يوم السقيفة الذي اجتمع فيه بعض المهاجرين مع جماعة من الأنصار رضي الله عنهم يوم أغرّ أبلج، مشرق يومه، ومزهر ليله، تمكن فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسقاط إرث الجاهلية وعاداتها وتقاليدها وثقافتها في اختيار سادتها وقادتها وأئمتها، يوم انتصر فيه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشمخت فيه الشورى، وتألق فيه الحوار العلمي الشرعي العملي الهادف المثمر، يوم ظهر فيه الانقياد إلى الدليل الشرعي المنبثق من صفحات الكتاب والسنة، وأُقصي فيه المفهوم القبلي والحزبي والطائفي والإقليمي، وتقدمت فيه الكفاءة المجردة على ما سواها من وسائل الوصول إلى قيادة الأمة، فسقط في يوم السقيفة العرف القائل بأن الامبراطور يلد امبراطوراً وبأن السلطان حكرٌ على أبناء الذوات أو أبناء الطائفة حتى لو كانوا من القاصرين أو العجزة أو المتبذلين، أو ممن تعبث بهم قوى خارجة عن إطار الأمة ومتناقضة مع مصالحها وهويتها وغريبة عن عقيدتها أو محاربة لها، وكل ذلك يثبت رسوخ قيم الرسالة في قلوب الصحابة وأفعالهم ومواقفهم على المستويات كافة، ولا سيما قيم الحوار والشورى والانقياد لنتائجها، مصداقاً لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى: 38).
فيوم السقيفة تجلّت فيه طاقات أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وعميق فهمه، وقدراته القياديه الشورية التحاورية الخارقة، ومكانته الباذخة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رضي الله عنه كان فلتة من فلتات الزمان التي لن يجود بمثلها، في علمه وفهمه، وحلمه ونباهته، وتمسكه بعقيدته، وحرصه على وحدة أمته؛ وعلى وجوب سيرها على منهج نبيها صلى الله عليه وسلم من غير تبديل، فاعتزّ في ذلك اليوم الإسلام وأهله، وذلت فيه الجاهلية وامتداداتها ومراجعها، تأكد ذلك حين انقاد الجميع لحجج خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه القطعية التي لا تقبل تأويلاً ولا تفسيراً، بل كانت بيّنات واضحات وشموس ساطعات، استنار بها المؤمنون، وأعادت بوهج أنوارها التائهين والمترددين إلى صف الأمة وجماعة المسلمين.
فيوم السقيفة أثبت للمسلين أنهم في قيمهم السامية، هم الأرقى والأنقى والأتقى، وفي تعاملهم هم الأوفى والأرحم، وأن منظومتهم الأخلاقية الإسلامية برجالها وقيمها هي الأولى بسياسة الدنيا وقيادة البشرية، وكل ذلك اتضح وتبلور في عصر لا حكم فيه عند قياصرة الصليب وأكاسرة المجوس وغيرهم من عباد الوثن في شؤون الحكم وتداول السلطة إلا للسيف أو المكر والخديعة والمساومات الهابطة التي تجتاح القيم وتُسقط مصالح الشعوب والأمم، وتبتز الضعفاء والأتباع ومن لا ناصر له، لكل هذا ولغيره أصبح يوم السقيفة هدفاً لبهتان أعداء الصحابة ومن يتبنى شبهاتهم وأباطيلهم من المستشرقين العلمانيين، واليهود، والصليبيين، لينزعوا من ميراث أمة الكتاب والسنة، كل ما يؤهلها للسيادة والقيادة ويرفع من شأنها ويشيد بنيانها، مما يوجب على كل مسلم أن يثق بميراث الصحابة رضي الله عنهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن الميراث العسكري في الجهاد والفتوح الذي لا يجهله إلا من في قلبه مرض، وأن يعلم الجميع يقيناً أنّ ذلك الميراث الأشم هو محل القدوة والصدارة لكل ميراث أنتجته حضارة إنسانية على مر العصور.
وكان من شأن السقيفة أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه مريضاً فاجتمع عنده بعض الأنصار رضي الله عنهم وكان من الطبيعي أن يتحدثوا بأمر خلافة النبي صلى الله عليه وسلم وبمن هو الأصلح لذلك والأولى به، فكان ذلك المجلس منتدى عرضت فيه بعض الأفكار والمقترحات التي جرت على ألسنة من تحدث بها، ولم تكن لها أية امتدادات فكرية ولا تجمعات قبلية أو تحالفات حزبية، وإنما أفكار بريئة تؤكد حرص المشاركين فيها على خدمة دينهم ووحدة أمتهم بكل أمانة وشفافية، لكن أعداء الصحابة وإخوانهم المستشرقين اهتبلوا ذلك المجلس وتلك الآراء، ليصنعوا منها وقائع تعبر عما في نفوسهم من أحقاد على هذه الأمة، وأماني يتمنونها في تمزق صفها، وانصرافها عن كتاب ربها وسنّة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى خيب آمالهم وآمانيهم، حين جاء بعض الأنصار إلى عمر الفاروق ليخبره بأن هناك أفكارا تطرح حول خلافة النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، فأخبر عمر أبا بكر الصدّيق رضي الله عنهما فسارا إلى إخوانهم الأنصار فتبعهم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، أما عامة الصحابة فكانوا مشغولين في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان في المسجد يذكر الله تعالى ويستعين بالصبر والصلاة على ما أصاب المسلمين من مصيبة لن يصابوا بمثلها أبدا.
فما إن وصل الصدّيق والفاروق والأمين رضي الله عنهم حتى شاركوا إخوانهم الأنصار فيما كانوا يتحدثون به من أمر الخلافة إذ أنّه أمر لا يمكن إلا التحدث به، ولا يمكن السكوت عنه، سواء طرحه عامة الأنصار أو بعضهم أو غيرهم، فكان ذلك المجلس بركة على أمّة الكتاب والسنّة، وأساساً صلباً لتأصيل أخلاق الشورى والحوار في الأمة، وخيراً ساقه الله إلى المصابين بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث بيّن وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لإخوانهم الأنصار ولأبناء أمتهم أهميّة الخلافة وما سيتبع ذلك من مهام وأعمال، ثم بينوا لهم الأولى والأصلح للأمة شرعاً وسياسة، فما كان من الجميع إلا أن التفّوا حول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي يعلم الجميع أنه هو الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما كان يقوم به من جهاد وسياسة وتدبير لشؤون الأمة، وهو الأدرى بما كان يستشرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يصلح عليها مستقبل أمته، فلم يكن بين الصحابة من يقبل التقدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك أن إشارات الكتاب والسنة جلية بينة لا يمكن لمؤمن تجاوزها.
فيوم السقيفة يوم فريد بين أيام المجد الإسلامي الذي سطره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم تعانق فيه المهاجرون والأنصار يجددون فيه العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخوّة وإيثاراً وصبراً وإبداعاً وجهاداً وعدلاً وفتوحاً ورحمة، يوم سادت فيه قيم الكتاب والسنة في إقرار نظام المحاسبة الشاملة للخليفة وللولاة وخضوع الجميع لدستور الكتاب والسنة، وعلى ذات الطريق التي رسمها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم يؤكدون ذلك لأمتهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم قبل أن يوارى الثرى، لتتساقط في ذلك اليوم الأغر أماني المنافقين، وتتهاوى فيه مخططات المرتدين، وتتقاصر فيه تطلعات اليهود والصليبيين، وتُسحق فيه تدابير المجوس الحاقدين الذين انقلبوا من بين النّاس إلى أعداء باطنية، ومنظمات سبئية، وضغائن شعوبية، وأدوات جاسوسية، وعقائد قبورية، وتحالفات عدوانية، لا همّ لها سوى الكيد والمكر بأمّة الكتاب والسنّة النبوية! جاحدين أيادي العرب المؤمنين الفاتحين الذين حرروهم من طغيان الأكاسرة، وأخرجوهم إلى عدل الخلافة الراشدة، ومن وثنية عبادة النار، إلى نور التوحيد والإخلاص لله رب العالمين، ومن الإباحية والمشاعية الأخلاقية التي كانوا عليها، إلى العفاف والطهر والمودة والرحمة، فكافؤوا من أنقذهم من تلك الظلمات والموبقات، بالغدر والاغتيال، والإفك والبهتان، فضلاً عن التزييف والتشويه لجهادهم وعدلهم ونبل معدنهم الذي تعاملوا به معهم، فأعداء الشورى التي أُنجزت يوم السقيفة، ومبغضو رجالها البررة، كانوا ولا زالوا أكثر الناس جحوداً ونكراناً للجميل والمعروف ولحقوق الجوار، وألدهم عداوة لمن أحسن إليهم من أمة الكتاب والسنة.
فلما كان أعداء الصحابة وبجميع أصنافهم يعلمون جيداً أنّ يوم السقيفة بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم إنما هو يوم من أيام أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، شنّوا عليه حملات الإفك والبهتان والتزييف والنكران! لكنهم اصطدموا بما له رضي الله عنه من مكانة أسس لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلته في قلوب المؤمنين وفي ضمائر الموحدين، فلم يدع النّبي صلى الله عليه وسلم مناسبة ذات شأن تمر بالمسلمين إلا وأكد على تقديم صاحبه الصدّيق رضي الله عنه فيها؛ تارة بالتطبيق كما في تأميره على الحج، وفي تقديمه إماماً للصلاة بالأمة وبحضور أئمة الصحابة وقادتهم ورجال آل البيت وسادتهم، وفي مقدمتهم العباس وعلي رضي الله عن الآل والصحب جميعاً، وتارة أخرى بالقول أو الإشارة إلى ذلك بعلامات واضحة ثابتة، كما هو في الصحيحين والسنن، وبما لا يمكن لجاحد ردها، ولا لمؤمنن الجهل بها.
ظهر ذلك في عامة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عمّا ورد من إشارات على ذلك في القرآن الكريم، لهذا فلا تردد في تقديم أبي بكر رضي الله عنه على سائر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تهاون في البراءة ممن يرفض خلافته في الماضي والحاضر، بل إنّ أي تهاون أو تردد في ذلك إنما هو قبول بنقض إقرار وخيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ لإجماع المهاجرين والأنصار، وهدم لبناء الأمة في عصور خيريتها التي لا زالت هي الأساس الذي يجب أن يشيد عليه اللاحقون في المعتقد والفكر والهوية، فلا يرفض نتائج الشورى يوم السقيفة إلا مرتد أو من في قلبه مرض، أو ضال تائه لا قيمة لأقواله ولا لمواقفه في موازين العقيدة والقيم، فمسألة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا تقبل نقاشاً ولا حواراً فهي من المسلّمات التي تلقتها أمّة الكتاب والسنّة بالقبول والتسليم والرضا، والحمد لها ولكل ما تمخض عنها من قرارات حاسمة ونتائج مفعمة بالعطاء والسداد والتوفيق، فلم يخرج على تلك الخلافة الراشدة إلا مسيلمة الكذاب ومن وافقه من المرتدين والمنافقين، وهذا يؤكد وجوب الحذر ممن يدعو إلى إخضاع مثل هذه المسلمات للآراء القاصرة، أو للروايات الفاسدة المبنية على نوايا ومقاصد سيئة، ظهرت في معتقدات وثقافة في مثل متاهات التقريب المخادعة، التي يعمل أدواتها على تقزيم السنّة النبوية ورجالها الأفذاذ، وتضخيم وإقرار البدع السبئية وأقزامها الأشرار، والتطاول على خيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم من أمّة النّبي المختار صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). وللحديث صلة.
مكان سقيفة بني ساعدة ومكانتها
قال الجوهري: السقيفة الصُفّة، ومنه سقيفة بني ساعدة، وقال أبو منصور: السقيفة كلّ بناء سقف به صُفة؛ أو شبه صُفة، مما يكون بارزاً، ألزم هذا الاسم؛ للتفرقة بين الأشياء، وأما بنو ساعدة الذين أضيفت إليهم السقيفة؛ فهم حيٌّ من الأنصار وهم بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو[1].
وقرية بني ساعدة عند بئر بُضاعة، والبئرُ وسط بيوتهم، وشمالي البئر اليوم إلى جهة المغرب بقية أُطم "حصن" يقال: إنّه من دار أبي دجانة رضي الله عنه الصغرى التي عند بئر بضاعة ... وليست الناحية معروفة اليوم[2]، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم بصق فيها ودعا لها، وهذه البئر كانت لبني ساعدة وهم من الخزرج، قال المرجاني في تاريخه: والظاهر أنّ بُضاعة رجل أو امرأة تنسب إليه البئر، وكان موضعها ممر السيول فتكمح الأقذار من الطرق إليها، لكن الماء لكثرته لا يؤثر ذلك فيه، قال أبو داود في السنن: سألت قيّم بئر بضاعة عن عُمقها، فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء ؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص. قال: دون العورة. قال أبو داود: قد ذرعتُ بئر بُضاعة برداء مددته عليها، ثم ذرعته فإذا عرضه ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماءً متغير اللون[3]. قال: ابن العربي: وهي في وسط السبخة، فماؤها يكون مُتغيراً من قرارها. قال المُحبّ بن النجار: وماؤها عذب طيب، صاف أبيض، وريحه كذلك، ويُستقى منها كثيراً، قال: وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعاً وشبراً، منها ذراعان راجحة ماء؛ والباقي بناء، وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود، قال الجمال المطري: وهي اليوم في ناحية حديقة شمالي سور المدينة وغربي بئر بيرحاء إلى جهة الشمال، يستقي منها أهل الحديقة، والحديقة في قبلة البئر ويستقي منها أهل حديقة أخرى شمالي البئر، والبئر وسط بينهما[4].
وكان أحد منازل بني ساعدة شرقي سوق المدينة، والسوق كان مقابرهم، وأنّ جرار سعد التي كان يُسقى فيها الماء – عن روح والدته بعد وفاتها - سدها جهة الشام، وبها منزل رهطه، وأنّه كان في دار السوق من المشرق لبني ساعدة طريق مبوبة، فهذا المسجد كان في هذه الناحية، والسقيفة كانت قرب شامي سوق المدينة، وغلط رُزين فقال: إنها بقباء "مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة" ولابن شبة بن سعد بن إسحاق أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة أي بمنزلهم الآخر شامي جرار سعد، قرب ذباب[5] وذباب جبل في المدينة[6].
وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يجلس ـ أحياناً ـ في سقيفة بني ساعدة التي عند المسجد هو وأصحابه رضي الله عنهم، كما هو مذكور في الصحيح في حديث الجوينية، قال سَهْل بن سعد رضي الله عنه: (ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ - حصن - بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا؛ فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَت: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْك، فَقَال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي"، فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَت: لا، قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَت: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِنَا يَا سَهْلُ"، فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ)[7].
فيتبين من هذا أنّ سقيفة بني ساعدة كانت معروفة للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يرتادونها ويجلسون فيها، ويتحدثون ويتشاورون ويطعمون ويشربون، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً ـ كان يجلس فيها، فهي مكان كريم عند المسلمين، وصاحب السقيفة سعد بن عبادة رضي الله عنه جُبِلَ على خدمة المسلمين وإكرامهم، فالجلوس في السقيفة ليس بدعة، واللقاء فيها ـ وعلى أوسع نطاق ـ؛ معتاد معلوم مشهود، يَسرُ المؤمنين ويسعدُهم، ويغيظ المنافقين ويفضحهم، وبالتالي فلقاء الأنصار في السقيفة، كان أمراً معتاداً وليس فيه أيّ شبهة؛ كما يريد أن يصور ذلك المغرضون، فدار بني ساعدة وسقيفتهم من خيار دور الأنصار، والجلوس فيها لم يأت على المسلمين إلا بالخير، فعن أبي أسيد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو عبد الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة؛ وفي كلّ دور الأنصار خيرٌ)[8].
ونظراً لهذه المكانة والشهرة التي تتمتع بها سقيفة بني ساعدة عند المسلمين؛ عمل أعداء الوحدة والعقيدة على نزع تلك المكانة السامية، وتصوير الأمور على غير حقيقتها، حتى قادهم ذلك إلى الطعن في عامّة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين أنجزوا بيعة السقيفة؛ التي أثمرت وحدة الأمة وسلامة عقيدتها، واتهامهم ـ حاشاهم رضي الله عنهم ـ بالتآمر والتحزب والتشاجر، وما شابه ذلك من أباطيل؛ تُعبّر في حقيقتها عمّا في نفوس خصوم الصحابة من أماني فاسدة وأحقاد كامنة، وتؤكد إفلاس مشاريعهم العدوانية، وإحباط خططهم الباطنية، وإلا كيف يبغضون الوحدة واجتماع الأمّة وانقيادها لخليفة نبيها صلى الله عليه وسلم الذي أسس لمبدأ محاسبة الحاكم، وأن لا يمتاز عن غيره من أبناء رعيته، وأن يشاركهم حياتهم في كلّ ألوانها؟ وهذا ما أغضب أعداء الخلافة الراشدة ممن يصنع بأحقاده مراجع وهمية لمنافسة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، الذين حققوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يد الله مع الجماعة، والفذ مع الشيطان، وإنّ الحقّ أصل في الجنة، وإن الباطل أصل في النار، ألا وإنّ أصحابي خياركم فأكرموهم، ثم القَرنَ الذين يَلُونهم، ثم القَرنَ الذين يَلُونهم، ثم يظهر الكذب والهرج )[9]، وهذا موافق لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)[10]. وعن عرفجة بن شريح الأشجعي قال: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يُريد أن يفرِّق بين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم جميع، فاقتلوه كائناً من كان، فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يرتكض )[11]؛ فهل هناك من هو أخطر على الأمة ممن ينشر ثقافة الكراهية ضد أئمة الشورى والحوار والوحدة ؟ فهذه النصوص تبين أنّ الذين رفضوا خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ فارقوا الجماعة وارتكسوا مع الشيطان، ولا زالت فِرقهم الهدّامة تعملُ على تفريق الأمّة وتسعير الفتن بين أبنائها، وتُشرّع التعاون مع أعدائها، كما أن العمل بهدي مثل هذه النصوص يفرض على كلّ مسلم أن يكون حازماً حاسماً في العمل على مواجهة هذا الشرّ المتلون المتمدد المتجدد، وفضح وسائله وأداواته التي تعمل على تمزيق وحدة المسلمين، وتهديد أخوتهم وسلامة عقيدتهم، ونسف إنجازات المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين مارسوا الشورى والحوار على أجمل وجه وأكمله، وحققوا الوحدة وحفظوا السُّنّة، وأسسوا لأوسع مشروع حضاري في الفتوح ونشر الإسلام بعدله وعالميته ورحمته، فأثلجوا صدور الموحدين وأقرّوا عيون الصالحين، بقيادة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، الذي كانت مكانته معلومة سامية عند الصحابة رضي الله عنهم، كما كان مكان السقيفة معروفاً عندهم، وذلك أنهم عايشوا وسمعوا وشاهدوا تقديم النّبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، وإشراكه له في إدارة الأحداث وصناعة مستقبل المسلمين، فضلاً عمّا عندهم من نصوص تؤكد تلك المكانة وتدعو إلى نصرتها واتباعها؛ وطاعتها التي تسرّ الصالحين وتغيظ أعداء الصحابة الذين أعلنوا الحرب على قادة الأمّة وإنجازاتهم المباركة، وعملوا على التشكيك بمصداقيتهم وإخلاصهم، كلّ ذلك لصرف الناس عن دين الكتاب والسُّنة!! إلا أنّ الناظر في النصوص والمواقف التي أسبغها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خليفته الصدّيق رضي الله عنه تجعل كلّ من يخالف إنجازات يوم السقيفة، أو يشكك فيها، أو يرفض خلافة أبي بكر رضي الله عنه، أو يتعاون مع الخارجين عليها تحت أي ذريعة كانت؛ تجعله في قفص الاتهام متعاوناً مع المرتدين، ومتواطئاً مع الغزاة والمحتلين، الذين لا زالت الأحداث تثبت أنّهم في خندق واحد؛ يستهدفون أمن الأمة وهويتها، وإنْ تعددت غاياتهم ومنابرهم؛ أو تلونت راياتهم ووسائلهم.
[1] - ياقوت الحموي، معجم البلدان ، 3/229.
[2] - ابن الضياء المكي، تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، تحقيق: علاء إبراهيم ، أيمن نصر، ص371.
[3] - سنن أبي داود: ح (61).
[4] - تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف: 345.
[5] - السمهودي: الوفا بأخبار دار المصطفى، 1/249. وعن ذباب ينظر ابن شبة: تاريخ المدينة، 1/41.
[6] - الزمخشري: الجبال والأمكنة والمياه، موقع الوراق، 10.
[7] - صحيح البخاري، (5206).
[8] - صحيح البخاري، ( 3505 ).
[9] - الطبراني: المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، ح (6405) قالا: "لا يروى هذا الحديث عن مالك الأشتر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمرو بن خالد".
[10] - صحيح البخاري، (2458) صحيح مسلم، ( 4600).
[11] - ابن حبان، ح (4577). وينظر الألباني: صحيح وضعيف سنن الترمذي، (2166) وصححه.
فيوم السقيفة تجلّت فيه طاقات أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وعميق فهمه، وقدراته القياديه الشورية التحاورية الخارقة، ومكانته الباذخة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رضي الله عنه كان فلتة من فلتات الزمان التي لن يجود بمثلها، في علمه وفهمه، وحلمه ونباهته، وتمسكه بعقيدته، وحرصه على وحدة أمته؛ وعلى وجوب سيرها على منهج نبيها صلى الله عليه وسلم من غير تبديل، فاعتزّ في ذلك اليوم الإسلام وأهله، وذلت فيه الجاهلية وامتداداتها ومراجعها، تأكد ذلك حين انقاد الجميع لحجج خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه القطعية التي لا تقبل تأويلاً ولا تفسيراً، بل كانت بيّنات واضحات وشموس ساطعات، استنار بها المؤمنون، وأعادت بوهج أنوارها التائهين والمترددين إلى صف الأمة وجماعة المسلمين.
فيوم السقيفة أثبت للمسلين أنهم في قيمهم السامية، هم الأرقى والأنقى والأتقى، وفي تعاملهم هم الأوفى والأرحم، وأن منظومتهم الأخلاقية الإسلامية برجالها وقيمها هي الأولى بسياسة الدنيا وقيادة البشرية، وكل ذلك اتضح وتبلور في عصر لا حكم فيه عند قياصرة الصليب وأكاسرة المجوس وغيرهم من عباد الوثن في شؤون الحكم وتداول السلطة إلا للسيف أو المكر والخديعة والمساومات الهابطة التي تجتاح القيم وتُسقط مصالح الشعوب والأمم، وتبتز الضعفاء والأتباع ومن لا ناصر له، لكل هذا ولغيره أصبح يوم السقيفة هدفاً لبهتان أعداء الصحابة ومن يتبنى شبهاتهم وأباطيلهم من المستشرقين العلمانيين، واليهود، والصليبيين، لينزعوا من ميراث أمة الكتاب والسنة، كل ما يؤهلها للسيادة والقيادة ويرفع من شأنها ويشيد بنيانها، مما يوجب على كل مسلم أن يثق بميراث الصحابة رضي الله عنهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن الميراث العسكري في الجهاد والفتوح الذي لا يجهله إلا من في قلبه مرض، وأن يعلم الجميع يقيناً أنّ ذلك الميراث الأشم هو محل القدوة والصدارة لكل ميراث أنتجته حضارة إنسانية على مر العصور.
وكان من شأن السقيفة أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان سعد بن عبادة سيد الخزرج رضي الله عنه مريضاً فاجتمع عنده بعض الأنصار رضي الله عنهم وكان من الطبيعي أن يتحدثوا بأمر خلافة النبي صلى الله عليه وسلم وبمن هو الأصلح لذلك والأولى به، فكان ذلك المجلس منتدى عرضت فيه بعض الأفكار والمقترحات التي جرت على ألسنة من تحدث بها، ولم تكن لها أية امتدادات فكرية ولا تجمعات قبلية أو تحالفات حزبية، وإنما أفكار بريئة تؤكد حرص المشاركين فيها على خدمة دينهم ووحدة أمتهم بكل أمانة وشفافية، لكن أعداء الصحابة وإخوانهم المستشرقين اهتبلوا ذلك المجلس وتلك الآراء، ليصنعوا منها وقائع تعبر عما في نفوسهم من أحقاد على هذه الأمة، وأماني يتمنونها في تمزق صفها، وانصرافها عن كتاب ربها وسنّة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن الله تعالى خيب آمالهم وآمانيهم، حين جاء بعض الأنصار إلى عمر الفاروق ليخبره بأن هناك أفكارا تطرح حول خلافة النبي صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، فأخبر عمر أبا بكر الصدّيق رضي الله عنهما فسارا إلى إخوانهم الأنصار فتبعهم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، أما عامة الصحابة فكانوا مشغولين في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان في المسجد يذكر الله تعالى ويستعين بالصبر والصلاة على ما أصاب المسلمين من مصيبة لن يصابوا بمثلها أبدا.
فما إن وصل الصدّيق والفاروق والأمين رضي الله عنهم حتى شاركوا إخوانهم الأنصار فيما كانوا يتحدثون به من أمر الخلافة إذ أنّه أمر لا يمكن إلا التحدث به، ولا يمكن السكوت عنه، سواء طرحه عامة الأنصار أو بعضهم أو غيرهم، فكان ذلك المجلس بركة على أمّة الكتاب والسنّة، وأساساً صلباً لتأصيل أخلاق الشورى والحوار في الأمة، وخيراً ساقه الله إلى المصابين بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث بيّن وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لإخوانهم الأنصار ولأبناء أمتهم أهميّة الخلافة وما سيتبع ذلك من مهام وأعمال، ثم بينوا لهم الأولى والأصلح للأمة شرعاً وسياسة، فما كان من الجميع إلا أن التفّوا حول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي يعلم الجميع أنه هو الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما كان يقوم به من جهاد وسياسة وتدبير لشؤون الأمة، وهو الأدرى بما كان يستشرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يصلح عليها مستقبل أمته، فلم يكن بين الصحابة من يقبل التقدم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذلك أن إشارات الكتاب والسنة جلية بينة لا يمكن لمؤمن تجاوزها.
فيوم السقيفة يوم فريد بين أيام المجد الإسلامي الذي سطره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم تعانق فيه المهاجرون والأنصار يجددون فيه العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخوّة وإيثاراً وصبراً وإبداعاً وجهاداً وعدلاً وفتوحاً ورحمة، يوم سادت فيه قيم الكتاب والسنة في إقرار نظام المحاسبة الشاملة للخليفة وللولاة وخضوع الجميع لدستور الكتاب والسنة، وعلى ذات الطريق التي رسمها لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم يؤكدون ذلك لأمتهم ولنبيهم صلى الله عليه وسلم قبل أن يوارى الثرى، لتتساقط في ذلك اليوم الأغر أماني المنافقين، وتتهاوى فيه مخططات المرتدين، وتتقاصر فيه تطلعات اليهود والصليبيين، وتُسحق فيه تدابير المجوس الحاقدين الذين انقلبوا من بين النّاس إلى أعداء باطنية، ومنظمات سبئية، وضغائن شعوبية، وأدوات جاسوسية، وعقائد قبورية، وتحالفات عدوانية، لا همّ لها سوى الكيد والمكر بأمّة الكتاب والسنّة النبوية! جاحدين أيادي العرب المؤمنين الفاتحين الذين حرروهم من طغيان الأكاسرة، وأخرجوهم إلى عدل الخلافة الراشدة، ومن وثنية عبادة النار، إلى نور التوحيد والإخلاص لله رب العالمين، ومن الإباحية والمشاعية الأخلاقية التي كانوا عليها، إلى العفاف والطهر والمودة والرحمة، فكافؤوا من أنقذهم من تلك الظلمات والموبقات، بالغدر والاغتيال، والإفك والبهتان، فضلاً عن التزييف والتشويه لجهادهم وعدلهم ونبل معدنهم الذي تعاملوا به معهم، فأعداء الشورى التي أُنجزت يوم السقيفة، ومبغضو رجالها البررة، كانوا ولا زالوا أكثر الناس جحوداً ونكراناً للجميل والمعروف ولحقوق الجوار، وألدهم عداوة لمن أحسن إليهم من أمة الكتاب والسنة.
فلما كان أعداء الصحابة وبجميع أصنافهم يعلمون جيداً أنّ يوم السقيفة بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم إنما هو يوم من أيام أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، شنّوا عليه حملات الإفك والبهتان والتزييف والنكران! لكنهم اصطدموا بما له رضي الله عنه من مكانة أسس لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعلته في قلوب المؤمنين وفي ضمائر الموحدين، فلم يدع النّبي صلى الله عليه وسلم مناسبة ذات شأن تمر بالمسلمين إلا وأكد على تقديم صاحبه الصدّيق رضي الله عنه فيها؛ تارة بالتطبيق كما في تأميره على الحج، وفي تقديمه إماماً للصلاة بالأمة وبحضور أئمة الصحابة وقادتهم ورجال آل البيت وسادتهم، وفي مقدمتهم العباس وعلي رضي الله عن الآل والصحب جميعاً، وتارة أخرى بالقول أو الإشارة إلى ذلك بعلامات واضحة ثابتة، كما هو في الصحيحين والسنن، وبما لا يمكن لجاحد ردها، ولا لمؤمنن الجهل بها.
ظهر ذلك في عامة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عمّا ورد من إشارات على ذلك في القرآن الكريم، لهذا فلا تردد في تقديم أبي بكر رضي الله عنه على سائر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تهاون في البراءة ممن يرفض خلافته في الماضي والحاضر، بل إنّ أي تهاون أو تردد في ذلك إنما هو قبول بنقض إقرار وخيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ لإجماع المهاجرين والأنصار، وهدم لبناء الأمة في عصور خيريتها التي لا زالت هي الأساس الذي يجب أن يشيد عليه اللاحقون في المعتقد والفكر والهوية، فلا يرفض نتائج الشورى يوم السقيفة إلا مرتد أو من في قلبه مرض، أو ضال تائه لا قيمة لأقواله ولا لمواقفه في موازين العقيدة والقيم، فمسألة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا تقبل نقاشاً ولا حواراً فهي من المسلّمات التي تلقتها أمّة الكتاب والسنّة بالقبول والتسليم والرضا، والحمد لها ولكل ما تمخض عنها من قرارات حاسمة ونتائج مفعمة بالعطاء والسداد والتوفيق، فلم يخرج على تلك الخلافة الراشدة إلا مسيلمة الكذاب ومن وافقه من المرتدين والمنافقين، وهذا يؤكد وجوب الحذر ممن يدعو إلى إخضاع مثل هذه المسلمات للآراء القاصرة، أو للروايات الفاسدة المبنية على نوايا ومقاصد سيئة، ظهرت في معتقدات وثقافة في مثل متاهات التقريب المخادعة، التي يعمل أدواتها على تقزيم السنّة النبوية ورجالها الأفذاذ، وتضخيم وإقرار البدع السبئية وأقزامها الأشرار، والتطاول على خيار رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم من أمّة النّبي المختار صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). وللحديث صلة.
مكان سقيفة بني ساعدة ومكانتها
قال الجوهري: السقيفة الصُفّة، ومنه سقيفة بني ساعدة، وقال أبو منصور: السقيفة كلّ بناء سقف به صُفة؛ أو شبه صُفة، مما يكون بارزاً، ألزم هذا الاسم؛ للتفرقة بين الأشياء، وأما بنو ساعدة الذين أضيفت إليهم السقيفة؛ فهم حيٌّ من الأنصار وهم بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج ابن حارثة بن ثعلبة بن عمرو[1].
وقرية بني ساعدة عند بئر بُضاعة، والبئرُ وسط بيوتهم، وشمالي البئر اليوم إلى جهة المغرب بقية أُطم "حصن" يقال: إنّه من دار أبي دجانة رضي الله عنه الصغرى التي عند بئر بضاعة ... وليست الناحية معروفة اليوم[2]، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم بصق فيها ودعا لها، وهذه البئر كانت لبني ساعدة وهم من الخزرج، قال المرجاني في تاريخه: والظاهر أنّ بُضاعة رجل أو امرأة تنسب إليه البئر، وكان موضعها ممر السيول فتكمح الأقذار من الطرق إليها، لكن الماء لكثرته لا يؤثر ذلك فيه، قال أبو داود في السنن: سألت قيّم بئر بضاعة عن عُمقها، فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء ؟ قال: إلى العانة. قلت: فإذا نقص. قال: دون العورة. قال أبو داود: قد ذرعتُ بئر بُضاعة برداء مددته عليها، ثم ذرعته فإذا عرضه ستة أذرع، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماءً متغير اللون[3]. قال: ابن العربي: وهي في وسط السبخة، فماؤها يكون مُتغيراً من قرارها. قال المُحبّ بن النجار: وماؤها عذب طيب، صاف أبيض، وريحه كذلك، ويُستقى منها كثيراً، قال: وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعاً وشبراً، منها ذراعان راجحة ماء؛ والباقي بناء، وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود، قال الجمال المطري: وهي اليوم في ناحية حديقة شمالي سور المدينة وغربي بئر بيرحاء إلى جهة الشمال، يستقي منها أهل الحديقة، والحديقة في قبلة البئر ويستقي منها أهل حديقة أخرى شمالي البئر، والبئر وسط بينهما[4].
وكان أحد منازل بني ساعدة شرقي سوق المدينة، والسوق كان مقابرهم، وأنّ جرار سعد التي كان يُسقى فيها الماء – عن روح والدته بعد وفاتها - سدها جهة الشام، وبها منزل رهطه، وأنّه كان في دار السوق من المشرق لبني ساعدة طريق مبوبة، فهذا المسجد كان في هذه الناحية، والسقيفة كانت قرب شامي سوق المدينة، وغلط رُزين فقال: إنها بقباء "مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة" ولابن شبة بن سعد بن إسحاق أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة أي بمنزلهم الآخر شامي جرار سعد، قرب ذباب[5] وذباب جبل في المدينة[6].
وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يجلس ـ أحياناً ـ في سقيفة بني ساعدة التي عند المسجد هو وأصحابه رضي الله عنهم، كما هو مذكور في الصحيح في حديث الجوينية، قال سَهْل بن سعد رضي الله عنه: (ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ - حصن - بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا؛ فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَت: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْك، فَقَال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي"، فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَت: لا، قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَت: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اسْقِنَا يَا سَهْلُ"، فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ)[7].
فيتبين من هذا أنّ سقيفة بني ساعدة كانت معروفة للصحابة رضي الله عنهم، وكانوا يرتادونها ويجلسون فيها، ويتحدثون ويتشاورون ويطعمون ويشربون، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أيضاً ـ كان يجلس فيها، فهي مكان كريم عند المسلمين، وصاحب السقيفة سعد بن عبادة رضي الله عنه جُبِلَ على خدمة المسلمين وإكرامهم، فالجلوس في السقيفة ليس بدعة، واللقاء فيها ـ وعلى أوسع نطاق ـ؛ معتاد معلوم مشهود، يَسرُ المؤمنين ويسعدُهم، ويغيظ المنافقين ويفضحهم، وبالتالي فلقاء الأنصار في السقيفة، كان أمراً معتاداً وليس فيه أيّ شبهة؛ كما يريد أن يصور ذلك المغرضون، فدار بني ساعدة وسقيفتهم من خيار دور الأنصار، والجلوس فيها لم يأت على المسلمين إلا بالخير، فعن أبي أسيد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو عبد الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة؛ وفي كلّ دور الأنصار خيرٌ)[8].
ونظراً لهذه المكانة والشهرة التي تتمتع بها سقيفة بني ساعدة عند المسلمين؛ عمل أعداء الوحدة والعقيدة على نزع تلك المكانة السامية، وتصوير الأمور على غير حقيقتها، حتى قادهم ذلك إلى الطعن في عامّة المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين أنجزوا بيعة السقيفة؛ التي أثمرت وحدة الأمة وسلامة عقيدتها، واتهامهم ـ حاشاهم رضي الله عنهم ـ بالتآمر والتحزب والتشاجر، وما شابه ذلك من أباطيل؛ تُعبّر في حقيقتها عمّا في نفوس خصوم الصحابة من أماني فاسدة وأحقاد كامنة، وتؤكد إفلاس مشاريعهم العدوانية، وإحباط خططهم الباطنية، وإلا كيف يبغضون الوحدة واجتماع الأمّة وانقيادها لخليفة نبيها صلى الله عليه وسلم الذي أسس لمبدأ محاسبة الحاكم، وأن لا يمتاز عن غيره من أبناء رعيته، وأن يشاركهم حياتهم في كلّ ألوانها؟ وهذا ما أغضب أعداء الخلافة الراشدة ممن يصنع بأحقاده مراجع وهمية لمنافسة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، الذين حققوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يد الله مع الجماعة، والفذ مع الشيطان، وإنّ الحقّ أصل في الجنة، وإن الباطل أصل في النار، ألا وإنّ أصحابي خياركم فأكرموهم، ثم القَرنَ الذين يَلُونهم، ثم القَرنَ الذين يَلُونهم، ثم يظهر الكذب والهرج )[9]، وهذا موافق لما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)[10]. وعن عرفجة بن شريح الأشجعي قال: سمعت النّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يُريد أن يفرِّق بين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم جميع، فاقتلوه كائناً من كان، فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يرتكض )[11]؛ فهل هناك من هو أخطر على الأمة ممن ينشر ثقافة الكراهية ضد أئمة الشورى والحوار والوحدة ؟ فهذه النصوص تبين أنّ الذين رفضوا خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ فارقوا الجماعة وارتكسوا مع الشيطان، ولا زالت فِرقهم الهدّامة تعملُ على تفريق الأمّة وتسعير الفتن بين أبنائها، وتُشرّع التعاون مع أعدائها، كما أن العمل بهدي مثل هذه النصوص يفرض على كلّ مسلم أن يكون حازماً حاسماً في العمل على مواجهة هذا الشرّ المتلون المتمدد المتجدد، وفضح وسائله وأداواته التي تعمل على تمزيق وحدة المسلمين، وتهديد أخوتهم وسلامة عقيدتهم، ونسف إنجازات المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم الذين مارسوا الشورى والحوار على أجمل وجه وأكمله، وحققوا الوحدة وحفظوا السُّنّة، وأسسوا لأوسع مشروع حضاري في الفتوح ونشر الإسلام بعدله وعالميته ورحمته، فأثلجوا صدور الموحدين وأقرّوا عيون الصالحين، بقيادة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، الذي كانت مكانته معلومة سامية عند الصحابة رضي الله عنهم، كما كان مكان السقيفة معروفاً عندهم، وذلك أنهم عايشوا وسمعوا وشاهدوا تقديم النّبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، وإشراكه له في إدارة الأحداث وصناعة مستقبل المسلمين، فضلاً عمّا عندهم من نصوص تؤكد تلك المكانة وتدعو إلى نصرتها واتباعها؛ وطاعتها التي تسرّ الصالحين وتغيظ أعداء الصحابة الذين أعلنوا الحرب على قادة الأمّة وإنجازاتهم المباركة، وعملوا على التشكيك بمصداقيتهم وإخلاصهم، كلّ ذلك لصرف الناس عن دين الكتاب والسُّنة!! إلا أنّ الناظر في النصوص والمواقف التي أسبغها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خليفته الصدّيق رضي الله عنه تجعل كلّ من يخالف إنجازات يوم السقيفة، أو يشكك فيها، أو يرفض خلافة أبي بكر رضي الله عنه، أو يتعاون مع الخارجين عليها تحت أي ذريعة كانت؛ تجعله في قفص الاتهام متعاوناً مع المرتدين، ومتواطئاً مع الغزاة والمحتلين، الذين لا زالت الأحداث تثبت أنّهم في خندق واحد؛ يستهدفون أمن الأمة وهويتها، وإنْ تعددت غاياتهم ومنابرهم؛ أو تلونت راياتهم ووسائلهم.
[1] - ياقوت الحموي، معجم البلدان ، 3/229.
[2] - ابن الضياء المكي، تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، تحقيق: علاء إبراهيم ، أيمن نصر، ص371.
[3] - سنن أبي داود: ح (61).
[4] - تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف: 345.
[5] - السمهودي: الوفا بأخبار دار المصطفى، 1/249. وعن ذباب ينظر ابن شبة: تاريخ المدينة، 1/41.
[6] - الزمخشري: الجبال والأمكنة والمياه، موقع الوراق، 10.
[7] - صحيح البخاري، (5206).
[8] - صحيح البخاري، ( 3505 ).
[9] - الطبراني: المعجم الأوسط، تحقيق: طارق بن عوض الله، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، ح (6405) قالا: "لا يروى هذا الحديث عن مالك الأشتر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عمرو بن خالد".
[10] - صحيح البخاري، (2458) صحيح مسلم، ( 4600).
[11] - ابن حبان، ح (4577). وينظر الألباني: صحيح وضعيف سنن الترمذي، (2166) وصححه.