايقه رؤى اليمين المتطرف؟
وأين هي مساحة اشتغال أبقاها لنا فساد وطغيان يعمل تحت غطاء الديمقراطية وتأييد الغرب؟
وحقيقة أن لا تناسب بين ثقافة الغرب وممارسته والهدم الكامن في تنازل اليونسكو عن حقولها لمنظمة التجارة العالمية.
وهذه مصائب كبيرة، لكنها عند الفرد النائي النكر الخائف الوجل.
أما العنصر "الدعوي" فإنه لا يجزع، بل يأمل ويرجو أن يصد الهجمة ولو بدفع ثمن غال.
* أولاً: بالعمل المماثل، والحرص على الجهاد والنفوذ السياسي، ليصلح، ويدافع، فيظل يدأب ويفتش عن "محركات الحياة" ليستعملها، ويتخذ خطط تجميع وتنظيم وتطوير ومنافسة، وتلزمها أعمال مؤسسية كثيرة، ومؤتمرات، وندوات، ومطبوعات، وإعلام، وما كل ذلك سهل، لكنه ليس بمستحيل، ويمر بلبث وراء قضبان، ودماء، ويقوده أديب ومؤرخ وفقيه وسياسي وفنان.
* وثانيًا: بانتظار القدر بعد تقديم لتك الأسباب انتظاراً إيجابيًا، فإنه حق، والله يعاقب الدول والظلم الجماعي كمثل معاقبته الأفراد، وليس من شرط ذلك أن تنزل حجارة من السماء عليها، ولكن يضلهم فينتخبون المصلحي السارق، والأحمق والطائش، فيردي قومه، وتتخبط سياسته، فتكون الثغرات التي يلج منها الضعيف.
والمراقب لقصة احتلال العراق يجد شيئًا من ذلك، ويعثر على مصداق الكلام، وكيف أن جهاد المستضعفين آذى أعتى قوة يقودها مغامر مأسور إلى أوهام معركة "الهرمجدون".
ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يختلط ظلم العولمة بظلم عميل محلي يتستر على نزيف يسببه الفساد الإداري ويلجأ إلى ضرائب مرهقة للمواطن، إذ المفسِد يرتع.
وردود الفعل عند المحكوم تجاه الظلم المالي من الحاكم: هي دومًا من أعنف محركات الحياة، وربما تقود لتمرّد وثورة، أو برود العلاقة بين الطرفين، فيكون التأخر المدني.
ويحسبها الطارئ على علم تحليل حركة الحياة ظاهرة حديثة، لكنها قديمة، وفي مثلها قال حني بين جابر التغلبي:
أفي كُل أسواقِ العِراقِ إتاوَةُ
وفي كلّ ما باع امرؤُ: مَكْسُ دِرْهَمِ؟
ألا يَنتهي عنا ملوكُ، وتتقي
مَحارمَنا، لا يَبُؤ الدمُ بالدمِ؟
نُعاطي الملوكَ السِلْمَ، ما قصدوا بنا
وليس علينا قَتْلُهُم بمُحَرَّمِ!!
فهو هنا يصرح بأمر كبير، وهو الدم، أي الثورة التي تجلب الدماء، ثم هو هنا يقوم بتذكير الملوك أن الرعية تكون على طرائق سليمة إذا كانت سياسة الملوك: القصد: أي الرفق وعدم التطرف.
فهذا أدب سياسي صريح قديم يكشف عن صفحة من قوانين حركة الحياة.
و(الإتاوة: الخراج. والمكس: ما يأخذه العشار. يقول: كل من باع شيئًا أخذ منه الخراج أو العشر، وهذا مما آنف منه).
فالأنفة: حالة نفسية مغروسة في الأعماق تقود إلى العصيان، والعصيان في بعض الأحيان ينجح في تبديل الحاكم، فتتحرك الحياة، وأصل ذلك: ظلم مالي، ولو كانت الضريبة لبناء ومصالح عامة فإن أحدًا لا ينكرها، ويعطيها المواطن عن طيب نفس ورضا، لكنه الفساد الإداري واستمتاع الحاشية بأموال المستضعفين تجعل الأمر مكروهًا، فتكون التبدلات، أو الحيصات الفاشلة، لمكانة قوة الحاكم، فيزداد البون الفارق، فتكون الهزة النافضة الخافضة الرافعة.
* وفي القصص الرمزية، أن بومة خطبت، فاشترطت على خاطبها مائة قرية خبة تنتقي من أطلالها ما تشاء مسكنًا لها، فقال لها الخاطب: انتظري سنة، فإني أرى ملكنا مولعًا بكثرة الضرائب وإرهاق الناس.