بقلم : يزيد بوعنان(*)
لقد كان مسار الجبهة الإسلامية للإنقاذ مليئا بالأحداث المتسارعة والغريبة، فمنذ إنشائها في شهر مارس من سنة 1989 مستفيدة بذلك من جو الحريات الذي أشاعه الرئيس السابق (الشاذلي بن جديد ) والأسهم السياسية لهذا الحزب في صعود وهبوط، فمن المطالبة والمغالبة إلى المواجهة المسلحة مع النظام الذي وقف حجر عثرة أمام تحقيق الرغبات الملحة لهذا الحزب وأنصاره – الذين كانوا يعدون بالملايين – في الوصول إلى الحكم عن طريق انتخابات تشريعية أقر الجميع بأنها كانت حرة ونزيهة، ولكن مسار الأحداث اتخذ الوجهة التي لم ينتظرها أحد حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، والسؤال المطروح : ما مستقبل جبهة الإنقاذ في ظل التوجهات السياسية الراهنة ؟ وهل بإمكانه أن يسترجع بريقه السياسي بعد حالة الوهن والترهل والإنشقاق الذي أصاب مختلف الفصائل والتيارات المنضوية تحت هذا الحزب ؟
هل أخطأ الفيس باتباعه سياسة المغالبة؟
لم تكد جبهة الإنقاذ تكمل هيكلتها التنظيمية سنة 1989 بعد أن استفادت من جو التفتح الديمقراطي الذي أشاعه الرئيس (الشاذلي بن جديد) بعيد التصويت على تعديل الدستور في فيفري 1989 والذي سمح بإشاء أحزاب ومنظمات – إثر اللقاء التاريخي بين زعماء الحركة الإسلامية والذي ضم : احمد سحنون، محفوظ نحناح، علي بلحاج،وغيرهم مع الرئيس الجزائري – حتى بدأت جبهة الإنقاذ تستعد لدخول حلبة التنافس السياسي، بدءا بالمجالس البلدية في جوان 1990 والتي فازت فيها بنسبة 55% من المقاعد وانتهاءا بالانتخابات البرلمانية الملغاة في ديسمبر 1991 والتي تحصلت فيها على 189 مقعد من أصل 216، ولكن هذا المسار الحافل بالانتصارات السياسية رغم قصر مدته كان حافلا أيضا بأحداث متسارعة وتصريحات نارية ملتهبة من قبل زعماء الحزب وعلى رأسهم ( عباسي مدني وعلي بلحاج) حيث كانت هذه التصريحات متناغمة مع التوجه العام للحزب المبني على سياسة المطالبة والمغالبة.
منذ الأيام الأولى لتأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ اتضح جليا بأن سياسة المطالبة والمغالبة هي التي فرضت نفسها على التوجه العام للحزب، فبعد سلسلة اللقاءات والحوارات التي كانت تدار في (رابطة الدعوة الإسلامية) بقيادة المرحوم احمد سحنون، اتضح أن هناك تيارات عديدة ومختلفة داخل التيار الإسلامي أبرزها : السيد علي بلحاج الذي دعا إلى إنشاء جبهة إسلامية موحدة، أما عباسي مدني فقد اقترح اسما آخر هو (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) معللا هذه التسمية بأن الجبهة تعني المجابهة والإتساع لآراء مختلفة ومتعددة, ورفض محمد السعيد تشكيل الجبهة في البداية قبل أن يلتحق بها مع كوادره التي كانت تؤطر العمل داخل تيار البناء الحضاري (الجزأرة)، كما رفض محفوظ نحناح فكرة تأسيس حزب من الأساس ولكنه عاد ليؤسس (حركة المجتمع الإسلامي)، ونفس الشيء بالنسبة للسيد: عبد الله جاب الله الذي أنشأ (حركة النهضة الإسلامية).
لا شك أن الخطابات والتصريحات التي كانت تصدر عن بعض زعماء الفيس وإطاراته قد أثارت الرعب في نفوس الكثير من رموز النظام الذين عملوا كل ما في وسعهم للحيلولة دون أن يصل هذا الحزب إلى السلطة.
وقد تجلت سياسة المطالبة والمغالبة التي تبناها حزب جبهة الإنقاذ في الكثير من الخطابات والمذكرات التي قدمت إلى الجهات الرسمية، ففي المذكرة التي وجهها الحزب إلى رئيس الجمهورية في :07 مارس من سنة 1989 والتي تضمنت البرنامج السياسي لجبهة الإنقاذ ومما جاء فيها : - ضرورة إلتزام رئيس الجمهورية بتطبيق الشرعية الإسلامية، -استقلال القضاء بغرض الحسبة، - تحديد مجالات الإصلاح وفق جدول زمني
- حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مسبقة، - إعادة النظر في سياسة الأمن، - إالغاء الإحتكار الرسمي لوسائل الإعلام،- وقف عنف الدولة ضد المطالب الشعبية، وغيرها من المطالب والنقاط التي توضح بأن جبهة الإنقاذ قد سلكت طريقا مطلبيا، ولكن هذا المسسلك كان فيه نوع من المخاطرة وعدم الإحتساب الدقيق للنتائج، وعدم الإكتراث بالمؤامرات التي كانت تحاك ضد الجزائر ناهيك عن المشروع الإسلامي والحركة الإسلامية، ويعود كل ذلك إلى كون أن هذا الحزب لم تكن له الكوادر التي بإمكانها استشراف المستقبل.
وحتى وإن كانت هناك بعض الإطارات الكفأة فإنه لم يعتد برأيها، وإلا لما ذهب الحزب إلى ما ذهب إليه من راديكالية في مواجهة نظام متجذر ومتحكم في كل شيء، وأول مظاهر هذه المواجهة الخاسرة هي المظاهرات والإضراب السياسي العام الذي دعا إليه الحزب في جوان 1990، حيث شلت جميع القطاعات في المدن والقرى والمداشر لمدة أكثر من أسبوع، حيث كانت المسيرات تزداد حدة مطالبة بذهاب الرئيس والحكومة،وازدادت معها استعراضات للقوة من قبل جماعات تكون آنذاك قد خرجت من السيطرة الكلية للقيادة السياسية للحزب، وكانت هذه الجماعات مستعدة للمواجهة حيث بدأت أول فصائل الجماعات المسلحة في التشكل، وحتى وإن كان بعض رموز النظام يرون مثلا بأن قادة الإنقاذ كانت لهم اليد الطولى في تشكيل الجماعات المسلحة حيث يقول اللواء المتقاعد خالد نزار في مذكراته : (لقد تجسد العنف في استعراضات القوة من قبل ميليشيات يرتدي أفرادها الزي الأفغاني في المسيرات، وكانت كل هذه الميليشيات تحت إمرة علي بلحاج الذي كان مقره مسجد بلكور والذي أطلق عليه مسجد كابول)، إذا كان هذا هو الرأي الغالب عند رموز النظام وحلفائهم ممن قادوا الانقلاب على نظام (الشاذلي) فإن بعض زعماء الفيس لهم رأي مناقض حيث صرح السيد (مصطفى كرطالي) لصحيفة الحياة اللندنية الصادرة في 08 فيفري 2000 قائلا : (الجبهة لم تكن تحضر أبدا للعمل المسلح ففي سنة 1990 ومع بداية مؤشرات التوتر في علاقة جبهة الإنقاذ بالسلطة قال أحد الحضور في لقاء مع عباسي مدني : ماذا لو نحضر جناحا مسلحا للجبهة ؟ فرد عليه عباسي مدني قائلا :
لو قام أناس بهذا العمل في الجبهة فكأنهم ضربوني بخنجر)، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن داخل الجبهة كانت هناك تيارات تؤمن وتمجد العمل المسلح، وحتى وإن كانت قيادة الحزب قبل إعلان حالة الحصار واعتقال بعض الزعماء ضد أي عمل مسلح حيث كانت في الكثير من المرات تتدخل لتهدئة الأوضاع، ولكن وبعد حالة الحصار وتوقيف المسار الانتخابي وحملة الاعتقالات التي طالت العديد من أنصار الفيس ومتعاطفيه فإن هذه القيادة التزمت الصمت إزاء العمل المسلح وحتى إزاء عض العمليات العسكرية التي استهدفت المواطنين بل وأصبح للحزب جناح مسلح على الأقل يتمثل في ( الجيش الإسلامي للإنقاذ).
حدود المسؤولية بين الفيس والسلطة:
يجمع الكثير من المحللين والمتتبعين للشأن الجزائري في الداخل والخارج على أن المسؤولية لا يمكن إلقاؤها على طرف دون آخر, بل أن الطرفين المتصارعين يتحملان كل من موقعه النتائج والمآلات التي سارت إليها الأحداث، وإذا كان تبيان من المسؤول عن المجازر وحمامات الدم التي كانت تتطاير يبدو في الوقت الراهن على الأقل أمرا غير ذي جدوى، خاصة وأن البلاد تحاول جبر الكسور ولململة الجراح، إلا أن الحديث عن الأخطاء يبدو ملحا من أجل تجاوزها وعدم الوقوع فيها مستقبلا، وبعيدا عن الآراء المتضاربة والمتناقضة التي صدرت عن هذا الطرف أو ذاك فإن الأزمة الدامية التي عاشتها البلاد تكون قد تفاقمت واستفحلت بفعل عدة عوامل نذكر منها :
1. عدم تفطن الفاعلين في السلطة والمعارضة لما قد ينجر عن الصدام والمواجهة بين الطرفين، ولجوء البعض منهم الى التصرفات الانتقامية التي أضرت بالبلاد وكادت تدخلها في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر, فتوقيف المسار الانتخابي يعتبر خطأ تاريخي غير مسبوق قابله خطأ آخر من قبل بعض أجنحة الفيس يتمثل في التورط في أعمال العنف التي استهدفت مؤسسات الدولة وبعض الفئات الشعبية الفقيرة في مختلف المناطق من الجزائر العميقة.
2. الأكيد أن الجزائر كانت ضحية لمؤامرات محبوكة لم يتفطن لها الجميع ونتيجة لهذه المؤامرات فإن الجزائريين كانوا وسائل في أيدي المتحكمين فيها من داخل البلاد وخارجها.
3. لقد عجزت السلطة وجبهة الإنقاذ معا في فرض رؤية واضحة ونتيجة لهذا العجز لجأ الطرفان إلى المواجهة والمقارعة، حتى وصلت المجازر ورائحة حمامات الدم إلى حدودها القصوى، وبعد أكثر من سبع سنوات من المواجهة والإصطراع والعنف الدموي وصلنا إلى أكثر من 100 ألف قتيل ومليون ضحية بين مشرد ومعاق ومفقود وخسارة مادية قدرت بـ 30 مليار دولار، فهل بقي بعد هذا أن لا يعترف الكل بأخطائه ويحاول تصحيحها بعيدا عن التعنت والنرجسية والتهميش والاقصاء.
وحتى نعرف مسؤولية كل طرف في الأحداث نكتفي بشهادة اثنين من الفاعلين في مسار الأحداث وهما اللواء المتقاعد (خالد نزار) وزير دفاع سابق، وكذا (مدني مزراق) زعيم ما كان يسمى بالجيش الإسلامي للإنقاذ.
يقول( خالد نزار) في مذكراته وهو يبرر موقفه وتحمله مسؤولية توقيف المسار الانتخابي رغم ما انجر عن ذلك من نتائج وخيمة : (لقد قررنا عدم التوجه إلى الدور الثاني من التشريعيات منذ الأيام الأولى التي أعقبت الدور الأول من هذه الانتخابات, وكانت الفكرة هي إقناع الرئيس بخطورة الوضع وتقديم الاستقالة، فالبرلمان كان قد أكمل عهدته، وشغور السلطة كان نافذا ولم يكن أمام الجيش أي اختيار آخر غير التكفل بمصير البلاد بعد أن تأكد الرئيس أنه لم تبق أمامه سوى الاستقالة)، بهذه الصراحة يقول رأس الانقلابيين على نظام الشاذلي ولكنه يتكتم على أمور أخرى تبدو خطيرة حينما يقول في موضع آخر : (التزاما بواجب التحفظ فقد فضلت عدم التطرق علنا إلى أحداث كبيرة عاشتها بلادنا خلال تلك الزوبعة التي مرت بها ), فما طبيعة هذه الأحداث وما هي الأسرار التي تكتنفها ؟
نترك خالد نزار لنتوقف عند الشهادة التي أدلى بها ( مدني مزراق) من خلال خطاب ألقي على أتباعه سنة 1994 ونشر بجريدة اليوم الجزائرية في عدد 11 ديسمبر 2000 ومما جاء فيه باختصار : 1- الجهاد بدأ في فيفري 1992 ولماذا فيفري ففي ذلك الوقت كانت القيادة السياسية تجري حوارا لإيجاد مخرج سياسي للأزمة, 2- تكلم عن عباسي مدني وكأنه وريثه الشرعي،3- يشرح مصطلح المطالبة والمغالبة قائلا : المطالبة تعني أن نطالب النظام بتحقيق وتنفيذ أهدافنا المشروعة, والمغالبة تعني إذا وقفوا في طريقنا ومنعونا من إقامة الدولة الإسلامية نجاهدهم كما كنتم تسمعون من شيوخ الجبهة مثل عباسي مدني وغيرهم, 4- الجبهة الإسلامية كانت تهيء الشعب لمثل هذا الموقف، نحن ندخل الانتخابات ونسعى لتحقيق أهدافنا وإذا وقفوا في وجهنا نجاهدهم والحمد لله فإن عباسي مدني كان أعلن قبل اعتقاله قائلا : من حقنا إعلان الجهاد، وكان علي بلحاج يقول : نظفوا أسلحتكم. هذا بعض ما جاء في الخطاب المذكور لمدني مزراق. من هنا يتضح أن المسؤولية مشتركة بين الجميع وأن الزج بالبلاد إلى المآلات الخطيرة هو نتيجة لتعنت كل الأطراف دون أن يحتسبوا العواقب الوخيمة التي انجرت عن هذا التعنت.
نجم الفيس لماذا أفل ؟
لن نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن الفيس ليس مجرد حزب ولكن هو ظاهرة اجتماعية حاملة للكثير من الأحلام الدينية والاجتماعية التي كانت تسكن بال الأغلبية من متتبعيه وأنصاره ولكن هذه الظاهرة – كما ذكر لنا أحد الإطارات الذين تربوا في أحضان الحرة الإسلامية رفض ذكر اسمه – كانت دون تأطير سياسي في المستوى الذين تولوا المسؤولية في مختلف المواقع لم يكونوا في مستوى الحدث, وأسباب أفول الفيس – كما أضاف ذات المتحدث – كانت موجودة في طريقة إنشائه والتي تمت لأغراض مجهولة ومشبوهة، ولا يستبعد أن تكون أيادي خارجية قد أثرت على السلطة في الجزائر لتسير الأمور وفق ما سارت عليه، وإذا سلمنا بأن الفيس هو ظاهرة اجتماعية فإنه يمكن تشبيهها بالهزة الأرضية التي تحرك الأشياء وقد تدمرها ولكن سرعان ما تزول مثل باقي الظواهر الطبيعية التي تتسم بالظرفية والمحدودية.
وعندما طرحنا سؤالا على أحد الكوادر الذي كانت تربطه علاقة حميمية مع مختلف رموز الحركة الإسلامية لا سيما تيار الجزأرة المعروف بمتانة بنائه الفكري، لماذا لم يستطع هذا التيار ترشيد العمل السياسي داخل حزب جبهة الإنقاذ وعقلنته أجاب قائلا : ( جماعة البناء الحضاري دخلوا الحزب متأخرين أي بعد الانتخابات البلدية حيث أن كل شيء كان قد انتهى، ورغم معارضة بعض إطارات هذا التيار لهذا الدخول إلا أنه تم ولم يستطيعوا التأثير ويذكر أن هناك تيارات أخرى داخل الفيس أصابها الذعر عندما انضم تيار البناء الحضاري إلى الحزب وعارضته بشدة مما صعب فيما بعد خلق تجانس بين التيارات ووصل الأمر إلى غاية التناحر والتقاتل ).
وخلاصة القول أن ظاهرة الفيس وما اتخذته من مسارات دراماتيكية مؤلمة تحتاج إلى دراسات وكتب، وإذا كانت هذه الظاهرة بإمكانها أن تكون ظاهرة للإسلام الحقيقي فإنها ستعود لا محالة، ولكن ليس بنفس الثوب ولا بنفس الوجوه, أما إذا كانت كظاهرة اجتماعية لأشخاص فليس من الممكن عودتها لأن هؤلاء الأشخاص لم يعودوا يحتملون بعضهم، وآراؤهم ومواقفهم مشتتة حيث فعل بهم الزمن كما فعل الماء بالركام المتروك.
ونختم هذا المقال بمقولة للمتحدث السابق : ( لو كان لجبهة الإنقاذ عقلا مدبرا لفجر القنبلة التي زرعت في قلب الجزائر قبل أوانها أو بعد أوانها أو أنه لفككها دون أضرار), أما وقد تفجرت كما خطط لها زارعوها فنسأل الله اللطف والصون حتى لا نسقط قي مطبات أخرى.
لقد كان مسار الجبهة الإسلامية للإنقاذ مليئا بالأحداث المتسارعة والغريبة، فمنذ إنشائها في شهر مارس من سنة 1989 مستفيدة بذلك من جو الحريات الذي أشاعه الرئيس السابق (الشاذلي بن جديد ) والأسهم السياسية لهذا الحزب في صعود وهبوط، فمن المطالبة والمغالبة إلى المواجهة المسلحة مع النظام الذي وقف حجر عثرة أمام تحقيق الرغبات الملحة لهذا الحزب وأنصاره – الذين كانوا يعدون بالملايين – في الوصول إلى الحكم عن طريق انتخابات تشريعية أقر الجميع بأنها كانت حرة ونزيهة، ولكن مسار الأحداث اتخذ الوجهة التي لم ينتظرها أحد حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، والسؤال المطروح : ما مستقبل جبهة الإنقاذ في ظل التوجهات السياسية الراهنة ؟ وهل بإمكانه أن يسترجع بريقه السياسي بعد حالة الوهن والترهل والإنشقاق الذي أصاب مختلف الفصائل والتيارات المنضوية تحت هذا الحزب ؟
هل أخطأ الفيس باتباعه سياسة المغالبة؟
لم تكد جبهة الإنقاذ تكمل هيكلتها التنظيمية سنة 1989 بعد أن استفادت من جو التفتح الديمقراطي الذي أشاعه الرئيس (الشاذلي بن جديد) بعيد التصويت على تعديل الدستور في فيفري 1989 والذي سمح بإشاء أحزاب ومنظمات – إثر اللقاء التاريخي بين زعماء الحركة الإسلامية والذي ضم : احمد سحنون، محفوظ نحناح، علي بلحاج،وغيرهم مع الرئيس الجزائري – حتى بدأت جبهة الإنقاذ تستعد لدخول حلبة التنافس السياسي، بدءا بالمجالس البلدية في جوان 1990 والتي فازت فيها بنسبة 55% من المقاعد وانتهاءا بالانتخابات البرلمانية الملغاة في ديسمبر 1991 والتي تحصلت فيها على 189 مقعد من أصل 216، ولكن هذا المسار الحافل بالانتصارات السياسية رغم قصر مدته كان حافلا أيضا بأحداث متسارعة وتصريحات نارية ملتهبة من قبل زعماء الحزب وعلى رأسهم ( عباسي مدني وعلي بلحاج) حيث كانت هذه التصريحات متناغمة مع التوجه العام للحزب المبني على سياسة المطالبة والمغالبة.
منذ الأيام الأولى لتأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ اتضح جليا بأن سياسة المطالبة والمغالبة هي التي فرضت نفسها على التوجه العام للحزب، فبعد سلسلة اللقاءات والحوارات التي كانت تدار في (رابطة الدعوة الإسلامية) بقيادة المرحوم احمد سحنون، اتضح أن هناك تيارات عديدة ومختلفة داخل التيار الإسلامي أبرزها : السيد علي بلحاج الذي دعا إلى إنشاء جبهة إسلامية موحدة، أما عباسي مدني فقد اقترح اسما آخر هو (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) معللا هذه التسمية بأن الجبهة تعني المجابهة والإتساع لآراء مختلفة ومتعددة, ورفض محمد السعيد تشكيل الجبهة في البداية قبل أن يلتحق بها مع كوادره التي كانت تؤطر العمل داخل تيار البناء الحضاري (الجزأرة)، كما رفض محفوظ نحناح فكرة تأسيس حزب من الأساس ولكنه عاد ليؤسس (حركة المجتمع الإسلامي)، ونفس الشيء بالنسبة للسيد: عبد الله جاب الله الذي أنشأ (حركة النهضة الإسلامية).
لا شك أن الخطابات والتصريحات التي كانت تصدر عن بعض زعماء الفيس وإطاراته قد أثارت الرعب في نفوس الكثير من رموز النظام الذين عملوا كل ما في وسعهم للحيلولة دون أن يصل هذا الحزب إلى السلطة.
وقد تجلت سياسة المطالبة والمغالبة التي تبناها حزب جبهة الإنقاذ في الكثير من الخطابات والمذكرات التي قدمت إلى الجهات الرسمية، ففي المذكرة التي وجهها الحزب إلى رئيس الجمهورية في :07 مارس من سنة 1989 والتي تضمنت البرنامج السياسي لجبهة الإنقاذ ومما جاء فيها : - ضرورة إلتزام رئيس الجمهورية بتطبيق الشرعية الإسلامية، -استقلال القضاء بغرض الحسبة، - تحديد مجالات الإصلاح وفق جدول زمني
- حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مسبقة، - إعادة النظر في سياسة الأمن، - إالغاء الإحتكار الرسمي لوسائل الإعلام،- وقف عنف الدولة ضد المطالب الشعبية، وغيرها من المطالب والنقاط التي توضح بأن جبهة الإنقاذ قد سلكت طريقا مطلبيا، ولكن هذا المسسلك كان فيه نوع من المخاطرة وعدم الإحتساب الدقيق للنتائج، وعدم الإكتراث بالمؤامرات التي كانت تحاك ضد الجزائر ناهيك عن المشروع الإسلامي والحركة الإسلامية، ويعود كل ذلك إلى كون أن هذا الحزب لم تكن له الكوادر التي بإمكانها استشراف المستقبل.
وحتى وإن كانت هناك بعض الإطارات الكفأة فإنه لم يعتد برأيها، وإلا لما ذهب الحزب إلى ما ذهب إليه من راديكالية في مواجهة نظام متجذر ومتحكم في كل شيء، وأول مظاهر هذه المواجهة الخاسرة هي المظاهرات والإضراب السياسي العام الذي دعا إليه الحزب في جوان 1990، حيث شلت جميع القطاعات في المدن والقرى والمداشر لمدة أكثر من أسبوع، حيث كانت المسيرات تزداد حدة مطالبة بذهاب الرئيس والحكومة،وازدادت معها استعراضات للقوة من قبل جماعات تكون آنذاك قد خرجت من السيطرة الكلية للقيادة السياسية للحزب، وكانت هذه الجماعات مستعدة للمواجهة حيث بدأت أول فصائل الجماعات المسلحة في التشكل، وحتى وإن كان بعض رموز النظام يرون مثلا بأن قادة الإنقاذ كانت لهم اليد الطولى في تشكيل الجماعات المسلحة حيث يقول اللواء المتقاعد خالد نزار في مذكراته : (لقد تجسد العنف في استعراضات القوة من قبل ميليشيات يرتدي أفرادها الزي الأفغاني في المسيرات، وكانت كل هذه الميليشيات تحت إمرة علي بلحاج الذي كان مقره مسجد بلكور والذي أطلق عليه مسجد كابول)، إذا كان هذا هو الرأي الغالب عند رموز النظام وحلفائهم ممن قادوا الانقلاب على نظام (الشاذلي) فإن بعض زعماء الفيس لهم رأي مناقض حيث صرح السيد (مصطفى كرطالي) لصحيفة الحياة اللندنية الصادرة في 08 فيفري 2000 قائلا : (الجبهة لم تكن تحضر أبدا للعمل المسلح ففي سنة 1990 ومع بداية مؤشرات التوتر في علاقة جبهة الإنقاذ بالسلطة قال أحد الحضور في لقاء مع عباسي مدني : ماذا لو نحضر جناحا مسلحا للجبهة ؟ فرد عليه عباسي مدني قائلا :
لو قام أناس بهذا العمل في الجبهة فكأنهم ضربوني بخنجر)، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن داخل الجبهة كانت هناك تيارات تؤمن وتمجد العمل المسلح، وحتى وإن كانت قيادة الحزب قبل إعلان حالة الحصار واعتقال بعض الزعماء ضد أي عمل مسلح حيث كانت في الكثير من المرات تتدخل لتهدئة الأوضاع، ولكن وبعد حالة الحصار وتوقيف المسار الانتخابي وحملة الاعتقالات التي طالت العديد من أنصار الفيس ومتعاطفيه فإن هذه القيادة التزمت الصمت إزاء العمل المسلح وحتى إزاء عض العمليات العسكرية التي استهدفت المواطنين بل وأصبح للحزب جناح مسلح على الأقل يتمثل في ( الجيش الإسلامي للإنقاذ).
حدود المسؤولية بين الفيس والسلطة:
يجمع الكثير من المحللين والمتتبعين للشأن الجزائري في الداخل والخارج على أن المسؤولية لا يمكن إلقاؤها على طرف دون آخر, بل أن الطرفين المتصارعين يتحملان كل من موقعه النتائج والمآلات التي سارت إليها الأحداث، وإذا كان تبيان من المسؤول عن المجازر وحمامات الدم التي كانت تتطاير يبدو في الوقت الراهن على الأقل أمرا غير ذي جدوى، خاصة وأن البلاد تحاول جبر الكسور ولململة الجراح، إلا أن الحديث عن الأخطاء يبدو ملحا من أجل تجاوزها وعدم الوقوع فيها مستقبلا، وبعيدا عن الآراء المتضاربة والمتناقضة التي صدرت عن هذا الطرف أو ذاك فإن الأزمة الدامية التي عاشتها البلاد تكون قد تفاقمت واستفحلت بفعل عدة عوامل نذكر منها :
1. عدم تفطن الفاعلين في السلطة والمعارضة لما قد ينجر عن الصدام والمواجهة بين الطرفين، ولجوء البعض منهم الى التصرفات الانتقامية التي أضرت بالبلاد وكادت تدخلها في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر, فتوقيف المسار الانتخابي يعتبر خطأ تاريخي غير مسبوق قابله خطأ آخر من قبل بعض أجنحة الفيس يتمثل في التورط في أعمال العنف التي استهدفت مؤسسات الدولة وبعض الفئات الشعبية الفقيرة في مختلف المناطق من الجزائر العميقة.
2. الأكيد أن الجزائر كانت ضحية لمؤامرات محبوكة لم يتفطن لها الجميع ونتيجة لهذه المؤامرات فإن الجزائريين كانوا وسائل في أيدي المتحكمين فيها من داخل البلاد وخارجها.
3. لقد عجزت السلطة وجبهة الإنقاذ معا في فرض رؤية واضحة ونتيجة لهذا العجز لجأ الطرفان إلى المواجهة والمقارعة، حتى وصلت المجازر ورائحة حمامات الدم إلى حدودها القصوى، وبعد أكثر من سبع سنوات من المواجهة والإصطراع والعنف الدموي وصلنا إلى أكثر من 100 ألف قتيل ومليون ضحية بين مشرد ومعاق ومفقود وخسارة مادية قدرت بـ 30 مليار دولار، فهل بقي بعد هذا أن لا يعترف الكل بأخطائه ويحاول تصحيحها بعيدا عن التعنت والنرجسية والتهميش والاقصاء.
وحتى نعرف مسؤولية كل طرف في الأحداث نكتفي بشهادة اثنين من الفاعلين في مسار الأحداث وهما اللواء المتقاعد (خالد نزار) وزير دفاع سابق، وكذا (مدني مزراق) زعيم ما كان يسمى بالجيش الإسلامي للإنقاذ.
يقول( خالد نزار) في مذكراته وهو يبرر موقفه وتحمله مسؤولية توقيف المسار الانتخابي رغم ما انجر عن ذلك من نتائج وخيمة : (لقد قررنا عدم التوجه إلى الدور الثاني من التشريعيات منذ الأيام الأولى التي أعقبت الدور الأول من هذه الانتخابات, وكانت الفكرة هي إقناع الرئيس بخطورة الوضع وتقديم الاستقالة، فالبرلمان كان قد أكمل عهدته، وشغور السلطة كان نافذا ولم يكن أمام الجيش أي اختيار آخر غير التكفل بمصير البلاد بعد أن تأكد الرئيس أنه لم تبق أمامه سوى الاستقالة)، بهذه الصراحة يقول رأس الانقلابيين على نظام الشاذلي ولكنه يتكتم على أمور أخرى تبدو خطيرة حينما يقول في موضع آخر : (التزاما بواجب التحفظ فقد فضلت عدم التطرق علنا إلى أحداث كبيرة عاشتها بلادنا خلال تلك الزوبعة التي مرت بها ), فما طبيعة هذه الأحداث وما هي الأسرار التي تكتنفها ؟
نترك خالد نزار لنتوقف عند الشهادة التي أدلى بها ( مدني مزراق) من خلال خطاب ألقي على أتباعه سنة 1994 ونشر بجريدة اليوم الجزائرية في عدد 11 ديسمبر 2000 ومما جاء فيه باختصار : 1- الجهاد بدأ في فيفري 1992 ولماذا فيفري ففي ذلك الوقت كانت القيادة السياسية تجري حوارا لإيجاد مخرج سياسي للأزمة, 2- تكلم عن عباسي مدني وكأنه وريثه الشرعي،3- يشرح مصطلح المطالبة والمغالبة قائلا : المطالبة تعني أن نطالب النظام بتحقيق وتنفيذ أهدافنا المشروعة, والمغالبة تعني إذا وقفوا في طريقنا ومنعونا من إقامة الدولة الإسلامية نجاهدهم كما كنتم تسمعون من شيوخ الجبهة مثل عباسي مدني وغيرهم, 4- الجبهة الإسلامية كانت تهيء الشعب لمثل هذا الموقف، نحن ندخل الانتخابات ونسعى لتحقيق أهدافنا وإذا وقفوا في وجهنا نجاهدهم والحمد لله فإن عباسي مدني كان أعلن قبل اعتقاله قائلا : من حقنا إعلان الجهاد، وكان علي بلحاج يقول : نظفوا أسلحتكم. هذا بعض ما جاء في الخطاب المذكور لمدني مزراق. من هنا يتضح أن المسؤولية مشتركة بين الجميع وأن الزج بالبلاد إلى المآلات الخطيرة هو نتيجة لتعنت كل الأطراف دون أن يحتسبوا العواقب الوخيمة التي انجرت عن هذا التعنت.
نجم الفيس لماذا أفل ؟
لن نجانب الحقيقة إذا قلنا بأن الفيس ليس مجرد حزب ولكن هو ظاهرة اجتماعية حاملة للكثير من الأحلام الدينية والاجتماعية التي كانت تسكن بال الأغلبية من متتبعيه وأنصاره ولكن هذه الظاهرة – كما ذكر لنا أحد الإطارات الذين تربوا في أحضان الحرة الإسلامية رفض ذكر اسمه – كانت دون تأطير سياسي في المستوى الذين تولوا المسؤولية في مختلف المواقع لم يكونوا في مستوى الحدث, وأسباب أفول الفيس – كما أضاف ذات المتحدث – كانت موجودة في طريقة إنشائه والتي تمت لأغراض مجهولة ومشبوهة، ولا يستبعد أن تكون أيادي خارجية قد أثرت على السلطة في الجزائر لتسير الأمور وفق ما سارت عليه، وإذا سلمنا بأن الفيس هو ظاهرة اجتماعية فإنه يمكن تشبيهها بالهزة الأرضية التي تحرك الأشياء وقد تدمرها ولكن سرعان ما تزول مثل باقي الظواهر الطبيعية التي تتسم بالظرفية والمحدودية.
وعندما طرحنا سؤالا على أحد الكوادر الذي كانت تربطه علاقة حميمية مع مختلف رموز الحركة الإسلامية لا سيما تيار الجزأرة المعروف بمتانة بنائه الفكري، لماذا لم يستطع هذا التيار ترشيد العمل السياسي داخل حزب جبهة الإنقاذ وعقلنته أجاب قائلا : ( جماعة البناء الحضاري دخلوا الحزب متأخرين أي بعد الانتخابات البلدية حيث أن كل شيء كان قد انتهى، ورغم معارضة بعض إطارات هذا التيار لهذا الدخول إلا أنه تم ولم يستطيعوا التأثير ويذكر أن هناك تيارات أخرى داخل الفيس أصابها الذعر عندما انضم تيار البناء الحضاري إلى الحزب وعارضته بشدة مما صعب فيما بعد خلق تجانس بين التيارات ووصل الأمر إلى غاية التناحر والتقاتل ).
وخلاصة القول أن ظاهرة الفيس وما اتخذته من مسارات دراماتيكية مؤلمة تحتاج إلى دراسات وكتب، وإذا كانت هذه الظاهرة بإمكانها أن تكون ظاهرة للإسلام الحقيقي فإنها ستعود لا محالة، ولكن ليس بنفس الثوب ولا بنفس الوجوه, أما إذا كانت كظاهرة اجتماعية لأشخاص فليس من الممكن عودتها لأن هؤلاء الأشخاص لم يعودوا يحتملون بعضهم، وآراؤهم ومواقفهم مشتتة حيث فعل بهم الزمن كما فعل الماء بالركام المتروك.
ونختم هذا المقال بمقولة للمتحدث السابق : ( لو كان لجبهة الإنقاذ عقلا مدبرا لفجر القنبلة التي زرعت في قلب الجزائر قبل أوانها أو بعد أوانها أو أنه لفككها دون أضرار), أما وقد تفجرت كما خطط لها زارعوها فنسأل الله اللطف والصون حتى لا نسقط قي مطبات أخرى.